على الرغم من عدم ثقة الجمهور بالسياسة فإن الحديث عنها ما زال وجبةً دسمةً في جلسات العائلة والأصدقاء، فترى الخلاف والنقاش محتدماً في هذه الأجواء الحميمة. ولكن لمَ تثير النقاشات السياسية حماس الناس إلى هذا الحد؟
ظن أدريان ذو الـ 40 عاماً أن الخلافات بينه وبين والديه قد انتهت بعد أن بلغ هذه السن؛ لكن ما حدث ذكّره بخلافاته معهما عندما كان مراهقاً. يقول أدريان: "كان ذلك في اليوم التالي لآخر مناظرة حول الانتخابات التمهيدية لليمين، ومن سوء حظي أنني عبرتُ عن استيائي من ضعف المرشحين وخطاباتهم ثم تحدث والدي عن فرانسوا هولاند ورفضي التصويت له فقال غاضباً: "بسبب أشخاص مثلك سيخسر الحق!". وعلى الرغم محاولات والدتي لتهدئته فإن شيئاً لم يوقفه وكأنه جن جنونه، وبدوري أبديت اعتراضي على كلامه وصرخت فازداد غضباً وبدأ يرتجف إلى درجة أنني خفتُ أن يُصاب بنوبة قلبية، فغادرت وقررت عدم زيارة والديّ مجدداً قبل صدور نتائج الانتخابات الرئاسية".
تتحدث ماريون وهي مصممة أزياء تبلغ من العمر 25 عاماً عن وجبة الغداء العائلية التي تحولّت إلى كابوس أيضاً، فتقول: "بينما كنا نتناول الغداء أعلن أخي الأصغر أنه سئم من النظام الحالي وأنه سيصوت لمارين لوبان وأن علينا جميعاً أن نحذو حذوه ثم اندلع جدال عنيف، وعلى الرغم من أن والدتي تمكنت من تهدئة الأمور فإن الجو أصبح ثقيلاً جداً بيننا جميعاً".
نتساءل هنا عن سبب حماس الناس للنقاشات السياسية في حين أن معدل الامتناع عن التصويت في الانتخابات الفرنسية يتزايد باطراد منذ عشرين عاماً؛ إذ بلغ 19.6% في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية لعام 2012، و44.6% في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية للعام نفسه. وتقول عالمة الاجتماع آن موكسل (Anne Muxel): "ثمة فجوة بين الحكام والمحكومين". ولكن على الرغم من حالة النأي بالنفس هذه فإن الفرنسيين ما زالوا مهتمين نسبياً بالسياسة، فعدم ثقتهم بها لا يحول دون رغبتهم في التعبير عن وجهات نظرهم. ولكنّ الملاحَظ أنّ ذلك يتجلى في مظاهر الانتقاد والاحتجاج والإدانة والاستياء اليوم أكثر من أي وقت مضى، وهذا في الحقيقة جزء من حالة التعب والسخط التي يشعر بها الناس.
النقاشات السياسية طريقة لمواجهة الشعور بالعجز
يستحضر مختص الطب والتحليل النفسي آلان دينو (Alain Deniau) في هذا السياق ظهور حالة من التمرد في مواجهة الشعور بالعجز ومحدودية الخيارات والانطباع بأن لا فائدة ترجى من الأحزاب المتطرفة، ذلك أن في أعماق كل منا رغبة في رؤية الأحوال تتغير نحو الأفضل. وعلى الرغم من أننا لا نشهد انقساماً سياسياً داخل العائلات مماثلاً لذلك الذي رافق اندلاع صراع اجتماعي وسياسي نهاية القرن التاسع عشر في عهد الجمهورية الفرنسية الثالثة فيما يعرف بقضية دريفوس، فإنه لا يمكننا إنكار ظهور حالة من نوع جديد في المجتمع.
على خلفية الأزمة الاقتصادية وتزايد انعدام الأمن منذ موجة الهجمات التي عصفت بالبلاد، مهدت هذه البيئة المحفوفة بالقلق والخوف وانعدام الثقة الطريق أمام الخطابات القائمة على عدم الثقة ورفض الآخر. ويرى المحلل النفسي رولاند غوري (Roland Gori) في صعود التطرف والراديكالية وحرية التعبير عن المواقف والتصويت الذي كان يُعد يوماً ما من المحظورات، أحدَ أعراض ما عرَّفته الفيلسوفة حنا أرندت بـ "وحدة الفرد"، ويقول: "تؤدي الفردية إلى بيئة اجتماعية ممزقة يعاني الناس فيها عدم قدرتهم على الدخول في علاقات مع بعضهم بعضاً، فيقعون ضحايا لكل أوجه الافتراس الممكنة". فعندما يُفرغ خطاب أصحاب السلطة من جوهره السياسي، تجذب الأحزاب الجماهيرية بعض الأشخاص ممن يبحثون عن الهوية والذات ومنها النازية والفاشية بالأمس، وحركات اليمين المتطرف والتطرف الديني مثل داعش أو القاعدة اليوم. وبسبب ندرة المساحات الحقيقية للتعبير والنقاش؛ يحاول الشباب اليوم إيجاد بدائل مثل التحدث عبر شبكات التواصل الاجتماعي وتنظيم المظاهرات. وبالفعل، في حين شارك شخص من كل شخصين في المظاهرات التي نظمها الشباب، فإن نسبة المشاركين من النقابات لم تتجاوز 4%.
النقاشات السياسية تسمح لنا بتكوين القناعات
في هذا السياق، يرى مختص التحليل النفسي أن الجدالات والنقاشات السياسية الساخنة ضمن الأسرة وبين الأزواج والأصدقاء تُمثل ظاهرةً حيويةً لأن السياسة مجال للكلام والتعبير عن العواطف ووجهات النظر وهي كلها عوامل تساعد على إنشاء الروابط بين البشر وتنميتها، وتُعد الأسرة المساحة الأكثر طبيعية في هذا الخصوص إذ إنه من المنطقي أن يجد الأقارب أنفسهم متحمسين للتعليق في أثناء وجبات الطعام مثلاً على الأحداث الوطنية التي تغطيها الأخبار التلفزيونية.
من جهة أخرى تُمثل النقاشات السياسية حيزاً يسهم في بناء هوية الفرد وتكوين قناعاته تدريجياً. تقول آن موكسل: "يعي الطفل خلال تطوره الميول السياسية للبيئة التي ينشأ فيها ويؤدي هذا الوعي دوراً مهماً جداً في تكوين شخصيته ذلك أن قناعاته جزء جوهري من هويته". وتتيح السياسة للفرد ترسيخ مفهوم الآخر مع الجماعة كما أنها تحدد مجموعة من المواقف والقيم والأفكار الرئيسية التي ستساعده على إعطاء معنىً لحياته وإدراك دوره في هذا العالم، إضافةً إلى ذلك فإن عملية رفض مواقف أفراد العائلة السياسية أو قبولها تسهم في صقل هويته أيضاً.
يقول الفيلسوف يوهان غوتليب فيشته (Johann Gottlieb Fichte): "الأنا تظهر عندما تواجه اللاأنا": ترى ميشيل وهي رائدة أعمال تبلغ من العمر 50 عاماً أنها ثقفت نفسها سياسياً وفكرياً بسبب موقفها السياسي المخالف لوالدها الذي كان ناشطاً في يمين الوسط، ووالدتها المؤيدة لجاك شيراك. وتقول ميشيل عن النقاشات التي كانت تدور بينها وبين والديها: "كانت الأجواء مرحةً رغم سخونة النقاشات وشعوري ببعض العزلة بسبب اختلاف مواقفي عن مواقف والديّ وأختي الكبرى التي كانت منضويةً تحت مظلتهما الأيديولوجية أيضاً".
البيئة الآمنة تشجعنا على خوض النقاشات السياسية
لا أفضل من الحوارات السياسية مع أفراد العائلة لتطوير المهارات الخطابية وتعزيز الروابط معهم باستخدام التواصل اللغوي. ويقول رولان غوري: "تتسم الحوارات السياسية الأسرية بأنها أقل عنفاً من تلك التي تدور في بيئات أخرى، فنحن نشعر مع الأسرة بأكبر قدر ممكن من الثقة والجرأة ولا نخاف التعرض للوصم بسبب آرائنا". من جهة أخرى، وبخلاف ما كان عليه الحال في الماضي، يتمتع أفراد الأسرة اليوم بحرية التعبير عن آرائهم دون أن تُمثل السلطة الأبوية حاجزاً يمنعهم من ذلك؛ إذ أصبحت النقاشات تُدار بشكل أفقي لا عمودي. ولا نقول هنا إن السلطة الأبوية قد تلاشت؛ لكن ما حدث هو أن حرية التعبير ومساحة الحوار والمشاركة اتسعت أكثر على مدى السنوات العشرين الماضية، وصارت آراء الجميع تؤخذ بعين الاعتبار. وكما قالت آن موكسل في كتابها: "ربما يكون التحدث عن السياسة أسهل مع أحبائك وزوجتك وأصدقائك".
أخيراً نقول إنّ إجراء حوار داخلي عفوي وجليّ مع النفس حول المسائل السياسية هو السبيل نحو التطور الفكري فهذا الحوار الداخلي هو منشأ الفكر الإنساني وتفرعاته. ويقول رولاند غوري: "تُمثل حالة المناقشة الداخلية والاختلاف مع الذات منبع الفكر". عندما نفكر فكأنما أصبحنا شخصين في جسد واحد، وتسمح لنا البيئة العائلية بإخراج ما نناقشه داخلياً إلى العلن. وبسبب قربهم منا؛ سيكون آباؤنا أكثر استعداداً من غيرهم لفهم ما يدور في أنفسنا.
تتيح لنا الاختلافات التي تظهر في النقاشات السياسية مع أحبائنا الوصول إلى آفاق جديدة في مساحة آمنة ما يساعد على تطوير علاقاتنا بهم ويحفزنا للتعبير عن مختلف رغباتنا. وكما قالت آن موكسيل: "إنها الرغبة في الخروج عن المألوف والتفكير خارج الصندوق والتحفيز الذاتي وإقناع الآخرين بآرائنا لنعزز قناعتنا بها في مواجهة الشدائد، وهي باختصار علامات على الصحة النفسية السليمة".