3 علامات تشير إلى الأب النرجسي وكيف يؤثر سلباً في خيارات أبنائه العاطفية

5 دقائق
شخصية نرجسية
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)

ملخص: النشأة في ظل أب ذي شخصية نرجسية اختبار صعب بالنسبة إلى الطفل لأنه يمثل عبئاً نفسياً كبيراً عليه؛ لكن خطورة ذلك لا تتوقف عند حدود الطفولة، فقد لاحظَت إحدى المعالجات النفسيات أن الكثيرات من مريضاتها اللواتي يشتكين من أزواج مسيطرين، نشأن في الأصل في ظل آباء يتمتعون بشخصيات نرجسية مسيطرة. لذا؛ تحذّر هذه الخبيرة النفسية من هذه الظاهرة، وتقدم 3 إشارات مميّزة للآباء الذين يتمتعون بهذه الشخصية المدمرة.

ألاحظ خلال عملي أن 80% من المرضى الذين يقعون ضحية علاقات مع ذوي الشخصيات النرجسية، كان أحد والديهم على الأقل يتمتع بشخصية نرجسية. هذا المعطى لم يوثَّق علمياً في السابق، وأشك أنه سيوثَّق مستقبلاً؛ إذ كيف يمكن أن نتحقق بناءً على عينة دالة على أن شخصاً ما في علاقة مؤكدة مع شخصية نرجسية (أمر مستحيل!)، كان له فعلاً والد ذو شخصية نرجسية (سيتطلب الأمر استجواباً سريرياً معمقاً للوالد)؟ ومع ذلك، فإن هذا الارتباط القوي بين الحالتين يقدم توضيحاً مفيداً لمساعدة الأفراد على فهم ما يحدث لهم عندما ينخرطون في علاقات يتعرضون فيها للسيطرة.

عندما تتساءل إحدى مريضاتي، على سبيل المثال، حول علاقتها العاطفية وتسأل إن كان شريك حياتها لا يعاني نقصاً مطلقاً في التعاطف ويمارس عليها نوعاً من الهيمنة، فإنني أبحث تلقائياً في موضوع والديها، ونادراً ما أخطئ في توقّعي. كي تصبح فريسة شخص نرجسي، يجب أن تكون لديك ثغرة نفسية تعود في الغالب إلى مرحلة الطفولة، وإن لم يكن ذلك صحيحاً دائماً. وقبل أن نتعمق في تحليل هذه النقطة، لنعد إلى تعريف معنى الشخصية النرجسية.

مَن هي الشخصية النرجسية؟

يُقصد بالنرجسي في التعريف الشائع: ذلك الشخص الذي يحب إيذاء الآخر والإضرار به. لكن الأمر مختلف بعض الشيء هنا، على الأقل في واقع دراسات الأمراض النفسية. يعرّف الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية في إصداره الخامس (DSM V) النرجسي بالشخصية النرجسية التي تتميز بتعظيم مفرط لقيمتها وقدراتها، وحساسية شديدة تجاه الانتقادات التي تتلقاها بمشاعر الغضب والعار والإذلال.

تُسقط الشخصيات النرجسية على مستقبلها تخيلات النجاح والقوة والإبداع الاستثنائية، وتسعى دائماً إلى نيل إعجاب الآخرين الذين تنتظر منهم تأكيد تفوقها بانتظام، وتظل محرومة من التعاطف على الرغم من أنها تنتظر من الآخرين كل شيء إلى درجة استغلال علاقاتهم الشخصية.

نلاحظ أن هذا التعريف لا يخلو من أحكام القيمة. وقد قدّم عالم النفس بول كلود راكامييه (Paul Claude Racamier) سنة 1986، تعريفاً آخرَ يسمح في اعتقادي بتدقيق موضوعيّ لمعنى النرجسي. يرى راكامييه أن الانحراف النرجسي لدى الفرد نظام ثابت (لا يتغير أبداً مع مرور الوقت) يتميز بالقدرة على حمايته من الصراعات النفسية الداخلية، ولا سيّما من الشعور بالحزن، مع تعظيم قيمة الذات على حساب شيء آخر يتلاعب به كأنه أداة أو دمية.

3 إشارات مميِّزة

عموماً، ثمة 3 عناصر أساسية تحدّد الشخصية النرجسية:

غياب التعاطف

الشخصية النرجسية تتقن التظاهر بالتعاطف لكنها لن تعبر عنه فعلاً. هذه هي السمة الأولى المميزة للنرجسي في اعتقادي؛ إذ يمثل الآخر بالنسبة إليه شيئاً أو فراغاً يملأه هو برغباته ولهذا يعجز النرجسي في الغالب عن التعاطف إلّا مع نفسه. أما أي فرد الآخر لا يستطيع "الاستثمار فيه بنرجسيّته" (أي ذلك الشخص الذي ليس جاهزاً للرفع من قيمته)، فلن يتمكّن أبداً من إثارة تعاطفه الصادق.

عدم تحمّل الإحباط

الإحباط بالنسبة إلى الشخص النرجسي تشكيك في سلطته وقوته؛ ولهذا لا يتحمله. وبالمثل؛ فإن فقدان شخص اهتمّ به، رغماً عن إرادته، أمر مستحيل بالنسبة إليه؛ بل ويفضل أن يدمره بدلاً من التخلي عنه، حتى عندما يفقد أهميته بالنسبة إليه! من الصعب إذاً فرض إرادتك على شخصية نرجسية.

غياب الوازع الأخلاقي

لن يراجع الشخص النرجسي نفسه أبداً ولن يسأل إن كان تصرفه مناسباً أو أنه جرح الآخر أو أن سلوكه كان أرعنَ. لا ينتابه الشك في نفسه إلا إذا تعلق الأمر بقياس مدى قوته؛ أي عندما يبحث دائماً عن المزيد ويشك في أنه حصل على ما يكفي.

طبيعة الآباء النرجسيين

توضح هذه التعريفات طبيعة شخصية الوالد النرجسي: لا يهتم في أعماقه إلا بنفسه، ويرى أطفاله، في أحسن الأحوال، امتداداً نرجسياً لشخصه؛ لكن لا وجود لهم باعتبارهم كائنات مستقلة بل هم مجرد أشياء! قد يبدو أن الطفل يحظى في هذه الحالة بتقدير واهتمام مفرطَين لكن لا يُنظر أبداً لذاته. يخلق لديه هذا الأمر منذ صغره حاجة ماسة إلى أن يُرى وأن يُعترف بكينونته لكن هذا لا يحدث أبداً.

يؤدي هذا الواقع في الغالب إلى ظهور أطفال مثاليين لأنهم يتخيلون أنهم إذا استجابوا لتوقعات الآباء النرجسيين فإنهم سيحظون بهذه النظرة، فيتفوقون في دراستهم، وينافسون على المستوى الرياضي وينضجون مبكراً؛ لكنهم يدخلون بذلك سباقاً لا ينتهي، ولن يحظوا أبداً بالحبّ لذواتهم لأنها غير موجودة. إذا عارضوا آباءهم النرجسيين سيتعرضون للعقاب أو الإقصاء؛ لأن عليهم البقاء في موقع الشيء المثالي، ومن المستحيل السماح لهم بالتمرد.

ويدركون في الغالب أنهم إذا لم يخضعوا سيتعرضون للنبذ بسرعة، وهو جزء من الهيمنة التي يتعرضون لها، فيجدون أنفسهم أمام خيارين: الخضوع أو الانسحاب. يخلق هذا الموقف ارتباطات غير مطمئِنة للطفل أو المراهق، الذي يدرك أن العلاقة الأكثر حميمية بالنسبة إليه غير متينة وثابتة.

إنه الأب الودود للغاية الذي يَعِد بألف وعد ولا ينفذ أيّ وعد، ويمثّل دور الأب "المبهر" للأطفال لأن ذلك يرفع من قيمته؛ لكنه يتخلّف عن مواعيدهم المهمة كلها. إنه الوالد الذي يحتقر الطفل ويقارن بينه وبين أطفال آخرين، ويمدحه ويذمه في الوقت نفسه، وتعرف أنه يمكن أن يلغيك تماماً من حياته، وينساك بمجرد أن يرى ذلك مناسباً له.

إنه الوالد الذي يغير رأيه في أشقائه المفضلين، ويهتم بالآخر أو يتوقف عن الاهتمام به وفقاً لمصلحته، ويخلق المنافسة بين أبنائه حتى يبقى سيد الميدان. إنه الوالد الذي يكشف حياته الحميمية بشكل أو بآخر أمام أطفاله. هو الذي يتفاخر بمغامراته الشخصية ويعامل ابنه مثل صديق، دون احترام لمكانته باعتباره طفلاً. وهو الذي يراك مثالياً ثم يراك في الحين نفسه مخيباً لآماله.

القائمة طويلة ولا يعني أيّ سلوك من هذه السلوكيات في حد ذاته أن الأب نرجسي بالضرورة؛ وإنما يتعلق الأمر بأمثلة بسيطة عن المظاهر المحتملة التي تميز شخصية نرجسية.

الانعكاسات على العلاقات العاطفية

يحتفظ هؤلاء الأطفال بعد كبرهم بذلك التخيّل الذي يمثلون فيه الشيء المثالي بالنسبة إلى شخص ما. طوال فترة طفولتهم، كانوا يرغبون في أن "يُنظَر" إليهم، فيحاولون بعد بلوغ سن الرشد أن يثأروا لأنفسهم؛

وهكذا سيبحثون عن أشخاص سينجذبون إليهم فجأة وبقوة ويبدون مستعدين لفعل أيّ شيء فوراً لأجلهم. سيتأثرون بقوة الارتباط الذي يقترحه الآخر عليهم وإرادته المطلقة في "الرغبة" فيهم، ويفتحون بذلك الطريق أمام علاقات جديدة مع شخصية نرجسية، فيُوضعون مرة أخرى في مكانة "الشيء"، ويصبحون تدريجياً بالنسبة إلى النرجسي الذي يهتم بهم أشياءَ أقل مثالية ومخيبة للآمال ويعيشون مجدداً الشعور بإمكانية "انتهاء الاهتمام" في أيّ لحظة.

ما العمل لمواجهة الوقوع في فخ الشخصية النرجسية؟

الصعوبة الأولى هي قبول احتمال أن يكون أحد الوالدين ذا شخصية نرجسية. وفقاً لعلم النفس؛ فإن شخصية الطفل ثم شخصيته بعد الرشد تميل إلى الدفاع عن الصور الأبوية التي تلقاها، سواء على مستوى الوعي أو اللاوعي. يكاد يكون مستحيلاً بالنسبة إلى الكثيرين، الاعتراف بفشل أحد والديهم؛ ولهذا لا يستطيعون الانفلات من العلاقات العاطفية مع الشخص النرجسي لأن ذلك قد يعني، بمعنىً ما، رفض السلوكيات التي عاملهم بها آباءهم!

علينا إذاً أن نمنح أنفسنا ما لم نحصل عليه؛ أي ذلك الشعور اللّامشروط بالقيمة؛ حيث يتعيّن على أيّ فرد أن يعامل نفسه مثل كائن بشري جدير بالاحترام تجب العناية به عناية بالغة، دون التعلّق فقط بالقيمة التي تمنحها نظرة الآخرين. إنه علاج صعب لكنه الحل الوحيد الذي يسمح للفرد بانتزاع مكانته في الحياة والاستمتاع بها.

كان تقديم رؤيتي حول هذا النوع من العلاقات يشغل بالي كثيراً. وصفت في هذا المقال بعض الاتجاهات، التي قد تكون مبالغة ولا يجب أخذها حرفياً؛ لكنها محاولة لشرح نمط لاحظته أحياناً لدى بعض الأشخاص: آباء نرجسيون وعلاقات مع نرجسيين؛ إنها "عقوبة مضاعفة"! إذا نشأنا في ظل أب نرجسي فسنكون أكثر عرضة في علاقاتنا العاطفية للخضوع لشخص نرجسي مرة واحدة على الأقل. ومن الصعب الخروج من هذا النمط لأنه من الضروري أن نتمتع بفهم شخصي لآلياته حتّى نتمكن من التخلص منه.

المحتوى محمي