ملخص: ربما كنت ممن يزين غرفته بصور لأصدقاء أو مناسبات من أيام الزمن الجميل، أو ربما تحب سماع الأغنيات التي كنت تستمتع إليها في مراهقتك، أو حتى ترتبط رائحة عطر مميز بزمن مضى لم تحمل فيه هموماً تُذكر مقارنة بما تمر به الآن. إنه الحنين؛ آلة الزمن التي تُمكننا من خلالها إعادة أنفسنا إلى أوقات أكثر سعادة. لكن عندما يجعلنا الحنين ننفصل عن الواقع لنحيا على أطلال الماضي، فإنه يتحول إلى اكتئاب الحنين؛ وهو مشكلة نفسية لا بد من إيجاد الحلول لها، وهو ما سنتعرف إليه في هذا المقال، فتابع معنا.
محتويات المقال
عام 1966، وخلال زيارة للشاعر السوري الراحل نزار قباني لقصر الحمراء في إسبانيا، أيقظت معالم القصر شوق الشاعر لمنزله الدمشقي، بنافورته الذهبية التي تتوسطه كما سائر منازل دمشق، فكتب معبراً عن حنينه:
وجه دمشقي رأيت خلاله
أجفان بلقيس وجيد سعاد
ورأيت منزلنا القديم وحجرة
كانت بها أمي تمد وسادي
والياسمينة رصّعت بنجومها
والبركة الذهبية الإنشاد
ربما أيقظت فيك تلك الكلمات أيضاً حنيناً لماضيك، فهذا ما نحن عليه؛ مخلوقات معجونة من حنين دفين، تُعيده الملامح أو التفاصيل إلى الحياة مرة أخرى، سواء كان ذلك في صور فوتوغرافية، أو سماع أغنية قديمة، أو عطر أول شخص وقعت في حبه.
ولكن، يمكن أن يؤثر الحنين إلى الماضي في حالتك النفسية والطريقة التي تشعر بها تجاه حياتك الحالية، فبعض الناس ينجذبون إلى الماضي كما ينجذب الفَراش إلى لهب النار. إنهم عالقون في الماضي؛ يتوقون إلى الأيام الخوالي ويقاومون تغيرات الحاضر.
يُطلق علماء النفس على ذلك "اكتئاب الحنين" أو "النوستالجيا"؛ أي التوق إلى زمن مضى ولن يعود أبداً. فلماذا يفضل بعض الناس العيش في الماضي؟ وما عواقب اكتئاب الحنين؟ وكيف يمكن التغلب عليها واحتضان الحاضر؟
النوستالجيا: مرض أم عاطفة؟
ورد أول ذكر لمصطلح "النوستالجيا" أو "الحنين" في القرن السابع عشر، عندما وصف الطبيب السويسري يوهانس هوفر (Johannes Hofer)، معاناة المرتزقة السويسريين بعيداً عن منازلهم، وحنينهم إلى وطنهم إلى درجة أنهم لم يعانوا ذهنياً فحسب؛ بل أصيبوا أيضاً بأمراض جسدية. حيث رصد هوفر أعراضاً مثل التفكير الوسواسي في المنزل، ونوبات البكاء، والقلق، وخفقان القلب، وفقدان الشهية، والأرق.
يتكون المصطلح من كلمتين يونانيتين قديمتين: "nostos" وتعني "العودة إلى الوطن"، و"algos" وتعني "الألم"؛ أي ألم الشوق للوطن.
وفي أوائل القرن العشرين، اقترن الحنين بإصابة الفرد بالكآبة والحزن، والانفصال عن متطلبات الحاضر. لكن في السبعينيات، اعترف عالم الاجتماع فريد ديفيس (Fred Davis) بالجوانب الإيجابية للحنين إلى الماضي في كتابه "الشوق إلى الأمس - علم اجتماع الحنين".
أكد ديفيس إن الحنين إلى الماضي ليس اضطراباً أو تشخيصاً رسمياً لحالة نفسية؛ لكنه يمكن أن يثير مشاعر إيجابية مثل الأمن والحماية والراحة، فلم يعد يُنظر إلى فكرة افتقاد المرء منزله أو ماضيه على أنها اضطراب في حد ذاته.
بمرور الوقت، كان هناك إجماع على تعريف عالم النفس الاجتماعي والشخصي قسطنطين سيديكيدس (Constantine Sedikides) للحنين على أنه عاطفة حلوة ومرّة؛ تجمع بين المشاعر الإيجابية والسلبية في الوقت ذاته. بعبارة أخرى: للحنين جانبان؛ سلبي يُعرف بـ "اكتئاب الحنين"، وآخر إيجابي.
اقرأ أيضاً: هل يفيدك الشعور بالحنين أم يضرك؟ العلم يجيبك
اكتئاب الحنين: لماذا يفضل البعض العيش في الماضي؟
اكتئاب الحنين (Nostalgic depression) ليس اضطراباً أو نوعاً فرعياً محدداً من الاكتئاب؛ لكنه طيف من المشاعر السلبية التي يشعر بها الناس لدى التفكير في ماضيهم؛ مثل الندم والخسارة والحزن وفقدان الاهتمام.
أثبتت دراسة نُشرت في دورية الجمعية الأميركية لعلم النفس (American Psychological Association)، أن الذكريات السلبية تسيطر على أفكار الفرد عندما يشعر بالحنين إلى الماضي، فإذا كان ماضيه أكثر سعادة من واقعه الحالي، شعر بالضيق العاطفي؛ ويمكن أن يؤدي هذا الشوق في النهاية إلى الإصابة بأعراض الاكتئاب.
إذ عندما يرى الفرد أن ماضيه أفضل بكثير من ظروفه الحالية، يلجأ إلى التفكير في الماضي باعتباره شيئاً جميلاً لا تُمكن استعادته مجدداً، والابتعاد عن الأحداث والعلاقات الاجتماعية أو المسؤوليات الحالية، وقضاء وقت أكثر في استرجاع ذكريات الماضي؛ ما قد يؤثر في حالته المزاجية. أي يمكن القول إنه عندما يُستخدم الحنين كوسيلة للتعامل مع الضيق من خلال الهروب مؤقتاً من ألم الحاضر، فإنه غالباً ما يؤدي إلى اكتئاب الحنين.
على سبيل المثال؛ قد يؤدي الانتقال إلى مدرسة جديدة أو منزل جديد، أو فقدان أحد أفراد الأسرة، أو الطلاق، إلى الحنين إلى الحياة السابقة، والإصابة بالاكتئاب لإدراك فقدان تلك الحياة وعدم القدرة على استعادتها.
متى تصاب باكتئاب الحنين؟
يُعد اكتئاب الحنين أكثر شيوعاً خلال الأوقات الصعبة؛ مثل الصراعات المالية أو مشكلات العلاقات أو الحزن أو التوتر الناجم عن الصدمة، ويحدث لمن يتمتع ببعض السمات مثل:
- القلق: أفادت دراسة نُشرت في المجلة الأوروبية لعلم النفس الاجتماعي (European Journal of Social Psychology) بأنك إذا كنت تميل إلى القلق، ستجد نفسك غالباً تركز على أفكار مظلمة وسلبية وغير مرغوب فيها.
- الندم والذنب: إذا فشلت في تحقيق الأشياء التي كنت تأمل في تحقيقها، أو خذلت أحباءَك أو نفسك نتيجة عدم الوفاء بالوعود التي قدمتها، فربما تخبو نظرتك التفاؤلية إلى المستقبل، ويبدو الماضي الجميل حلماً مستحيل المنال؛ كأن تتمنى أن تعود إلى شبابك.
- الوحدة: في دراسة نُشرت في مجلة الشخصية وعلم النفس الاجتماعي (Journal of Personality and Social Psychology)، كانت الوحدة المحفز الأساسي للمشاعر السلبية المرتبطة بالحنين إلى الماضي.
المذاق الحلو للحنين
أفادت دراسات عديدة في العقود الأخيرة بأن التأثيرات الإيجابية للحنين تذهب إلى ما هو أبعد من مجرد الشعور الجيد على المدى القصير.
عَدّ سيديكيدس إلى جانب تيم وايلدشوت (Tim Wildschut) وفريق من الباحثين، في دراسة منشورة في دورية التوجهات الحالية في العلوم النفسية (Current Directions in Psychological Science)، أن الحنين يعمل كآلية للتكيف؛ حيث غالباً ما يُبلغ الناس عن تجربة مزاج أكثر إيجابية بعد الانخراط في ذكريات الحنين إلى الماضي. وعليه؛ حددوا عدة وظائف للحنين إلى الماضي:
- تعزيز الثقة بالنفس: التفكير في حقيقة أنك قد تغلبت بالفعل على صعوبات مماثلة في الماضي يعزز ثقتك بنفسك.
- زيادة وعي الفرد بمعنى حياته: الرضا عن حياته ورؤيتها ذات معنىً؛ حيث يمكن للحنين أن يخلق شعوراً بالاستمرارية الذاتية، وبأن السمات والقيم الشخصية المهمة تستمر مع مرور الوقت.
- ترياق للوحدة: لا يشعر الوحيدون بالدعم الاجتماعي؛ لكن حقيقة قيامهم في كثير من الأحيان بتزيين منازلهم بصور الزفاف والطفولة أو البحث عن محفزات أخرى للحنين، تثير لديهم الرغبة في التواصل مع الآخرين.
- العلاج النفسي: أشار الباحثون في دراسة أخرى لهم في دورية الرأي الحالي في علم النفس (Current Opinion in Psychology)، إلى أن الحنين إلى الماضي قد يكون مفيداً كأسلوب للعلاج النفسي.
اقرأ أيضاً: لا تتخلَّ عن صندوق ذكرياتك، فقد يحمل علاج آلامك!
علاج اكتئاب الحنين
إذا كان الحنين قد جعلك أكثر حزناً أو إرهاقاً أو وحدةً، فربما قد تساعدك الاستراتيجيات التالية في التغلب على مشاعر الاكتئاب الناتجة من الحنين:
- التواصل مع الآخرين: يعزز التواصل مع الآخرين، سواء كان من الحاضر أو الماضي، مشاعر الانتماء والتفاؤل واحترام الذات.
- استنباط الدروس من الماضي: عندما تنظر إلى تجارب الماضي السعيدة من موقعك الحالي، سواء من حيث النضج أو التجارب، فإنك قد تجد أن ذلك اليافع الصغير الذي تمكّن من تجاوز محن الماضي، لا بد له من إدراك أن ما كان ممكناً في الماضي، قد يصبح ممكناً مرة أخرى في الحاضر.
- التركيز على الذكريات ذات المعنى: بدلاً من الخوض في الذكريات الحزينة أو المؤسفة، حاول أن تسترجع الذكريات الإيجابية والمهمة التي تتعلق بأشخاص ما زالوا في حياتك. يمكن أن يساعدك هذا على تقدير علاقاتك الحالية وإيجاد معنىً لحياتك.
- إبقاء الأمور في نصابها: عليك أن تدرك أن ذكرياتك لا تعكس الحقيقة الكاملة لماضيك، وأن الحاضر له أفراحه وتحدياته. وفقاً لجمعية علم النفس الأميركية؛ يمكن أن يساعد إبقاء الأمور في نصابها على بناء المرونة العقلية، فتصبح أكثر واقعية من حيث نظرتك إلى الماضي.
- ممارسة الامتنان: قدّر ما لديك في حياتك الآن، وعبّر عن شكرك لأولئك الذين يدعمونك.
- ممارسة اليقظة الذهنية: تساعد اليقظة الذهنية على التركيز على الأحداث التي تحدث في الوقت الحاضر دون إصدار الأحكام.
- اطلب المساعدة المهنية: إذا كان اكتئاب الحنين لديك يؤثر في قدرتك على العمل أو الاستمتاع بالحياة، لا بدّ من التواصل مع المختصين. أشار استشاري الصحة النفسية، الطبيب كريم عماد، إلى أنه يمكن باتباع العلاج السلوكي والمعرفي، التعرف إلى الاحتياجات والمشاعر التي لُبّيت في الماضي ويحنّ الفرد إليها، ومعتقداته عن المرحلة الحالية؛ ومن ثم استكشاف سبل التعامل معها.
اقرأ أيضاً: كيف تستفيد من ندمك على أخطاء الماضي وتحوله إلى قوة تدفعك نحو الأفضل؟
إذاً؛ وعلى الرغم من سحر الماضي كله، يجب ألّا ننسى أن الحياة مستمرة، فقد يكون من الواجب تقدير ما كان سبباً فيما نحن عليه اليوم؛ إلا أن التعلم من الماضي والعيش في اللحظة الحالية والأمل في مستقبل أفضل يمكن أن يساعد على عيش حياة مُرضية وأكثر إيجابية.