هل المبدعون جميعهم مضطربون نفسياً؟ إليك الإجابة المفصلة

5 دقائق
الإبداع
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)

ملخص: فينسنت فان غوخ قطع أذنه ومات منتحراً، تشايكوفسكي عانى الاكتئاب، رشدي أباظة عانى الاكتئاب وحاول الانتحار عدة مرات. في الواقع، لطالما وجدت علاقة بين الإبداع والاضطرابات النفسية في أذهان الناس، فما صحة هذه العلاقة؟ وهل المبدعون جميعهم مضطربون نفسياً حقاً؟

"لم يوجد عقل عظيم دون لمسة من الجنون". هذا ما قاله أرسطو منذ مئات السنين وما زال الناس حتى هذا اليوم يفترضونه، فالفكرة القائلة بأن الاكتئاب والأشكال الأخرى من الاضطرابات النفسية تسير جنباً إلى جنب مع الإبداع هي فكرة منتشرة على نحو كبير بين الناس؛ بل وأدت في بعض الأحيان إلى وسم المبدعين من رسامين أو كتّاب أو موسيقيين بالجنون. فهل هذه الفكرة هي مجرد صورة نمطية انتشرت بين الناس وغذتها حالات فردية أم أنها تحتوي بالفعل على ذرة من الحقيقة؟ هل المبدعون كلهم مضطربون نفسياً؟ وما الذي يقوله العلم في ذلك؟

اقرأ أيضاً: ما هي الهلوسة الفكرية؟ وما أعراضها؟

ما العلاقة بين الإبداع والسمات السيكوباتية؟

يقول الطبيب النفسي طلال علي في مقطع فيديو نشره على قناته في اليوتيوب، إن العلاقة السببية بين الاضطرابات النفسية والعبقرية غير دقيقة، فليس بالضرورة أن يؤدي كل مرض نفسي إلى العبقرية وليس بالضرورة أن يكون كل عبقري مريضاً نفسياً.

وإنما قد يكون ثمة بعض الصفات النفسية المشتركة، فالمبدع مثل الرسام أو الفنان قد يكون طَموحاً على نحو كبير وله أهداف ورغبات ضخمة، وعندما تصطدم هذه الرغبات بالمجتمع على نحو يصعّب تحقيقها يصبح الشخص أكثر عرضة للإصابة بالاضطرابات النفسية. وقد بينت إحدى الدراسات وجود بعض السمات المشتركة بين المبدعين وبعض الاضطرابات النفسية.

نفّذت مجموعة من علماء النفس بقيادة أدريان غالينغ (Adrianne Galang) في دراسة منشورة في دورية الاختلافات الشخصية والفردية (Personality and Individual Differences) عام 2017، سلسلة من الاختبارات بحثاً عن الارتباط بين الإبداع وسمات الاضطرابات النفسية، وتوصلوا إلى نتائج مثيرة للاهتمام؛ إذ تبين لهم أن المبدعين يميلون إلى مشاركة بعض السمات الشخصية الموجودة عند السيكوباتيين أكثر مما يتشاركون مع أقرانهم الأقل إبداعاً.

حيث أظهرت النتائج أن الأفراد الأكثر إبداعاً يُظهرون مستويات أعلى من عدم الأمانة والجرأة (المخاطرة) وإزالة التثبيط العاطفي (إزالة التثبيط هي حرية اتخاذ القرارات والتصرف وفقاً لمشاعر الشخص الداخلية مع وضع اعتبار أقل للضوابط التي تفرضها المعايير الثقافية أو المجتمعية).

وفقاً لغالينغ وزملائه؛ فإن المبدعين يحتاجون إلى بعض السمات الخاصة لتنمية مواهبهم في اتخاذ الخيارات الجريئة، ويجادلون في أن إزالة التثبيط العاطفي التي تأخذ صورة الجرأة السيكوباتية، هي في الواقع جزء لا يتجزأ من بعض الشخصيات الإبداعية، وهي مرتبطة وظيفياً بالعملية الإبداعية.

وثمة أساس فيزيولوجي لكل هذا حسبما ذكر الباحثون، فالفرد المبدع مثله مثل السيكوباتي؛ أقل تثبيطاً عاطفياً من الآخرين بمعايير الأعراف الاجتماعية؛ وذلك لأن النواقل العصبية المسؤولة عن التثبيط العاطفي تتضمن نظام الدوبامين الذي يسهم في الابتكار والميل إلى السعي نحو الحصول على المكافأة. قد يتشارك السيكوباتي والفرد المبدع في وفرة في نشاط الدوبامين؛ ما يجعل كل تجربة محفوفة بالمخاطر مجزيةً بالنسبة إليهما أكثر مما هي عليه بالنسبة إلى الشخص العادي.

لكن وعلى الرغم من أن الأشخاص المبدعين يميلون إلى امتلاك سمات شخصية مشابهة إلى حد كبير لتلك التي يمتلكها السيكوباتيون، فإن هذه السمات تميل إلى أن تكون أكثر ارتباطاً بالسمات الاجتماعية الإيجابية من تلك المعادية للمجتمع، وهذا يعني أن الأفراد المبدعين لا يزالون قادرين على الاندماج في المجتمع ولكنهم قد يكافحون للتعاطف مع الآخرين.

اقرأ أيضاً: متلازمة أليس في بلاد العجائب: الأعراض والأسباب

العلاقة بين الإبداع واضطرابات المزاج 

بحثت عالمة النفس كريستا تايلور (Christa Taylor) من جامعة نيويورك، في مراجعة نشرتها في دورية وجهات نظر في علم النفس (Perspectives on Psychological Science) عام 2017، فيما إذا كانت اضطرابات المزاج تسبب الإبداع، أو أن الإبداع يسبب اضطرابات المزاج، أو أنه ثمة متغير آخر غير معروف يسهم في حدوث الإبداع واضطرابات المزاج في آنٍ واحد.

وقد وجدت أن اضطراب ثنائي القطب الذي يتميز بفترات من الهوس والاكتئاب كان مرتبطاً غالباً بالابداع. في المقابل، لم يرتبط الإبداع باضطراب الاكتئاب المستمر المعروف أيضاً بـ "الاكتئاب المنخفض الدرجة". ومع ذلك، يشير البحث إلى أن الأشخاص المصابين باضطراب الاكتئاب الحاد يميلون إلى أن يكونوا أكثر إبداعاً من أولئك الذين يعانون الاكتئاب الخفيف.

لكن وعلى الرغم من ارتباط الاكتئاب الشديد واضطراب ثنائي القطب بالإبداع، فإن الأدلة لا تشير إلى أن الإصابة باضطرابات المزاج تعزز القدرة الفنية للفرد؛ بل قد يكون العكس هو ما يحصل؛ إذ قد تؤدي أنماط الحياة العالية التوتر التي يعيشها العديد من الفنانين والمبدعين إلى ظهور أعراض الاكتئاب، فالمواعيد النهائية الضيقة والتوقعات العالية والنقد اللاذع الذين يتعرضون لهم والسفر المكثف هي ظروف شائعة عند هؤلاء الأشخاص.

اقرأ أيضاً: من قمة الفرح إلى حافة الاكتئاب: كيف تتحكم بتقلباتك المزاجية؟

في الواقع، يمكن القول إن دراسة العلاقة بين الإبداع واضطرابات المزاج أمر معقد؛ لأنه غالباً ما يُخلط بين التجربة الإبداعية وبين اضطرابات المزاج. على سبيل المثال؛ يمكن لأعراض الهوس والهوس الخفيف أن تعكس السلوكات التي تحدث في أثناء المراحل الإبداعية الشديدة التي يختبرها الشخص؛ بما فيها الأفكار التي تحدث بسرعة وقلة الطعام والنوم.

غالباً ما تحدث هذه السلوكات عندما يكون الشخص المبدع في حالة تدفق؛ وهي حالة عقلية يصبح فيها الشخص أكثر تركيزاً وإبداعاً، ويُظهر خلالها تركيزاً مكثفاً ومركزاً بالإضافة إلى إحساس مشوه بالوقت.

وحسب ما ذكرت الباحثة؛ فإن هذه الدراسة ليست قاطعة لأن السؤال عما إذا كان الإبداع مرتبطاً باضطرابات المزاج هو سؤال عام جداً، وقد لا تمكن الإجابة عنه على نحو بنّاء؛ بل قد يؤدي إلى استنتاجات خاطئة أو مفرطة التعميم.

بالإضافة إلى ذلك، توصلت إحدى الدراسات التي شملت 1.2 مليون سويدي واستمرت على مدى 40 عاماً ونُشرت في مجلة البحوث النفسية (Journal of Psychiatric Research) عام 2013، إلى أن المبدعين لديهم معدل أعلى قليلاً للتشخيص باضطراب ثنائي القطب من عامة الناس. ومع ذلك، فإن نسبة حدوث اضطراب ثنائي القطب في هذه المجموعة ما تزال نسبة صغيرة.

ومن بين المهن الإبداعية التي اختبرها الباحثون، فقد كان الكتّاب أكثر عرضة للمعاناة من هذه الحالة وأكثرهم عرضة للانتحار أيضاً مقارنة بعامة الناس، في حين كان الراقصون والفنانون والمخرجون أقل عرضة من عامة الناس للإصابة بمرض نفسي.

اقرأ أيضاً: ما معنى اضطراب الشخصية، وكيف يمكن علاجه؟

العلاقة بين الذكاء العالي والاضطرابات النفسية

وجدت إحدى الدراسات المنشورة في دورية الذكاء (Intelligence) عام 2018، أن معدل الذكاء المرتفع هو عامل خطر محتمل للإصابة بالعديد من الاضطرابات النفسية والمزاجية مثل الاكتئاب والقلق واضطراب ثنائي القطب، بالإضافة إلى زيادة الفرصة للإصابة ببعض الأمراض المرتبطة بخلل التنظيم المناعي.

وقد دعمت نتائج هذه الدراسة فرضية "الدماغ الخارق" أو "الجسم الخارق" (Hyper brain or hyper theory)، التي تنص على أن الأشخاص ذوي القدرات الذهنية العالية لديهم حالة من الحساسية أو الاستثارة النفسية والفيزيولوجية المفرطة؛ ما قد يجعلهم معرضين على نحو أكبر للإصابة باضطرابات نفسية وأمراض فيزيولوجية مثل الحساسية البيئية والغذائية والربو وأمراض المناعة الذاتية.

اقرأ أيضاً: ما الاضطرابات النفسية التي تصيب الأذكياء؟ ولماذا تزيد إصابتهم بها؟

في الواقع، ثمة العديد من التفسيرات المختلفة لهذه الظاهرة بالإضافة إلى فرضية الاستثارة المفرطة والتي قد تكون جميعها ذات صلة إلى حد ما. أحد التفسيرات هو أن الجينات المرتبطة بالذكاء قد تجعل الشخص أكثر عرضة للإصابة بالأمراض النفسية، على الرغم من الذكاء لا يزيد خطر الاصابة بمرض نفسي مباشرةً.

بالإضافة إلى ذلك، وُجدت صلة إيجابية بين الإبداع والعصابية؛ والعصابية هي سمة شخصية ترتبط بالميل نحو اجترار الأفكار والتفكير السلبي؛ حيث يكون الأشخاص الذين يتمتعون بمستوىً عالٍ من العصابية أكثر عرضة للإصابة بالأمراض النفسية من الأشخاص الأقل عصابية.

الاحتمال الآخر هو أن الأشخاص ذوي معدلات الذكاء المرتفعة غالباً ما يكونون أكثر انعزالاً اجتماعياً ما يؤدي إلى المزيد من القلق والاكتئاب، وثمة احتمال إضافي أيضاً وهو أن الأشخاص الأكثر ذكاء غالباً ما يلجؤون إلى طلب المساعدة من المختصين على نحو أكبر؛ ما يزيد نسبة تشخصيهم بالاضطرابات النفسية.

ختاماً، يمكن القول إنه وعلى الرغم من وجود بعض الارتباط بين الاضطرابات النفسية والإبداع، فإن العلاقة معقدة وغير مفهومة تماماً؛ كما أن الأدلة التجريبية ما زالت غير كافية للتعميم والقول إن كل المبدعين مضطربون نفسياً.

المحتوى محمي