ليست ظاهرة الأحلام التحذيرية التي تنبئنا بالأحداث قبل وقوعها ضرباً من الخيال، فهي ظاهرة معروفة منذ الأزل ونتاج أكثر ملَكاتنا العقلية روعةً، فتعالوا لنتعرف معاً إلى تفاصيل أكثر حول هذه الظاهرة من خلال السطور التالية.
يصور فيلم الحركة والخيال العلمي "تقرير الأقلية" (Minority Report) للمخرج ستيفن سبيلبرغ (Steven Spielberg)، الولايات المتحدة في خمسينيات القرن الحالي؛ حيث تمكن المجتمع من السيطرة على الجريمة بفضل نظام متطور للتنبؤ بالجرائم قبل وقوعها يشرف عليه ثلاثة متنبئين معزولين تماماً عن العالم الخارجي ومتصلين طوال الوقت بأجهزة كمبيوتر تلتقط باستمرار أحلامهم الكابوسية التي تتميز بأنها تدور دائماً حول الجرائم محتمَلة الوقوع، ومن خلال تصنيف هذه الأحلام وتحليلها يمكن لمنظومة العدالة اكتشاف دلالات معينة على الجرائم التي ستقع مستقبلاً، وعلى الرغم من أن الفكرة ملائمة بالفعل لفيلم خيال علمي، فإنّ لها أساساً في الواقع.
سأتساءل معكم هنا: هل الأحلام التحذيرية مجرد فكرة خيالية؟ لا ليست كذلك. توضح مختصة التحليل النفسي جين ماري (Jeanne-Marie) أنها لم تومِن أبداً بهذه الظواهر الغريبة إلى أن حلمت في إحدى الليالي أن أختها قد تعرضت لحادث سير عند مفترَق طرق منطقة سان جان بفرنسا، ثم أخذت تفكر في هذه الرؤية المزعجة وتساءلت: "هل أشعر بالكره تجاه أختي إلى درجة أنني تمنيت موتها في اللاوعي فراودني هذا الكابوس؟". بعد ثلاثة أيام وقع الحادث عند مفترَق طرق سان جان ولحسن الحظ لم يكن حادثاً خطيراً، ولا حاجة إلى القول إن صدمة جين ماري بما حدث كانت أكبر بكثير من صدمة أختها التي تعرضت للحادث.
منذ فجر التاريخ راودت الأحلام التحذيرية آلاف البشر من مختلَف الحقب والحضارات، وبخلاف الأحلام "العادية" التي تتضمن رموزاً عادةً؛ ترينا الأحلام التحذيرية صوراً أكثر وضوحاً وواقعية ولذلك فإنها لا تتطلب تحليلاً أو تفسيراً لكي نفهمها.
هل يمكن للمنطق وحده تفسير ظاهرة الأحلام التحذيرية؟
منذ نشأة علم ما وراء النفس في نهاية القرن التاسع عشر، عكف العلماء على دراسة احتمال أن تكون الأحلام التحذيرية نتاج عملية تجري في المنطق اللاواعي حيث يركّب الدماغ حدثاً لا علامات تحذيرية ملموسة له، فالدماغ قادر على التقاط كم هائل من التفاصيل الصغيرة التي قد تفوتنا بما في ذلك الأصوات التي لا يدركها الوعي والصور العابرة والأفكار التي لم يصرَّح عنها بالكلام والإيماءات الدقيقة والروائح، وغيرها. وفي أثناء النوم، يعمل الدماغ على فرز هذه المعلومات وتصنيفها وإنشاء روابط فيما بينها ومن ثم يتمكن من التنبؤ بالأحداث التي يتعذر علينا إدراك احتمال وقوعها عندما نكون في حالة اليقظة، وهذا هو أفضل تفسير للأحلام ذات الطبيعة التحذيرية.
لكن الأمر يختلف عندما يتنبأ الحلم بمعلومات غاية في الدقة لا يمكن لأحد معرفتها، وهو ما حصل مع رَسَّام الكاريكاتير ومؤلف السلسلة الهزلية "مغامرات فيلومينون" (The Adventures of Philomenon)، فريديريك أوثون تيودور أريستيديس الشهير بـ فريد (Frédéric Othon Théodore Aristidès, AKA Fred)، الذي يقول: "بعد تعرُّضي لحادث سير تركت سيارتي لدى صديق ميكانيكي وطلبتُ منه أن يرسل إليّ فاتورة الإصلاح في أسرع وقت ممكن، وفي الليلة ذاتها حلمت أنّ المبلغ هو 1,511.22 يورو. كان الحلم جلياً ومؤثراً، وأخبرت زوجتي عنه صباح اليوم التالي. بعد مضي أسبوع اتصلت بصديقي فأخبرني أنه لم يعرف بعد تكلفة إصلاح السيارة فانتظرت أسبوعاً آخرَ لأتلقى منه فاتورةً قيمتها 1,511.22 يورو تماماً كما أخبرني الحلم!". وكما نلاحظ فإنه من الصعب الاعتماد على المنطق اللاواعي للحصول على تفاصيل دقيقة كما في هذه الحالة.
ظاهرة الأحلام التحذيرية والتجارب العلمية
بعد تحليل آلاف الأحلام التحذيرية العفوية أراد الباحثون إثبات وجودها علمياً لكن ذلك يتطلب تحفيزها أولاً، وعلى مدار أربعين عاماً أُجري عدد هائل من التجارب.
كانت أبرز هذه التجارب تلك التي أجراها مدير قسم الطب النفسي حينئذٍ في مستشفى مايمونيدس (Maimonides) في نيويورك بالولايات المتحدة أواخر سبعينيات قرن الماضي، مونتيغيو أولمان (Montague Ullman)، أما مبدأ التجربة فهو كما يلي: ينام المتطوع المتصل بجهاز تخطيط كهربية الدماغ في غرفة عازلة للصوت، ويراقب المشرف على التجربة مراحل نومه في غرفة مجاورة، وبمجرد أن يلتقط مرحلة نوم حركة العين السريعة (REM) يدع المتطوع يحلم لمدة 10 دقائق ثم يوقظه ليسمع منه تفاصيل ما شاهده ويدوّن المشرف أحلامه طوال الليل، وفي صباح اليوم التالي من التجربة تُرسل إلى دماغ المتطوع صورة مختارة عشوائياً من جهاز الكمبيوتر فإذا ظهرت في أحلامه يستنتج الباحثون أنه يرى حلماً تحذيرياً، لقد أسفرت هذه التجارب عن نتائج إيجابية وكررها الباحثون عدة مرات.
الأحلام التحذيرية وفيزياء الكم
إذا كانت ظاهرة الأحلام التحذيرية حقيقةً أي أنها تقدم لنا معلومات عن المستقبل فإن ذلك يغير مفهومنا حول نسيج الزمكان، وبالفعل فقد غيّرت فيزياء الكم التي تدرس الجسيمات دون الذرية من بين أمور أخرى أفكارنا حول آلية عمل الكون والوعي، وبخاصة عندما أظهر الفيزيائي الفرنسي آلان أسبيه (Alain Aspect) في عام 1982 أنه يمكن للمعلومات أن تنتقل بين جسيمين بسرعات أكبر من سرعة الضوء ومن ثم يمكن عكس الزمن، ومنذ ذلك الحين حاول الكثير من العلماء وما يزال يحاول حل هذا اللغز، وتوصل جميعهم إلى النتيجة ذاتها: إنّ الزمن كما نعرفه أي الثابت الذي لا يمكن عكسه والذي يمضي يوماً بيوم، لا يمثل الصيغة الوحيدة للزمن الذي يحكم هذا الكون.
إذا كانت الأحلام التحذيرية تقدم لنا معلومات عن المستقبل، فهل بإمكاننا الاستفادة منها في منع حدوث الكوارث أو إحباط المخططات الإجرامية كما رأينا في فيلم سبيلبيرغ؟ أسس الطبيب النفسي البريطاني جون باركر (John Barker) ما أسماه "سجل الأحلام التحذيرية المركزي" (Central Premonitions Registry) في ستينيات القرن الماضي ليحاول إجابة هذا السؤال، وخلال 30 سنة من نشاطه تلقى آلاف الشهادات لكنه استنتج أن الأحلام التحذيرية تحدث قبل يومين إلى أربعة أيام من الحدث المتوقَّع، ولذلك فإنه ريثما يتلقى المعلومات وينهي تحليلها سيكون الأوان قد فات.
ما فائدة الأحلام التحذيرية؟
إذاً هل ثمة أي فائدة تُرجى من الأحلام التحذيرية؟ تقول أستاذة العلوم الإنسانية ومؤلفة كتاب "عقلك معالج حقيقي" (Your mind is healer)، كريستين هاردي (Christine Hardy): "نعم، فتطوير هذه الموهبة الخفية التي تشبه قوة الحدس سيعود عليك بمنافع كبيرة أبرزها أن الإنصات لهذه الأحلام دون أي تصوّرات مسبقة يتيح لك توسيع منظورك لمستقبلك ومن ثم فهم الحياة فهماً أفضل. إننا نتحدث هنا عن مد جسر بين الوعي واللاوعي من خلال الرسائل التي يرسلها الثاني للأول، وكلما أفسحت المجال لذلك أكثر زادت قدرتك على اكتشاف مكامن قوتك الداخلية".
ووفقاً للمختصة فإن ذلك يتطلب أن يشكك المرء في أفكاره ويسلم بأنّ العقل الذي ما يزال لغزاً للعلم قد يحمل مواهبَ فطرية لا يمكن تصوّر قوتها.
كتب مؤلف رواية "كتاب الأدغال" (The Jungle Book)، روديارد كيبلينغ (Rudyard Kipling) في مذكراته: "تيقنت ذات يوم أنني قد تجاوزت الحدود التي رسمها لي القدر".
في أحد أحلامه رأى روديارد كيبلينغ نفسه مرتدياً بزة لم يرتدِ مثلها قط، ويقف في غرفة كبيرة أرضيتها مرصوفة بحجارة متصدعة وسط عدد من الناس يرتدون الثياب ذاتها وخلفهم حشد، وعلى يساره كان يُقام احتفال ما لم يتمكن من تبيان ماهيته لأن بطن جاره الكبيرة كانت تحجب الرؤية عنه، ثم اختفى الحشد وامسك شخص بذراعه وقال له: "أود أن أقول كلمةً لك".
كان كيبلينغ منزعجاً من هذا الحلم الجليّ للغاية وظل يفكر فيه معظم الوقت دون أن يفهم معناه، وبعد شهرين حضر حفلاً في كنيسة وستمنستر وللمفاجئة فقد كان كل تفصيل هناك مطابقاً لما رآه في الحلم: الزي غير العادي وصفّ الناس والحشد خلفه وحجارة الرصف القديمة وحتى بطن جاره الكبيرة التي منعته من رؤية الاحتفال! وفي النهاية، وضع أحدهم يده على ذراعه وقال له: "أود أن أقول لك كلمةً من فضلك"، ويضيف الكاتب في ختام قصته: "ولكن كيف ولماذا أتيحت لي الفرصة لأشاهد ذلك المشهد الطويل المستقبلي من حياتي؟"
اقتُبس فيلم "تقرير الأقلية" عن قصة قصيرة لفيليب ديك (Philip Dick) نُشرت في عام 1956، وهو ليس مجرد فيلم حركة وخيال علمي، فالرؤية التي صوّرت المحقق الرئيسي في المشروع، جون أندرتون الذي أدى دوره الممثل توم كروز، وهو يقتل رجلاً لم يره في حياته بطلق ناري حدت به إلى طرح الأسئلة ذاتها التي نطرحها على أنفسنا ولعل أبرزها: هل مستقبلنا مكتوب أم بإمكاننا تغييره؟ وما مفهوم الإرادة الحرة؟
ولربما يزيد اهتمامنا بالبحث عن إجابات أسئلة كهذه عندما ندرك مدى توافق عناصر أحلامنا التحذيرية مع تجارب العلماء وملاحظاتهم حول هذا الموضوع على مدار السنوات العشرين الماضية.