ملخص: تظهر الدراسات الاستقصائية أن الناس في جميع أنحاء العالم يعتقدون أن الأخلاق تتدهور منذ عقود طويلة، في حين تثبت نتائج الدراسات الحديثة أن هذا الانحلال الأخلاقي مجرد وهم، وثمة تفسيرات نفسية لنشوء هذا الوهم.
هل تعتقد أن أخلاق الناس تغيرت؟ حسناً، في صغري، كنت أجلس مع جدي وجدتي وأقرانهما في الحيّ، فأسمعهم يتذمّرون على الدوام بما آلت إليه أخلاق الناس، حيث كانت آخر ربع ساعةٍ من كل جلسةٍ هي ربعُ ساعةٍ من الحداد على الأخلاق التي تتراجع وتنحلّ في هذا الجيل الجديد، فما عاد الصدق صدقاً ولا اللطف لطفاً ولا الكرم كرماً، ثم تختتم الجلسة بآهات حزينة وتأكيدات أن الناس باتت وحوشاً.
ثم كبرت قليلاً، وصرت أسمع الأحاديث نفسها من والديّ وأصدقائهما. واليوم، أنا وأصدقائي بتنا نتحدث ونتذمر ونتساءل أين ذهبت أخلاق الناس؟ أين الصدق والكرم واللطف الذي كان على زمن جدي. لكن مهلاً لحظة! لو كانت الأخلاق تتدهور منذ أن بدأ الناس يعتقدون ذلك، وهذا يحدث منذ مئات السنين، لما وُجد شيء من الأخلاق اليوم! فهل الأخلاق تتدهور فعلاً أم ثمة شيء آخر يدفع الناس للتفكير على هذا النحو؟ في الواقع، تشير الدراسات العلمية إلى أن التدهور الأخلاقي وهم وثمة ظواهر نفسية تفسر هذا الوهم، وإليك ما توصل إليه العلم.
اقرأ أيضاً: لماذا يكره البعض نجاح الآخرين؟ وكيف تتخلص من هذا الشعور؟
هل أخلاق الناس تتدهور فعلاً؟
"يبدو أن النسيج الاجتماعي يتفكك؛ فاللطف والكياسة أصبحا عادات قديمة، والصدق خيَار، والثقة غدت من بقايا زمن آخر. لقد بدأت سيرورة انحطاطنا الأخلاقي تزامناً مع تهدّم أسس الأخلاق وانتقلت إلى الانهيار النهائي للصرح كله، وهو الأمر الذي أوصلنا أخيراً إلى الفجر المظلم لعصرنا المعاصر؛ حيث لا يمكننا تحمل انعدام أخلاقنا ولا مواجهة ما يلزم لعلاجها".
والآن، قد تعتقد أن هذا الوصف الكئيب لانحلال أخلاق الناس كُتب لعصرنا الحالي؛ إنما هو في الحقيقة كُتِب بيد المؤرخ الروماني ليفي (Livy) منذ أكثر من 2000 عام، الذي كان يتحسر على تدهور الأخلاق لدى مواطنيه الرومان. في الواقع، يمكن القول إنه لا يوجد عصر من العصور إلا وستجد فيه مَن يشكو مِن انحلال أخلاق الناس. والأخلاق هنا تشير في المقام الأول إلى معاملة الناس لبعضهم بعضاً، ولا يقصد بها الجرائم الشنيعة التي يرتكبها عدد قليل من الناس، بل تشير إلى الطرائق التي يتصرف بها الناس العاديون في حياتهم اليومية، فهل أصبح الناس فعلاً أقل لطفاً وأدباً وجدارة بالثقة وأكثر نفاقاً وجشعاً وخيانة مما كانوا عليه في السابق؟
اقرأ أيضاً: كيف تستعيد مكانتك في مجموعة همشتك؟
في محاولة لاختبار هذه الافتراضات؛ نفّذ عالم النفس من جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك، آدم ماستروياني (Adam Mastroianni)، وعالم النفس من جامعة هارفارد في كامبريدج، دانيال جيلبرت (Daniel Gilbert)، دراسة نُشرت في دورية نيتشر (Nature) عام 2023؛ حيث حلّلا في البداية 177 من استطلاعات الرأي الأميركية حول القيم الأخلاقية والتي أجريت ما بين عامي 1949 و 2019 وشملت أكثر من 220 ألف شخص، فوجدا أن 84% من الناس المشاركين في تلك الدراسات الاستقصائية قد أبلغوا أن الأخلاق تراجعت، وظلّ هذا المعدل ثابتاً بغض النظر عن العام. ولم يكن هذا الاعتقاد بتدهور الأخلاق مقتصراً على الأميركيين، بل شُوهدت نتائج مماثلة في معظم الاستطلاعات التي أُجريت في 59 دولة أُخرى والتي شملت 350 ألف شخص.
ثم أجرى المؤلفان سلسلة من الاستطلاعات الخاصة بهما في عام 2020، ووجدا أن المشاركين الأميركيين أبلغوا أن الناس أصبحوا أقل لطفاً وصدقاً وطيبةً وخيراً مما كانوا عليه في الماضي، وهذا التصور عن الانحلال الاخلاقي كان مشتركاً بين الناس من مختلف الإيديولوجيات السياسية والأعراق والأجناس والأعمار والمستويات التعليمية.
اقرأ أيضاً: هل تغير كثرة الاعتذارات نظرة الآخرين إلينا؟
وفحص الباحثان أيضاً الاستطلاعات التي طلبت من الناس تقييم الحالة الأخلاقية لمعاصريهم، تلك التي أجريت مرتين على الأقل في فترة زمنية لا تقل عن 10 سنوات، وذلك من أجل مقارنة الإجابات مع مرور الوقت. فإذا كانت أخلاق الناس تراجعت بالفعل بمرور الوقت، فمن المتوقع أن يقيّم الناس أقرانهم بشكل أكثر سلبية من أولئك الذين أجروا نفس الاستطلاع في وقت سابق قبل 10 سنوات.
لكن البيانات كشفت أن تقييم المشاركين لأخلاق معاصريهم لم يتغير بمرور الوقت، بالإضافة إلى أن تقييم الناس لأخلاق أصدقائهم وعائلاتهم لم يكن سلبياً، بل أبلغوا أن أخلاقهم قد تحسنت خلال هذه الفترة. هذا ما دفع ماستروياني وزميله إلى الاستنتاج أن الانحلال الأخلاقي مجرد وهم، أو على الأقل، فإنه من الصعب جداً العثور على دليل يثبت حدوثه، فلماذا يعتقد الناس إذاً بأن الأخلاق تتدهور؟
اقرأ أيضاً: هل المبدعون جميعهم مضطربون نفسياً؟ إليك الإجابة المفصلة
لماذا الانحلال الأخلاقي مجرد وهم؟
طالما أن الأخلاق لم تتدهور، حسبما أشارت نتائج الدراسة، فلماذا يعتقد الناس أنها كذلك؟ في الواقع، يعتقد الباحثان أن ثمة ظاهرتان نفسيتان راسختان تسببان عندما تعملان جنباً إلى جنب في إنتاج وهم الانحلال الأخلاقي؛ الأولى هي تأثير التعرض المتحيّز (Biased Exposure Effect)، وهذا يعني أن الناس يميلون بشكل خاص للبحث عن معلومات سلبية عن الآخرين والانكباب عليها. وقد غذّت وسائل الإعلام وأدوات التواصل الاجتماعي هذا التعرض؛ إذ إنها تركّز بشكل غير متناسب على الأشخاص الذين يتصرفون بشكل سيء، وهو ما يجعل الناس يواجهون معلومات سلبية حول أخلاق الأشخاص بشكل عام أكثر من المعلومات الإيجابية.
أما الظاهرة النفسية الثانية فهي مبدأ بوليانا (Pollyanna Principal) أو تأثير الذاكرة المتحيّزة (Biased Memory Effect)؛ ويعني ميل الإنسان إلى نسيان الأجزاء السلبية من الماضي؛ أي أن الإنسان عندما يحاول أن يتذكر الأحداث الإيجابية والسلبية من الماضي، فمن المرجح أنه يركّز على الأحداث الإيجابية أكثر من السلبية، ويميل إلى أن ينسى الذكريات السلبية أو أن يتذكرها على أنها نقيض ما كانت، ويكون أيضاً أكثر عرضة لنسيان تأثيرها العاطفي في نفسه. قد يساعد تأثير الذاكرة المتحيز هذا في تفسير سبب اعتقاد الناس أن أخلاق الماضي كانت أفضل نسبياً من أخلاق اليوم.
اقرأ أيضاً: لماذا يضحك بعض الناس في المواقف الحزينة؟ وكيف تتعامل مع هذه الحالة؟
والآن، عندما تعمل هاتان الظاهرتان معاً تستطيعان إنتاج وهماً بالانحلال الأخلاقي؛ وذلك لأن التعرُّض المتحيّز للمعلومات حول الأخلاق الحالية يجعل الحاضر يبدو وكأن مدينة فاسدة ومنحلة أخلاقياً، في حين أن الذاكرة المتحيزة للأحداث تجعل الماضي يبدو وكأنه المدينة الفاضلة في الأخلاق. في المحصلة، يتوهم الناس أن الأخلاق تتدهور يوماً بعد يوم.
يقول عالم النفس ورئيس مختبر الأخلاق في كلية بوسطن في ماساتشوستس، ليان يونغ (Liane Young)، إن هذا التشاؤم بشأن الطبيعة البشرية أمر شائع جداً عندما يصدر الناس أحكاماً بشأن أولئك الذين ليسوا إلى جانبهم أو في مجموعاتهم، أما الأمر المثير للاهتمام فهو أن هذا التحيز يبدو أكثر انتشاراً ويتعدى التحيّز بين المجموعات.
ختاماً، قد يكون التحدي الكبير اليوم هو جعل الناس يقبلون أن لديهم مثل هذا الوهم البارز والشائع جداً، والذي قد يكون له عواقب مجتمعية وحتى سياسية مهمة، فالكثير من السياسيين اليوم يلعبون على وتر الانحلال الأخلاقي من أجل التلاعب بمشاعر الناس، بل إن 76% من الناس في الولايات المتحدة الأميركية اتفقوا على أن معالجة الانحلال الاخلاقي يجب أن يكون أولوية قصوى بالنسبة لحكوماتهم. فهل أزمة البشر في هذا العصر هي أزمة أخلاق أم شيء آخر؟