يُعتقد أن اليابانيين هم من اخترعوا الكايزن، والحقيقة أنهم ليسوا من فعل ذلك؛ لكن طريقة الخطوات الصغيرة أثبتت جدواها فعلاً في بلادهم - أرض الشمس المشرقة. إن الكايزن؛ المصمّمة لعالم الشركات، دعوة للتغيير بهدوء لكن بعمق، فهي فلسفة تتكيف مع الرغبة في التغيير الشخصي.
تختفي وراء هذا الاسم ذو النغمة اليابانية، طريقةٌ طوّرها الأميركيون في بداية القرن العشرين لغايات إنتاجية، وتُعتبر الفكرة الرئيسية لهذه الطريقة مذهلةً في بساطتها، وتعني أنه يجب على كل فرد في الشركة تغيير أبسط شيء ممكن ليكون أكثر كفاءةً، وبتجميع هذه المبادرات كلها تتولد تغييرات عميقة ونتائج ملموسة.
تم تبني هذه الطريقة الإدارية القائمة على الخطوات الصغيرة من طرف اليابانيين في نهاية الحرب العالمية الثانية، وأطلقوا عليها اسم "كايزن"؛ المكون من كلمتيً "كاي" وتعني التغيير، و"زن"، وتعني الجيد؛ لكن كايزن أكثر من مجرد "تغيير جيد"، فالفكرة الكامنة وراء هذه الطريقة هي «التحسّن المستمر»، ولا يتعلق الأمر بالتغيير من أجل التغيير؛ وإنما بالتغيير من أجل إنجاز الأفضل - وهذا هدف يمكن أن نُكيّفه تماماً مع حياتنا الشخصية.
اقرأ أيضا: كيف نصل إلى السعادة؟
التغيير الطوعي
يتمثل مفتاح طريقة كايزن في الرغبة في التّأني. إنه نقيض التغيير الجذري، ويتعلق الأمر هنا بتجنب الوقوع في المأزق المعروف جيداً في هذا المجال؛ وهو الانطلاق بتسرع ثم الاستسلام بسرعة كبيرة. يكفيك إذاً التفكير في القرارات الصائبة لبداية العام؛ والتي نادراً ما تمتد صلاحيتها لأكثر من أسبوعين أو ثلاث أسابيع.
اقرأ أيضا: فوائد التأمل للصحة النفسية.
إننا غير مهيئين من الناحية البيولوجية للتغييرات الجذرية، فاللوزة الدماغية التي نمتلكها تسارع إلى إطلاق تحذير إذا شعرتْ بقطيعة مفاجئة في عاداتنا، فهي تربط هذه القطيعة باحتمال خطر وشيك، فيغطي التوتر والقلق على الفوائد المتوقعة من العادات الجديدة التي بدأنا ممارستها. وإذا أضفنا إلى ذلك ميلنا إلى التقليل من حجم القيود والعقبات التي تنتظرنا في طريق تحقيق هدفنا، فليس من المستغرب إذاً أن ينتهي بنا المطاف إلى الفشل التام.
وعلى الرغم من ذلك، فإن دماغنا قادر أيضاً على قبول الجديد؛ بل ودمْجه أيضاً. هذا هو دور الحُصين الدماغي الذي يسجل المعلومات ذات الصلة، وتلك التي تتكرر بانتظام، لذلك يبدو أن سر التغيير الناجح يكمن في إيجاد التوازن الدقيق الذي يسمح لنا بإدراج الجديد في حياتنا دون أن نفاجئ أدمغتنا ونُضرّ بها بالتالي - وهذا هو بالضبط ما تقدمه طريقة كايزن.
طريقة كايزن تتكيف مع جميع الأهداف
تقول سارة هارفي في كتابها "كايزن؛ طريقة الخطوة الصغيرة اليابانية لتغيير كل عاداتك" (إصدارات هوغو أند سي): «إن هذه الطريقة هي الأداة المثالية لكل من يريد تغيير حياته وعاداته، فبدلاً عن خوض غمار المجهول؛ تعرض عليك هذه الطريقة التراجع خطوةً إلى الوراء، وتحليل سلوكياتك الحالية؛ من أجل اتخاذ قرار بشأن التغييرات التي يجب إجراؤها، أو التفكير في مشاريعَ جديدة، ثم وضع خطة مكونة من خطوات صغيرة، وتقديمها بشكل تدريجي. لقد أثبتت هذه الطريقة المتّبعة منذ نصف قرن فعاليتها».
اقرأ أيضا: تمارين استرخاء للتخلص من التوتر.
إن طريقة كايزن اشتغال على الذات أولاً وقبل كل شيء، فلا يمكن لأحدنا أن يقول ببساطة «لقد اتخذت قراري، سأعتمد طريقة كايزن» إذا كان لا يعرف إلى أين يريد أن يصل. ونظراً لأن هذه الطريقة تصلح لكافة المجالات -المهنية وكذلك الشخصية، العملية وكذلك الروحية (بمعنى اشتغال الروح) أو الفكرية- فإننا نحتاج في البداية إلى تحديد هدف معين، ولذلك تفرض عليك طريقة كايزن أن تجلس مع نفسك لتفكر وتفهم ما تريد تغييره أو تطويره أو تحسينه في حياتك.
ولا يمكنك الانتقال إلى الخطوة الثانية إلا بعد امتلاكك رؤيةً دقيقةً عن هدفك (من الناحية المثالية؛ تستطيع تصور نفسك في طريق هذا الهدف أو تخيل نجاحك في تحقيقه مستقبلاً)، وتقسيم هذه الخطوة الثانية إلى مهام صغيرة (جداً)، ويجب أن تكون هذه المهامّ قابلةً للدّمج بسهولة في حياتنا اليومية؛ حتى يتم الانتقال إلى الروتين الجديد بسلاسة.
الصمود على المدى الطويل بالحفاظ على إيقاع الخطوات الصغيرة
بعد أن تتراكم واحدةً بعد الأخرى، تنجح العادات أو الإجراءات الصغيرة التي يتم اتخاذها يوماً بعد يوم، أو أسبوعاً بعد أسبوع، في تحويل حياتنا اليومية، وتقريبنا من هدفنا في النهاية. تقول سارة هارفي بهذا الخصوص: «ضع في حسبانك أن أهدافك قصيرة وطويلة المدى ستساعدك على الاستمرار في التركيز على دوافعك»، مضيفةً أن: «الخطوات الصغيرة ستجعل هذا التحدي أقل هولاً. وزيادةً على ذلك، فإن المشاريع الجديدة هي الطريقة المثلى للتخلص من عاداتك القديمة الضّارة، وتوجيه عقليتك نحو الأمور الإيجابية».
ولكن ماذا نفعل إذا استسلمنا؟ وهذا محتمل! من الناحية المبدئية؛ إذا كنا لا نزال متحفزين لمشروعنا، فإن الاستسلام يعني أننا وضعنا أهدافاً كبيرةً جداً، أو أننا نريد أن نسير في تحقيقها بسرعة كبيرة. وأسهل ما يمكن أن نقوم به هو العودة إلى آخر خطوة نجحنا في دمجها والانطلاق منها، وتقسيم الخطوة أو الخطوات الموالية إلى عدة خطوات أبسط.
وإذا كان مدروساً جيداً، فإن الجهد الجديد الذي سندمجه في حياتنا اليومية سيكون ضئيلاً للغاية لدرجة أنه لن يكلّفنا شيئاً، وهذا لا يعني أننا لا نتقدّم! علاوةً على ذلك، فمن المهم الاحتفال بالتقدم الذي نحرزه، والانتصارات التي نحققها، ولا حاجة للمبالغة في هذا الاحتفال؛ إذ يمكنك أن تدلّل نفسك بمشاهدة فيلم سينمائي، أو الخضوع لساعة من التدليك، أو أن تحظى بباقة من الزهور أو تتناول مشروباً مع الأصدقاء - وهي كلها مكافآت دالّة وتبعث على السرور.
إن طريقة كايزن بمثابة سباق للمسافات طويلة، وهذا يعني أن عليك الصّمود على المدى الطويل في اتباعها؛ لكنها أيضاً أداة هائلة لتحقيق التحول الشخصي، ولو على الأقل من ناحية إجبارنا على قبول التحلي بالصبر والتساهل مع أنفسنا. إن هذه الطريقة تدفعنا إلى الارتقاء نحو آفاق جديدة من خلال السماح لنا بتغيير العادات التي نريد التخلص منها، أو خلق عادات جديدة، أو تحقيق حلم ما (سواء كان ذلك الحلم هو خوض سباق نصف الماراثون، أو تأليف كتاب، أو تغيير الوظيفة… إلخ) أو تحقيق الاستقرار المالي (بتجنب إنهاء الشهر على إيقاع الدّيون على سبيل المثال؛ عن طريق شَغلنا بالتركيز على هدف معين)، وكل هذه الأهداف ستولد غالباً الرغبة في استكشاف آفاق أخرى.