الأبوفينيا: عندما يُسقط الشخص هواجسه على كل ما يحدث حوله

4 دقائق
الأبوفينيا
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)

ملخص: الأبوفينيا تجربة إنسانية طبيعية تتميز بمحاولة إيجاد الأنماط والمعنى بين الظواهر والأحداث الخالية منها، وهي ليست حالة مرضية عادةً؛ لكنها يمكن أن تكون عرضاً للإصابة ببعض الاضطرابات النفسية.

انظر إلى هذه الصورة، ماذا ترى؟

shutterstock.com/Suzanne Tucker

غيمة على شكل جمل؟ حسناً، إذا كنت ترى السحب تشبه أشكال الحيوانات، أو ترى وجوهاً على نقشات السيراميك، أو تطَّلع على برجك يومياً بحثاً عن ترقية في العمل، أو تعتقد أن الكأس التي وقعت وانكسرت عندما كنت تفكر في أمر ما "إشارة"، فإن ما تختبره هنا عزيزي القارئ هو الاستسقاط أو ما يُعرف بـ "الأبوفينيا". فما هي الأبوفينيا بالضبط؟ وكيف تظهر؟ وما أسبابها؟ وما علاقتها بالمرض النفسي؟ وماذا تفعل إذا كنت تعاني منها أنت أو أحد أفراد أسرتك؟

ما هو الاستسقاط أو الأبوفينيا؟

يُنسب مصطلح "الأبوفينيا" (Apophenia) إلى طبيب الأعصاب الألماني كلاوس كونراد (Klaus Conrad)، عندما كان يصف الأعراض النموذجية للذهان عام 1958؛ حيث لاحظ أن الناس الذين يعانون الذهان يميلون إلى إيجاد أنماط ذات معنى بين الظواهر والأحداث على الرغم من عدم وجودها، ويُعتقد أن الأبوفينيا سمة مشتركة بين الحالات الذهانية التي تحدث فيها الهلوسة والأوهام.

لكن وقبل أن تفترض أنك مُصاب بحالة ما، عليك أن تعلم أن مفهوم الأبوفينيا، وعلى الرغم من أنه بدأ بوصفه وسيلة لوصف حالة ذهانية، فهو سمة تحدث بانتظام عند العديد من الأشخاص غير المصابين بالذهان.

ففي خضمّ بحثنا عن معنىً ومغزىً وعلاقات بين الأمور في حياتنا، يحاول معظمنا البحث عن أنماط غير موجودة، أو التوصل إلى استنتاجات حول ما يعنيه شيء ما عندما لا تكون الحقائق واضحة تماماً.

لأن فكرة وجود بعض الظواهر والأحداث التي ليس لها سبب واضح، قد تجعلنا نشعر بعدم الارتياح؛ ولذلك فقد نلجأ إلى إسقاط المعاني على هذه الظواهر حتى نشعر بالراحة ويصبح العالم أكثر منطقية.

إذاً؛ يمكن القول إن الأبوفينيا مصطلح لوصف السلوك البشري الذي يسعى الى إيجاد المعنى في الحالات التي لا يوجد فيها أي معنى، ويمكن أن تُدعى الأبوفينيا أيضاً بـ "الاستسقاط"؛ أي إسقاط ما بداخلك على ما يحدث معك، أو بـ "التنميط" وهو الميل إلى إيجاد أنماط ذات معنى حتى مع عدم وجودها.

هل الأبوفينيا اضطراب نفسي؟

ليست الأبوفينيا اضطراباً نفسياً، ويقول الطبيب علي جابر السلامة في مقطع قصير نشره على  حسابه في تويتر إن الأبوفينيا (أو الاستسقاط) ليست دليلاً على وجود مرض نفسي أو عضوي؛ وإنما هي توضح أن دماغ الإنسان مصمّم على ربط ما يراه ويسمعه، بما يعرفه.

في الواقع، البشر جميعهم يُظهرون هذا السلوك إلى حد ما في بعض الأحيان؛ أي يمكن لأي شخص سليم ومستقر أن ينخرط في الأبوفينيا لأنه من طبيعة البشر أن يبحثوا عن روابط أو يربطوا النقاط بعضها ببعض، وهو ميل شائع من التفكير يساعد على خلق النظام في عالم نشعر غالباً بأنه خرج عن النظام والمنطق.

لكن ومع ذلك، وعندما تكون حالة الأبوفينيا شديدة، فقد تكون علامة على بعض الاضطرابات النفسية مثل الذهان. والذهان هو حالة عقلية تتميز بفقدان الاتصال بالواقع، وهو عرَض قد يدل على العديد من الأمراض النفسية المختلفة؛ بما فيها اضطراب ثنائي القطب، والاكتئاب الشديد، والفصام. وفي الواقع، ترتبط الأبوفينيا ارتباطاً وثيقاً بالفصام، وهو مرض عقلي يتسم بالانفصال عن الواقع والمعاناة من الأوهام والهلوسة.

أسباب الأبوفينيا

لا توجد أسباب واضحة لحدوث الأبوفينيا؛ لكن قد تكون لها جذور في علم الأحياء البشري؛ حيث يعتقد بعض العلماء أن الأبوفينيا ربما أعطت البشر ميزة تطورية على مدار التاريخ. على سبيل المثال؛ يقدم المؤلف مايكل شيرمر مثالاً مثيراً للاهتمام يقول إن الإنسان الأول الذي سمع صوت حفيف الأعشاب كان لديه خياران؛ إما أن يربط هذا الصوت بوقع حيوان مفترس ويتصرف بناء على هذا الافتراض، وإما أن يفترض أنه لا شيء؛ إذاً لقد ساعد إنشاء الروابط بين الأحداث العشوائية في الابتعاد عن التهديدات المحتملة والبقاء على قيد الحياة. وعموماً، بالنسبة إلى لأشخاص الأصحّاء، قد تكون الأبوفينيا ناتجة من الأسباب التالية:

  • قد تكون الرغبة المتزايدة في العثور على الأنماط والمعنى مرتبطة بالحاجة إلى فهم العالم من حولنا.
  • قد يكون بعض أنواع الشخصيات أكثر عرضة للانخراط في الأبوفينيا مثل الشخصيات التي تتميز بدرجة عالية من الانفتاح.
  • قد ترتبط الأبوفينيا برغبة الإنسان في تفضيل النتائج الإيجابية، في حين قد يرى أن الافتقار الى المعنى الواضح يزيد سلبية النتائج.

في المقابل، وفي حال كانت الأبوفينيا مرتبطة بالذهان، فقد يكون ناتجاً من مرض نفسي ما مثل اضطراب ثنائي القطب أو الاكتئاب السريري أو الفصام؛ كما يعد الذهان أحياناً أحد الأعراض الناتجة من بعض الحالات الصحية مثل داء باركنسون أو آلزهايمر، أو أنواع أخرى من الخرف.

وفي حالات نادرة، يمكن أن يتسبب الحرمان الشديد من النوم في ظهور أعراض الذهان، وكذلك قد ينشأ نتيجة استخدام المخدرات والكحول واختلاطهما، أو استخدام بعض أنواع الأدوية الموصوفة.

أنواع الأبوفينيا

الأبوفينيا مصطلح عام يتضمن العديد من الأنواع؛ مثل:

  • الباريدوليا (Pareidolia): هي الاستسقاط البصري؛ أي الميل إلى رؤية الوجوه في العديد من الأغراض والأشياء الجامدة حولنا.
  • وهم التجميع والتشابك (Clustering illusion): هو ميل الناس إلى افتراض أن الأحداث العشوائية التي يرصدونها ما هي إلا بيانات تساعدهم على التنبؤ بحدث مستقبلي. على سبيل المثال؛ الطالب الذي اجتاز امتحاناً ما مستخدماً قلماً محدداً، قد يتنبأ أن الكتابة بهذا القلم فقط ستساعده على اجتياز الامتحانات القادمة كلها.
  • التحيز التأكيدي (Confirmation bias): هو الميل إلى قبول المعلومات التي تؤكد المعتقدات السابقة فقط.
  • مغالطة المقامر (Gambler's fallacy): هي الافتراض أنه إذا تكرر حدث عشوائي في الماضي كثيراً فمن غير المرجح أن يتكرر مرة أخرى في المستقبل القريب، والعكس صحيح. على سبيل المثال؛ إذا كنت ترمي قطعة معدنية في الهواء وأتت 9 مرات نقشاً، فقد تفترض أن المرة العاشرة ستكون صورة (طرّة)، على الرغم من أنه لا علاقة للنتائج السابقة بالحدث المستقبلي؛ أي يفترض الناس أن سلسلة سابقة من الأحداث المتكررة تؤثر في احتمالية الحدث المستقبلي على الرغم من أنها غير مرتبطة به!

كيفية التعامل مع الأبوفينيا

حسناً، إن قدراً من الأبوفينيا هو أمر طبيعي، فإذا كنت تستمع بقراءة برجك أو البحث عن صور مألوفة في السحب، فلا يوجد ما يدعو إلى القلق عادة. ومع ذلك، يوصي الطبيب علي جابر سلامة بألا تعطي ظاهرة الاستسقاط التي تلاحظها أهمية أكثر مما تستحق، فلا تطِل الفرح بها ولا الحزن أيضاً، ولا تبنِ عليها قرارات وكأنها انتصار لمبدئك أو خسارة له، فهي إشارة مبهمة ربطها الدماغ بمعنىً مقرب لك ليس إلا.

في الواقع، إن القلق الأكبر المرتبط بالأبوفينيا هو عندما تكون أحد أعراض الذهان، وقد تشمل علامات الذهان ما يلي:

  • وجود بعض المعتقدات والأفكار الخاطئة؛ مثل الاعتقاد بأن الشخص على الإنترنت أو التلفزيون يحاول إرسال رسالة خفية لك.
  • الهلوسة مثل رؤية أشياء غير موجودة أو سماعها.
  • جنون العظمة.
  • امتلاك أفكار غريبة لا معنى لها.
  • تغيرات شديدة في أنماط النوم.
  • عدم التمييز بين الخيال والواقع.
  • عدم القدرة على العمل في الحياة اليومية.
  • صعوبة في التواصل وتغيرات في أنماط الكلام.
  • عدم الاعتناء بالنفس أو النظافة الشخصية.
  • الانسحاب من اجتماعات الأصدقاء والعائلة.

إذا ظهرت عليك أنت أو أحد افراد أسرتك أيٌ هذه العلامات، فمن المهم طلب المساعدة من المختصين النفسيين في أسرع وقت ممكن؛ إذ وعلى الرغم من أن الذهان قابل للعلاج، ففي حال لم يُعالج، قد يصبح خطراً، وقد يصبح الأشخاص المصابون بالذهان مصدر خطر على أنفسهم وعلى الآخرين.

المحتوى محمي