ملخص: بعد الهجوم اللاذع الذي تعرض له مكتشف اللاوعي في السنوات الأخيرة ولا سيما في كتاب ميشيل أونفري المثير للجدل "أفول وثن: انهيار الأسطورة الفرويدية"، تأتي مراسلات فرويد مع أولاده ومنهم ابنته آنا (الوحيدة التي عملت بالتحليل النفسي من بين أشقائها) التي نُشرت على نحو متزامن لتسلط الضوء على جانب آخر من حياة عالم النفس، فعلى النقيض من صورة العالِم الصارم التي رسمها معظم المعلقين مثلاً، نرى رجلاً يحب روح الفكاهة ويتحلى بها ولا يأخذ الأمور دائماً بجدية تامة، فما الجوانب الأخرى التي نجهلها عن حياة فرويد؟
لم يكن فرويد ذلك الشخص الفاسد المنحرف الذي وصفه الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري بغية تفكيك نظرياته؛ إذ تُظهر مراسلاته مع أولاده التي لم يسبق نشرها، ألفة داخل العائلة التي لا تختلف كثيراً عن العائلات الأخرى.
بعد الهجوم اللاذع الذي تعرض له مكتشف اللاوعي في السنوات الأخيرة ولا سيما في كتاب ميشيل أونفري المثير للجدل "أفول وثن: انهيار الأسطورة الفرويدية" (Le Crépuscule d'une idole, l'affabulation freudienne)، تأتي مراسلات فرويد مع أولاده وابنته آنا (الوحيدة التي عملت بالتحليل النفسي من بين أشقائها) التي نشرت على نحو متزامن لتسلط الضوء على جانب آخر من حياة عالم النفس. كان فرويد الذي وُصف بالمتلاعب والفاسد، يشعر بفرحة كبيرة بعد وقت قصير من ولادة ابنته الكبرى ماتيلدا؛ إذ قال: "طفلتي تنمو على نحو ملحوظ، وتنام على الفور ليلاً، وهو ما يمكن لأي أب أن يفخر به". وعلى النقيض من صورة العالِم الصارم التي رسمها معظم المعلقين، نرى رجلاً يحب الفكاهة ويتحلى بها ولا يأخذ الأمور دائماً بجدية تامة.
كان فرويد يرى أن تسمية الأطفال بأسماء الأسلاف المتوفين طريقة لإحيائهم، لذلك سمى أطفاله على أسماء الشخصيات التي كان لها أثر كبير في رسم مسار حياته.
سمى ابنته ماتيلدا (1887–1978) على اسم زوجة جوزيف بروير وهو زميل فرويد وصديقه المقرب، وسمى الابن الأكبر جان مارتن (1889-1967) على اسم طبيب الأعصاب البارز جان مارتن شاركو الذي درس معه فرويد في باريس، وسمى الأوسط أوليفييه، الملقب بأولي، (1891-1969) لكثرة إعجابه باللورد الإنجليزي أوليفر كرومويل، أما ابنه إرنست (1892-1966) فكان اسمه تخليداً لذكرى الأستاذ إرنست بروك الذي دعم فرويد في بداية حياته المهنية، كما سمى ابنته صوفي (1893-1920) تخليداً لذكرى زميله الذي توفي قبل ولادتها وكانت زوجته تدعى صوفي، وأخيراً، آنا (1895-1982) التي منحها اسمها تيمناً بابنة أستاذه المفضل. اشتهرت صوفي بجمالها، في حين أن مظهر أختها الكبرى ماتيلدا لم يكن محط إعجاب كبير، وكانت الأخيرة تحب القراءة والاستماع إلى الأوبرا إضافة إلى اهتمامها بأبحاث والدها وطمحت إلى خلق حياتها الفكرية الخاصة لكنها لم تتمكن من ذلك، أما ابنة فرويد الصغرى آنا فقد كانت أكثر إصراراً وسارت على خطى أبيها.
لم يرِد فرويد لأولاده الستة أن يصبحوا محللين نفسيين، ولذلك كان على آنا أن تناضل لتثبت نفسها لديه وتصبح تلميذته ثم زميلته ومستشارته، حتى أنه حينما تقدم في السن كان يلقبها بأنتيغون الخاصة به، وهو اسم ابنة الملك أوديب. درس مارتن القانون أما أولي فقد أصبح مهندساً مدنياً؛ لكنه كان على اتصال وثيق بالتحليل النفسي حينما شُخص بمرض العصاب الوسواسي، وأصبح إرنست مهندساً معمارياً.
ربما يكون أولاد المعالجين النفسيين اليوم أولَ من يشتكي منهم، ومع ذلك يمكننا القول إنّ فرويد قد تأقلم مع دوره كأب على نحو مرضٍ، على الأقل إذا ما قبلنا تعريف التحليل النفسي "للأب الصالح": الشخص القادر على إرساء السلطة ووضع المبادئ التوجيهية مع احترام فردية أطفاله والسماح لهم بالتطور على طريقتهم الخاصة.
لا مواعظ ولا مواضيع محرمة
كان فرويد يعمل بلا كلل طوال العام من الفجر إلى الغسق، ومع ذلك كانت الأسرة تجتمع بأكملها صيفاً في منزل ريفي وسط الطبيعة حيث كان أفرادها يجددون الروابط فيما بينهم. تشهد العديد من الرسائل على حقيقة أن عائلة فرويد بأكملها كانت مفتونة للغاية بالجبال والغابات والطبيعة وسكان الريف. وعلى الرغم من أن أولاد فرويد لم يشاركوا في حياته المهنية على نحو مباشر، فإنهم لم يكونوا منعزلين عنها تماماً إذ عرفوا معظم زملائه ومرضاه، ولم يفرض فرويد شيئاً عليهم بل بادروا بأنفسهم إلى الاطلاع على طريقة والدهم العلاجية، وكان مارتن في صغره فخوراً بأنه الابن الأكبر لسيغموند فرويد.
في الوقت الذي تبادل فيه فرويد الرسائل مع أولاده لأول مرة كان الأخيرون قد أصبحوا شباباً ولكل منهم شخصيته وفي سن الزواج أو الخطبة. لم تتضمن الرسائل وعظاً كما لم تكن ثمة موضوعات يحظر الحديث عنها، فعند الحديث عن الصحة مع بناته لم يتردد فرويد في ذكر موضوع الحيض مثلاً. كانت المراسلات تنطوي على الاحترام والصراحة في آن معاً، وقد أوضح لماتيلدا في إحداها أنه إذا كان الكثير من طلابه ومرضاه يحلمون بالزواج منها، فذلك بسبب آلية "التحويل"؛ أي الرابط العاطفي بين المريض والمعالج الذي انتقل إليها، لذلك ينبغي لها ألا تبني أوهاماً في ذهنها.
في عام 1912، كتب فرويد إلى خطيب ابنته صوفي المصور ماكس هالبرشتات بحسه الفكاهي الاستثنائي: "عادت صوفي الصغيرة بحالة من الصفاء والسعادة وأخبرتني أنها خُطبت لك وأدركنا أنه لا خيار أمامنا سوى القبول، فلطالما كانت رغبتنا الوحيدة أن تحصل بناتنا على ما يرغبن به وفقاً لاختيارهن الحر كما فعلت أكبرهن، لذلك لا يمكننا إلا أن نبتهج بهذا الحدث. عبر فرويد عن رأيه حول اختيارات أولاده لكنه لم يسمح لنفسه أبداً بمنع رغباتهم أو كبحها؛ كما تعامل مع أزواجهم بحرارة حتى لا يشعروا أبداً بأنهم أفراد من "الدرجة الثانية" في الأسرة.
كان شعار فرويد الحفاظ على التلاحم داخل الأسرة، وهو ما كان يساعده في الحفاظ على توازنه في أصعب الأوقات، في أثناء المرض أو التهديد النازي. في رسائله إلى أولاده كان يكتب غالباً "نحن" أو "أمكم وأنا"؛ أي كان يعطي لزوجته الأسبقية، وهذا يناقض ما قيل عنه بأنه كاره للمرأة وأنه لم يكن يولِ زوجته مارثا أي اهتمام. دعم فرويد أولاده وأصهاره مالياً، حينما كانوا عاطلين عن العمل أو بحاجة إلى المال للعلاج، فقد أراد منحهم ما افتقر إليه في حياته الدراسية والمهنية، ولم يشعره ذلك بأن له عليهم فضلاً، وكان كرمه الذي لا ينضب هذا نابعاً من حاجته إلى التأكد أن أولاده ليسوا محرومين من شيء.
حينما توفيت ابنته صوفي بالتهاب الرئة في عام 1920، فقد فرويد رغبته في الحياة واحتفظ بصورتها في ميدالية ولم يتمكن من نسيانها، وبعد وفاة حفيده المفضل هاينرل بصورة مأساوية في عام 1923، شعر أنه لم يعد يهمه شيء لأنه كان الإنسان الأعز على قلبه. كتب فرويد بانتظام إلى أزواج أولاده وظل على اتصال مع ماكس هالبرشتات حتى وفاته، وفي نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1928، أرسل فرويد العجوز المريض هذه الكلمات لابنه إرنست: "على الرغم من كل شيء، كانت تجربة ثمينة بالنسبة إليّ أن أتعلم مقدار ما يمكن أن يحصل عليه المرء من أطفاله".