كيف يمكن للتبعية العاطفية بين الأزواج أن تكون إيجابيةً؟

4 دقائق
التبعية العاطفية
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)

بعد مضي سنوات على قصة حبهما ما زال هذان الزوجان "يدمنان" بعضهما بعضاً، وقد يُنظر إلى حالتهما على أنها تبعية عاطفية مرضية تؤدي إلى فقدان الذات. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه الرابطة القوية يمكن أن تعزز حرية طرفيها في الوقت ذاته، فكيف ذلك؟ نتعرف إلى تفاصيل أكثر حول هذا الموضوع من خلال السطور التالية.
تقول سوسن ذات الـ 34 عاماً: "تعرفت إلى زوجي وائل في الجامعة، ومنذ ذلك الحين بتنا نقضي معظم الوقت معاً ثم تزوجنا وأنجبنا، وزاد أطفالنا من قوة الرابطة بيننا وأنا لا أشعر أنني أكتمل إلا به". قد يكون اعتراف سوسن هذا مفاجئاً في مجتمع ينظر إلى التبعية العاطفية كوصمة، ويمجد الاستقلالية والفردية والإنجاز الشخصي على حساب الحب والالتزام والاندماج؛ لكن ماذا لو كانت نظرتنا إلى الحب خاطئة؟ وهل يتلخص فعلاً في الحاجة إلى الآخر وعدم القدرة على الابتعاد عنه والرغبة في تملكه؟

تقول سوسن: "لقد قررنا الزواج بسرعة لأنه لم يعد بإمكان أحدنا الاستغناء عن الآخر، ولم نكن نقبل فكرة الابتعاد عن بعضنا بعضاً ولو لبضع ساعات". من تريستان وإيزولت إلى فيليب دجيان وشكسبير أو آلان فورنييه، أفرد الأدباء الكثير من الصفحات لوصف الحب الذي يجتاح النفس بهذه الطريقة والرغبة القوية في الآخر، وكان الكاتب الفرنسي ستاندال قد أطلق على تزيين شريك الحياة بكل الصفات الرائعة والشعور بالحاجة المستمرة إليه في كتابه "في الحب" (In De l'amour)، اسم "البلورة". ويرى عالم الاجتماع ومؤلف كتاب "الحب الانشطاري" (L’Amour fissionnel) سيرج شومييه (Serge Chaumier) أن هذه الحالة تُعد حالة مرضية فيقول: "إن هوس كل طرف بالآخر هو مرض لكنه مرض لذيذ".

العلاقة الاندماجية في مرحلة الطفولة

يمكن تشبيه التبعية العاطفية بحالة الغبطة الصوفية التي ينسى فيها المرء ذاته فيندمج بحب وشغف في طقوسها؛ ولكن يمكننا في الوقت ذاته تفسير هذه الحالة بطريقة أكثر واقعية باعتبارها ضرورة بيولوجية لضمان تكاثر الأنواع وحمايتها. تقول عالمة البيولوجيا العصبية ومؤلفة كتاب "كيف نصبح عشاقاً؟" (Comment devient-on amoureux؟)، لوسي فنسنت (Lucy Vincent): "الحب هو عملية تتضمن شخصين بالغين يجد كل منهما الآخر رائعاً إلى حد الرغبة في البقاء معه والشعور بالتعاسة عند الابتعاد عنه، وتؤدي الكيمياء الدماغية الناجمة عن الحب إلى حالة من الإدمان "تعمي" كل طرف عن أخطاء الآخر الأمر الذي يسمح لهما بالاندماج"، ووفقاً لعلم الأحياء فإن هذه النشوة بين العاشقَين تستمر لثلاث سنوات فقط.

نتسم نحن البشر بأننا كائنات معقدة، لذلك فإنه لا يمكن الاكتفاء بتعريف الحب من الناحية الفيزيولوجية؛ إذ ثمة العديد من العوامل الأخرى التي تسهم في بناء هذه الرابطة وتعزيزها بمرور الوقت، فعلاقة الحب قبل كل شيء انعكاس لما عاشه الفرد مع والديه، وبخاصة والدته، في مرحلة الطفولة. وكان طبيبا نفس الأطفال والمحللان النفسيان البريطانيان دونالد وينيكوت (Donald W. Winnicott)، مؤلف كتاب "أم صالحة للغاية" (The Good Enough Mother) وجون بولبي (John Bowlby) مؤلف كتاب "التعلق والفقدان" (Attachment and Loss) وعالمة النفس الأميركية ماري أينسوورث (Mary Ainsworth) قد سلطوا الضوء على أهمية هذه العلاقة المحورية في حياة الإنسان، فعندما تطعم الأم طفلها وتعانقه وتلبي نداءاته واحتياجاته، تنشأ بينهما رابطة اندماجية تسمح له بإدراك كيانه وإذا منحته هذه الرابطة الأمان الكافي فإنه سيتمتع بالشجاعة اللازمة لاستكشاف العالم من حوله، وبخلاف ذلك فإنه سيمضي حياته باحثاً في علاقاته العاطفية عن ما افتقر إليه في علاقته مع أمه. ووفقاً لمختصة التحليل النفسي فيرونيك بيرجيه (Véronique Berger)، فإن بداية قصة الحب هي أشبه بالتلاقي مع الأم مجدداً بالنسبة إلى الفرد.

كيف يتيح لك الاندماج مع الآخر أن تكون نفسك؟

تقول سوسن: "هذه الخصوصية والقرب هما السمتان الأساسيتان لعلاقتنا، ولا يمكنني تخيل حياتي دون وائل، لقد عشنا الأزمات واللحظات السعيدة معاً. إنه جزء مني وأنا جزء منه وأثّر كل منا في الآخر، ولا يمكن أن أكون ما أنا عليه من دونه".

وتؤكد سوسن ثراء رابطة الحب فتوضح أن عدم قدرة كل طرف على العيش دون الآخر لا يعني فقانه لذاته بل على العكس إذ إن هذا التلاحم العاطفي يتيح لكل منهما الفرصة ليكون نفسه أكثر. تقول مختصة التحليل النفسي ماري ليز لابونتي (Marie Lise Labonté): "يمكن صياغة الاندماج في علاقة الحب بـ 1+1=3، فهذا الاندماج هو الذي يحول شكل العلاقة من "أنا" إلى "نحن". خلصت أستاذة علم النفس في جامعة باريس رافائيل ميليكوفيتش (Raphaëlle Miljkovitch) خلال عملها وأبحاثها التي أجرتها مع العديد من الأزواج إلى أن "الرابطة هي نتاج الشعور بالحب ولكي تنشأ يجب أن يوافق الطرفان على حالة التبعية المتبادلة". وهذا هو رأي لمى ذات الـ 45 عاماً وهي متزوجة من 26 سنة؛ إذ تقول: "إن الاندماج مع الآخر يعني ألا تفقد نفسك". وتتابع: "لقد مرت علاقتي مع زوجي بصعوبات عديدة في هذا الشأن لكن وعينا مكّننا من تجاوزها".

تمر رابطة الحب خلال نسجها ببطء بحالتين متناقضتين؛ الأولى هي الخوف من خسارة الطرف الآخر والثانية هي الخوف من الذوبان في العلاقة إلى حد فقدان الذات، خوف كان دون جوان الذي لم بتعلق بامرأة قط قد عبّر عنه وهو يعكس الخوف القديم من فقدان الذات المترسخ في النفس البشرية والمرتبط بعقد أوديب التي سلط فرويد الضوء عليها، فلكي تتجنب فقدان نفسك هناك حل واحد فقط وهو أن تهرب من كل علاقة تعلق أو تبعية. تقول رافاييل ميلجكوفيتش: "شجع المجتمع على الاستقلال الذاتي إلى درجة أنه جعل منه قيمة جوهرية"، ويصف سيرج شومييه هذه الصورة الوهمية بأنها خطاب تحرري مادي وتفاقم للفردية لا يتوافق مع رباط الحب، وفي هذا السياق أضحى إدمان الحب يشبّهُ بإدمان المخدرات ومن ثم يشار إليه على أنه حالة من الضعف يفقد فيها المرء السيطرة على نفسه. ومع ذلك يؤكد عالم الاجتماع أن التبعية هي غذاء الرابطة العاطفية، ولا يجوز اختزالها بحالة إدمان، ولعل هذه الرغبة في تأكيد الفردية على حساب الحياة المشتركة ترجع إلى صعوبة الحفاظ على الرابطة الزوجية.

معاً دون أن يفقد أحدنا نفسه

يمثل الحب حالةً متناقضةً فوراء فكرة التبعية العاطفيةتختفي ضرورة العطاء، لأن قبول رابطة الحب وتنميتها يعني التخلي عن الأنانية والتحلي بالتواضع ونسف وهم القدرة الفردية المطلقة، وبمجرد أن يفكر الطرفان بهذه الطريقة وتصبح التبعية متبادلة بينهما، سينعم كل منهما بحريته وهذا ما يعيدنا مرةً إلى مرحلة الطفولة، فعندما ينعم الإنسان بعلاقة حب تمنحه الاطمئنان سيتمكن من تنمية ذاته. تقول سوسن: "حبنا يمنحني الشجاعة اللازمة للمضي قدماً نحن ندعم بعضنا بعضاً لنزدهر وسر ذلك أن كلاً منا ينظر إلى الآخر نظرة الأم الحانية إلى طفلها".

يتيح لك الوثوق بمشاعر شريكك القدرة على الوصول إلى حريتك الداخلية أما إذا كنت تستهلك نفسك في الشكوك التي تساورك باستمرار في هذا الشأن فلن تتمكن من الانفتاح على الحياة. ويتطلب التمتع بهذه الحرية التي تنمي مواهبك وتفتح شهيتك على الحياة أن تعرف كيف تنمي التبعية "الحميدة" في العلاقة، وكما يقول باسكال: "الثقة هي إدراك فعالية الآخرين في حياتنا"، والوقت كفيل بتعزيز هذه الثقة ومن ثم الروابط بين طرفي العلاقة. وتقول ماري ليز لابونتي: "عندما تغذي روحك من جوانب أخرى في الحياة ستمتلك الطاقة اللازمة لتغذية حياتك الزوجية". خلص ماجد بعد ستة وعشرين عاماً من العيش مع لمى ونمو حبهما يوماً بعد يوم إلى استنتاج ربط فيه بين التبعية والفردية فهو يقول: "يمكنني تخيل حياتي دون لمى فأنا أعتمد عليها لأكون سعيداً ولكنني لا أعتمد عليها لأعيش".

المحتوى محمي