ملخص: هل تظن أنك تعاني الاحتراق الوظيفي بسبب ظروف العمل النفسية السيئة؟ إليك أعراض الاحتراق الوظيفي وعوامل الخطورة للإصابة به وكيفية وقاية نفسك منه، يقدمها مختص الطب النفسي للحالات الطارئة سيزار أنسيل هانسين (César Ancelle-Hansen).
محتويات المقال
وفقاً لاستطلاع أجرَته المؤسسة الفرنسية للرأي العام (IFOP) في مارس/ آذار 2023؛ يعتقد 62% من الموظفين الفرنسيين أنهم يمارسون مهنة من المحتمل أن يكون لها تأثير سلبي في صحتهم النفسية؛ ومن بين الأسباب الرئيسة لذلك التوتر (67%) وعبء العمل المفرط (51%). ينتج الاحتراق الوظيفي من التعرض المفرط للمخاطر النفسية الاجتماعية (ظروف العمل السيئة)؛ لذلك من المهم أن تتبع الشركات إجراءات وقائية لحماية موظفيها.
الاحتراق الوظيفي مفهوم حديث
قدم مفهوم "الاحتراق الوظيفي" لأول مرة عالما النفس الأميركيان هربرت فرويدنبرغر (Herbert J. Freudenberger) وكريستينا ماسلاش (Christina Maslach) في سبعينيات القرن الماضي.
وقد نسب هربرت فرودنبرغر مصطلح "الاحتراق الوظيفي" آنذاك إلى مقدمي الرعاية الذين يعملون مع مدمني المخدرات، وإلى نفسه إذ اعتاد العمل بوتيرة محمومة إلى أن وجد نفسه يوماً غير قادر على النهوض للذهاب إلى العمل، ويتحدث عن العبء الذي تحمله آنذاك بسبب تمسكه بالمثالية وفكرة المغزى من العمل: "من خلال عملي طبيباً ومحللاً نفسياً، أدركت أن الناس يقعون أحياناً ضحيةً للاحتراق تماماً كما تحترق المباني، ففي ظل التوتر الناجم عن صعوبات الحياة، تُستهلك مواردهم الداخلية كما لو كان يأكلها اللهب؛ ما يترك في داخلهم فراغاً كبيراً حتى لو بدوا من الخارج بخير إلى حد ما".
اشتُهرت كريستينا ماسلاش بتطوير أداة تقييم الاحتراق الوظيفي المسماة "مقياس ماسلاش للاحتراق الوظيفي" (Maslach Burnout Inventory) لقياس الأبعاد الثلاثة الرئيسة للاحتراق الوظيفي؛ أي الإرهاق الجسدي والعاطفي والشعور بالتشاؤم والسلبية تجاه العمل وتراجع الإنتاجية، ويُستخدم هذا المقياس على نطاق واسع في البيئات المهنية لتقييم انتشار الاحتراق الوظيفي وتوجيه تدخلات الوقاية والعلاج. كما أجرت كريستينا ماسلاش أيضاً أبحاثاً حول العوامل التي تزيد خطر الإصابة بالاحتراق الوظيفي وتلك التي تساعد على الوقاية منه، بالإضافة إلى أبحاثها حول الاختلافات بين الثقافات التنظيمية التي تفاقم الاحتراق الوظيفي أو تمنعه.
يمكن أن يصيب الاحتراق الوظيفي أي شخص
منذ ذلك الحين، درس الباحثون الاحتراق الوظيفي في العديد من القطاعات المهنية مثل الطب والقانون والتعليم والصحافة، ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية؛ يُعد الاحتراق الوظيفي ظاهرة عالمية لكنه ينتشر في بعض البلدان أكثر من غيره، وأكثر الدول المتضررة منه في أوروبا هي النرويج وهولندا والدنمارك، أما على مستوى القطاعات المهنية في الولايات المتحدة، فإن أكثر المتضررين هم الأطباء والممرضون والمختصون الاجتماعيون.
يمكن أن يصيب الاحتراق الوظيفي أي شخص؛ ولكن الأشخاص الذين يعانون ضعفاً نفسياً ويعملون في بيئة نفسية اجتماعية سامة (ظروف عمل سيئة) أكثر عرضةً للإصابة به، فقد يعاني الإنسان حالة من الهشاشة في مرحلة ما من حياته؛ مثلاً عند فقدان شخص عزيز أو الإصابة بالمرض أو الانفصال عن شريك الحياة وغير ذلك.
ما العوامل التي تزيد احتمالية الإصابة بالاحتراق الوظيفي؟
ثمة عوامل خطر للإصابة بالاحتراق الوظيفي مرتبطة بالعمل مثل عبء العمل الزائد أو، على العكس، الأقل من اللازم الذي يؤدي إلى الملل، وعدم التقدير، والافتقار إلى الاستقلالية، وعدم الشعور بالانتماء إلى المجموعة، وغياب الإنصاف (عدم الحصول على ترقية مستحَقّة أو نقص تنمية المهارات)، وإعادة الهيكلة المتكررة للشركة وما يرافقها من شعور بعدم اليقين، وانعدام الأمن الوظيفي، ومواجهة مواقف ومشاعر معقدة باستمرار.
ولكن ثمة أيضاً عوامل خطر فردية؛ ومنها على سبيل المثال الهوس بالكمال، الذي نجده غالباً لدى الأشخاص الذين يفرضون على أنفسهم معايير عالية جداً، أو تحمل عبء مزدوج كما في حالة الوالد العازب الذي تقع على عاتقه مسؤولية إنجاز الأعمال المنزلية بمفرده، ويحدث الاحتراق الوظيفي حينما يستنفد الشخص نفسه وموارده في العمل، ثم يتوقف فجأة لأنه لم يعد قادراً على المواصلة.
علامات الاحتراق الوظيفي تتشابه مع علامات الاكتئاب
ثمة 3 سمات أساسية تميز الاحتراق الوظيفي وهي الإرهاق، والشعور بالتشاؤم والسلبية تجاه العمل، وتراجع الإنتاجية، وهي أكثر العلامات شيوعاً في هذا الشأن. يعاني الشخص المصاب بالاحتراق الوظيفي إرهاقاً جسدياً وعاطفياً يسبب له تعباً شديداً ومستمراً، وتقلبات مزاجية إضافة إلى سرعة الانفعال؛ ومن ثَمّ تكثر خلافاته مع الآخرين سواء في علاقاته الشخصية أو المهنية، ويفقد تدريجياً الحافز للعمل.
وبالإمكان ملاحظة الكثير من الأعراض الأخرى؛ ومنها تفكك الروابط الاجتماعية (مع العائلة والأصدقاء)، والضيق النفسي المترافق مع علامات الاكتئاب أو العدوانية أو كيليهما، واضطرابات النوم، والتحجر المعرفي (غياب الخيال والإبداع)، أو الانعكاسات النفسية الجسدية التي تتمثل في اضطرابات العضلات واضطرابات الجهاز الهضمي والاضطرابات الجلدية.
على الرغم من اختلاف الاحتراق الوظيفي عن الاكتئاب، فإنهما قد يتشابهان في بعض الأعراض؛ إذ يرتبط الاحتراق الوظيفي على وجه التحديد بالعمل وينتج غالباً من إجهاد مزمن وطويل الأمد في العمل، أما الاكتئاب فيمكن أن يحدث بسبب مجموعة متنوعة من العوامل؛ مثل أحداث الحياة المجهِدة والاختلالات الكيميائية في الدماغ والتاريخ المرضي العائلي؛ ومن ثَمّ يمكن وصف الاحتراق الوظيفي بالاكتئاب المرتبط بظروف العمل، ويكون مصحوباً غالباً بالإنكار أو الشعور بالذنب.
ما أساليب علاج الاحتراق الوظيفي؟
حينما تظهر علامات الاحتراق الوظيفي، من الضروري استشارة مختص بسرعة. في الواقع، يتأخر حصول المصابين بالاحتراق الوظيفي على الرعاية أحياناً بسبب شعورهم بالذنب وتقليل الآخرين من معاناتهم، وتظهر علامات الاحتراق الوظيفي بسبب تعرض المريض لعوامل الخطر النفسية الاجتماعية (ظروف العمل السيئة) لفترة طويلة؛ لذلك يطلب منه الطبيب التوقف عن العمل في الوقت الحالي لفحص حالته وتقديم العلاج الملائم له.
ومن أساليب العلاج النفسي المتَّبعة في هذه الخصوص: العلاج المعرفي السلوكي، والتنويم المغناطيسي الذاتي، وتقنيات الاسترخاء، ومجموعات الدعم، وغيرها، وقد يُستخدم العلاج الدوائي إذا كان المريض يعاني اكتئاباً ملحوظاً على سبيل المثال. من الضروري أيضاً أن يقيّم الطبيب أسلوب حياة المريض وظروف عمله لأنهما يمثلان منشأ المشكلة غالباً.
كيف تقي نفسك من الاحتراق الوظيفي؟
يمكن تجنب الاحتراق الوظيفي من خلال تغيير نمط الحياة والنظام الغذائي الذي له دور مهم في الصحة النفسية؛ إذ يوصى بممارسة النشاط البدني مدة ساعة يومياً، وتناول طعام صحي، والتخلص من المواد السامة مثل التبغ؛ كما أن التعرض لضوء النهار ووجود حياة اجتماعية أمران ضروريان أيضاً لتجنب الاحتراق الوظيفي.
بالنسبة إلى المدراء، تقع على عاتقهم مسؤولية تنفيذ إجراءات وقائية لحماية موظفيهم من العوامل التي تزيد خطر الإصابة بالاحتراق الوظيفي، ومن الضروري في هذا الخصوص أن يكون عبء العمل المسنَد إلى الموظفين ملائماً؛ أي عدم تكليفهم بمهمات كثيرة أو مستحيلة التنفيذ، إضافةً إلى منحهم الاستقلالية والتقدير الكافيَين.
ولتحسين ظروف العمل، من المهم تحفيز الشعور بالانتماء لدى الموظفين وتشجيع الحوار بينهم من خلال تنظيم أوقات لتعزيز الصِّلات الاجتماعية، وتجنب أيٍ من أوجه عدم الإنصاف.
أخيراً، علينا تثقيف الطلاب حول القيمة الحقيقية للعمل؛ أي أن نبين لهم أنه وسيلة وليس غاية في حد ذاته، وهو قضية اجتماعية مهمة، ويجب تعليمهم كيفية منع الأعباء المهنية من التعدي على حياتهم الأسرية والاجتماعية.
يكشف أحدث مقياس لمؤسسة أوبينيون واي (OpinionWay) أن 1 من كل 4 موظفين على وشك الإصابة بالاحتراق الوظيفي؛ إذ قال 55% ممن تقل سنهم عن 29 عاماً، و49% من النساء، و44% من المدراء الذين شملهم الاستطلاع، إنهم عانوا ضائقة نفسية في مكان العمل.