ملخص: ليس الحب وحده ما يجمع أفراد الأسرة الواحدة إذ ثمة روابط عميقة أخرى تقوم عليها المنظومة الأسرية؛ وأولها رابطة الشعور بالمسؤولية الأخلاقية التي تعني شعور الابن بأنه مدين لوالديه لأنهما أنجباه إلى الحياة وقدما له سبل العيش، ورغبته بسبب ذلك في السعي نحو تحقيق تطلعاتهما، ثم رابطة التوجيه الأخلاقي التي تعني مجموعة القيم الحميدة التي ينقلها الآباء بصدق للأبناء، فما العناصر الخمسة التي تشكل الرابطة الأسرية يا ترى؟
ليس الحب وحده ما يجمع أفراد الأسرة الواحدة إذ ثمة روابط عميقة أخرى تقوم عليها المنظومة الأسرية، فما هي يا ترى؟ تطلعنا عليها في المقال التالي الفيلسوفة ومختصة العلاج الأسري نيكول بريير (Nicole Prieur).
1. رابطة الشعور بالمسؤولية الأخلاقية
أساس رابطة المسؤولية الأخلاقية ضمن الأسرة هو شعور الابن بأنه مدين لوالده الذي قدم له الكثير، وكما أوضح عالم الأنثروبولوجيا مارسيل موس (Marcel Mauss) فإن العطاء ينشئ الروابط والعلاقات بين الناس وضمن الأسر من خلال 3 مراحل رئيسية وهي العطاء وتلقيه ثم رده. ويشعر الابن بأنه مدين لوالديه لأنهما جاءا به إلى الحياة وقدما له سبل العيش، ومن ثم فإن ذلك يولد لديه الولاء تجاههما ما يحثه على السعي نحو تلبية مطالبهما وتوقعاتهما. ويتميز مفهوم العطاء والولاء ضمن الأسرة بخصوصية معينة وحالة من عدم الاتساق، لأن هذا العطاء المتمثل في إنجاب الولد إلى الحياة قد لا يكون إيجابياً دائماً عندما تصيبه علاقته بوالديه بالصدمات والاضطرابات النفسية مثلاً، وعلى الرغم من ذلك فإن شعوره بأنه مدين لهما يلازمه على الدوام، فنحن نتساءل طوال حياتنا ومهما بلغنا من العمر عما ندين به لوالدِينا وعن كيف يمكننا رد هذا الدين إليهم. ولكن هذه الرابطة تجبرنا في الوقت ذاته على التحرر من هذا الالتزام ومن الولاء لتطلعات الأسرة التي ستحول دون تلبية تطلعاتنا الشخصية، فشعوري بأنني مدين لوالديّ لا يعني أنني مجبر على تحقيق رغبتهما في أن أدرس الطب مثلاً. ولا شك في أن من حق الوالدين أن تكون لديهما تطلعاتهما وتوقعاتهما من ولدهما؛ لكن إذا لم تكن هذه التطلعات سبيلاً لدعمه وجزءاً من أحلامه فإنها ستصبح عوائق في طريقه لذا يجب أن يتمكن من الانفصال عنها في مرحلة من حياته وتبني تطلعاته وأحلامه الشخصية. من جهة أخرى فإننا في كثير من الأحيان لا نرد الجميل لوالدينا مباشرة بل من خلال ما نقدمه للأجيال اللاحقة أي لأبنائنا، وهذا هو سر ديمومة رابطة المسؤولية الأخلاقية.
2. رابطة البنوة
تمثّل رابطة البنوة استجابةً لحاجة الشعور بالانتماء إلى أسرة بصرف النظر عن الرابطة البيولوجية، وتنسج هذه الرابطة بين الطفل وأسرته قصة نشأته معها التي تخبره من أين ينحدر وكيف رحب والداه بقدومه. ولا تتلخص هذه الرابطة في منح الطفل تاريخ ومكان الولادة فهذه الأمور لن تكون محور اهتمامه في سن 3-4 سنوات، ولتعزيز هذه الرابطة يجب مساعدته على إجابة أسئلته الفلسفية العميقة والإصغاء إليها جيداً فهو مهتم بمعرفة أصل العالم من حوله ككل: "من أين أتت الزهرة الأولى؟" و"ما الذي يرفع السماء ويمنعها من السقوط؟" و"أين كنتُ قبل أن أولد؟"، ومن هنا ينشأ شغفه بمعرفة الكثير عن الديناصورات، مخلوقات ما قبل التاريخ. اسأل الطفل عن الإجابات التي يتخيلها عن أسئلته ثم زوده بالعناصر التي تمكنه من التوسع في الموضوع. تحدث معه عما يتجاوز إطار عائلته وما عبر الأجيال مثل الجذور العميقة لأصول الجنس البشري، وساعده على توسيع نظرته لهذه المسائل سواء كان طفلاً صغيراً أو مراهقاً. ويمكنك أن تعزز رابطة البنوة مع ابنك المراهق الذي تتجادل معه باستمرار عندما تشاركه اهتمامك بفنان ما مثلاً، أو تحكي له عن بلد معين أنت معجب به فهذا سيخرج علاقتكما من إطارها المحدود ويعززها على الرغم من الأزمات، والفكرة هي ألا تقتصر الرابطة بينكما على النطاق الضيق للإطار الأسري والانفتاح على العالم الخارجي.
3. رابطة التوجيه الأخلاقي
تتمحور رابطة التوجيه الأخلاقي حول توضيح قيمنا تجاه العالم من حولنا لأبنائنا بأكبر قدر ممكن من الانفتاح؛ مثل الترحيب بالاختلافات ومراعاة الآخرين، ولا يمكننا نقل هذه القيم بإلقاء خطب بديعة بل من خلال تصرفاتنا التي تتسق مع مبادئنا التي ندافع عنها، لأن الأطفال يحبون الصدق ويكرهون التظاهر، فقد تسمع طفلاً يقول مثلاً: "أمي تقول لي ألا أكذب لكنها لا تتوقف عن الكذب". فكلما كانت سلوكياتنا أكثر اتساقاً مع القيم التي ندعو إليها كان المناخ الأسري أفضل وتمكنا من نقل هذه القيم إلى الطفل بسلاسة أكبر. ولا يعني ذلك أن يتفق أفراد الأسرة جميعهم في آرائهم لكن من الضروري وجود خلفية مشتركة تجمعهم معاً.
4. رابطة الانتماء
يعني الشعور بالانتماء الجوانب الطيبة والعادات الممتعة التي يتشاركها الطفل مع أسرته، سواء كنا نتحدث عن وصفات الطبخ أو عادات مثل قيلولة بعد الظهر أو القصص العائلية، وتشارك الأسرة هذه الطقوس مع كل طفل بطريقة مختلفة وفقاً لميوله واهتماماته؛ ما يخلق حالة خاصة من التآلف تعزز انتماءه وتشعره بأنه معترف به ومقبول بتفرده.
5. الرابطة الوجودية
تعني الرابطة الوجودية ضمن الأسرة الاعتراف بشخصية كل فرد منها وقبوله. يميل الكثيرون منا إلى حبس أطفالهم في توقعاتهم منهم، ويغفلون ضرورة تقدير مشاعرهم ومهاراتهم الخاصة على نحو كافٍ ما يمنعهم من الاستناد إلى الأسرة كركيزة ينطلقون منها نحو تحقيق ذواتهم. ويرى الفيلسوف بول ريكور (Paul Ricœur) أن الرابطة الوجودية بين الوالدين والولد تمر بعدة مراحل؛ إذ تبدأ بنظرة الوالدين التي تشهد على وجود الطفل وتُشعره بقيمته، ثم الرسائل التي يحاول الطفل إيصالها إلى والديه ومن المهم فهم هذه الرسائل حتى لو كانت غير مريحة للوالدين مثل محاولة الطفل التعبير عن شعوره بالظلم أو قسوة والديه. ثم تأتي مرحلة المراهقة التي يجب أن يُحسن الوالد خلالها الإصغاء لولده وما يمر به من مشكلات وأن يعرف الولد من جهته بأنه مسؤول عما يقوله ويبدأ بتحديد مساره في الحياة حتى لو كان مختلفاً عن رغبات والديه، وأخيراً يجب أن يتمكن من تقدير ما قدمته له أسرته فعندما يفكر فقط في عيوب أحد والديه أو كليهما أو أخطائهما تجاهه فإنه سيشعر بشعور كبير بالنقص وسيميل إلى إعادة إنتاج العلاقة كما يراها في الكبر. ومن ناحية أخرى، إذا ركز على الجوانب الإيجابية لوالديه فإنه سيصبح إنساناً أقوى، ومثال ذلك قولي إنه على الرغم من أن والدي لم يكن حاضراً بما فيه الكفاية في حياتي، فإنني لم أكن لأكتشف اهتمامي بالأدب من دونه. يسمح لك النظر إلى هذا الجانب الإيجابي بالتخلص من أثر أخطاء والدك في نفسك ومن ثم تجنب نقل ثقلها إلى الجيل الذي يليك لتكون ذاتك هي المنطلق والغاية، مهما كانت ظروفك الأسرية.