بشكل عام هناك رأفة مدروسة تنبع من دواخلنا بعناية مدروسة والشعور بها يكون عميقاً، ورأفة تُمنح بسرعة كبيرة أو لأسباب خاطئة، ومن هنا تنبع أهمية الصفح التدريجي الواعي.
الاستعداد للتسامح لا يكفي
لكي نغفر حقاً لآبائنا ما زلنا بحاجة إلى منح أنفسنا الوقت والوسائل لتحرير أنفسنا من شعور الضحية ومن الضغط الذي عشناه مع عائلتنا. إذا تم التشجيع على مبدأ الصفح في ثقافتنا، فلا يمكننا أبداً أن نقول ما يكفي عن آثام الغفران الممنوح قبل الأوان أو لأسباب مشكوك فيها.
وفي هذا السياق، تقول المحللة النفسية ومؤلفة كتاب الاستخدام الجيد للكراهية والتسامح (بايوت، 2004) غابرييل روبين: "دائماً يعتقد الأطفال أن الوالدَين على حق".
إذا أساؤوا معاملته باستخدام العنف الجسدي أو النفسي، فإن الطفل يعتقد بشدة أنه المسؤول الوحيد. غالباً ما نجد أن هذا الاعتقاد سبب معاناة العديد من الأشخاص الذين يشعرون بالذنب بسبب أخطاء وهمية يعاقبون أنفسهم عليها بقسوة. ومن المفارقات أن الضحية، على الرغم من الأذى الذي لحق بها، تحمل على عاتقها الذنب الذي يجب أن يشعر به أساساً الشخص الذي أساء معاملتها.
ضرورة الاعتراف بالنفس كضحية
بالنسبة للمحللة النفسية، فقبل مسامحة الآخر "من الضروري أن نبدأ بالاعتراف بالنفس كضحية؛ أي كشخص بريء يشعر بالذنب، وإلا سنشعر بالذنب في أعماقنا دائماً وأبداً حتى لو لم تكن الإساءة طوعية (غياب الوالدين أو الاكتئاب أو المرض).
وتضيف: "بالنسبة إلى اللاوعي، فلا توجد سوى المعاناة التي سنتكبدها". ليس للنية دور؛ كما أن الجسد لا يأخذ في الحسبان نية من يؤذيه طوعاً أو كرهاً. إنه يعاني فحسب وهذا كل شيء. عندها فقط ندرك حقيقة أن الجرح قد أصابنا من قبل آبائنا وأننا نقمع بعد ذلك الشعور بالكراهية الذي قد يصيب "المعتدي البريء".
ووفقاً للمحللة النفسية؛ من هنا تبرز أهمية القيام بعمل داخلي يأخذ في الاعتبار مقاومتنا وتناقضنا (قد يكون من الصعب على سبيل المثال منح الصفح للأب الذي لا يريد الاعتراف بأخطائه) وتقييم إمكانية تعليق العفو أو تأجيله أو رفضه في كل مرحلة من مراحل العملية.
الخطوات الست نحو الصفح
1. امنح نفسك حرية الاختيار.
حتى لو اعتقدنا أننا مستعدون للتسامح أو إذا كنا مقتنعين بأن لدينا كل الأسباب للقيام بذلك، فمن الضروري أن نعتبر منذ البداية أن عدم الصفح هو خيار شرعي. وبغض النظر عما يعتقده من حولنا أو إذا كان هذا الاختيار يتعارض مع الخطاب السائد، فإن عدم الصفح هو حرية يحق للجميع منحها لأنفسهم.
ولا يتعلق هذا القرار بالتقييم الموضوعي لشدة الانتهاك ولكن بمشاعرنا العميقة. لذلك يجب أن نتجنب الاستسلام ليس فقط لاستبداد الناس من حولنا "ينبغي أن تقوم بكذا"؛ ولكن أيضاً لطغياننا الشخصي "ينبغي أن أفعل كذا". بعبارة أخرى؛ عدم السماح بالتعرض للضغط من قبل الآخرين أو الشعور بالذنب، حتى نتمكن من الاختيار بحرية.
2. امنح نفسك الوقت قبل الصفح.
إن الإساءة مهما كانت طبيعتها ومدتها وسببها، تثير المشاعر بقدر ما هي شديدة (الخوف والغضب والكراهية والألم والخجل واليأس)، وعلى الرغم من أنه ربما تم قمعها سابقاً فإنها مع ذلك تظل نشطة.
ليس من الممكن أن نغفر ونمضي قدماً في الحياة دون التعرف إلى هذه المشاعر وقياس تأثيرها فينا، وهذا يستغرق وقتاً. واليوم حان الوقت لإجراء حوار مع نفسك من أجل أن تسألها، دون رقابة، ما الذي تشعر به حقاً عندما تفكر في ما مررت به وحول أولئك الذين جعلوك تواجه هذه الأشياء المؤلمة أو التي لا تطاق. الجرأة على التعبير عن شعورَيّ الكراهية والخجل هي الخطوة الأولى الأساسية نحو اتخاذ قرارات مستنيرة.
وتتمثل الخطوة الثانية في محاولة إنشاء رابط بين الانتهاكات السابقة ومعاناتنا وإخفاقاتنا الحالية، وهذا يكون أسهل مع أحد المعالجين المحترفين.
كما أنه من خلال هذه الطريقة يمكنك منح نفسك الوقت الذي تستطيع فيه تقييم مدى الضرر الذي تعرضت له فهناك فرق كبير بين الإهمال أو الإساءة أو الضرب. عند إعادة النظر والتفكر في أمور مثل عدم التشجيع الكافي لممارسة مهنة فنان على سبيل المثال، يمكن أن تموت بعض المظالم من تلقاء نفسها.
3. افهم شعورك.
يعبر الغفران عن تصرّف نرجسي نوعاً ما. إنه يعيد للنفس الصورة الذاتية الجيدة (الكرم والشهامة) وهو أيضاً عامل سلام علائقي؛ إنهما حجتان تفسران سبب الصفح قبل الأوان.
ومع ذلك، فإن المتعة التي يقدمها قصيرة الأجل وغالباً ما تجعل المرء يدفع ثمناً باهظاً لأن العملية التي تؤدي إلى الاختيار المستنير من خلال الخطوات الأساسية قد تم تجاوزها. من جهة أخرى، فبعد إعادة النظر في قصة المرء والمرور بمراحل الصراع الداخلي التي تغذيها المشاعر العدائية والرغبات المتناقضة، يمكن للمرء أن يشعر بهدوء عاطفي، فقط إذا كان يرغب في المسامحة.
في كلتا الحالتين، ولأنه تم النظر في الأمر بعناية ومعالجته والشعور به في أعماقنا، يوفر هذا القرار شعوراً قوياً ودائماً بالعدالة والإنصاف. ثم نشعر كما لو أننا عدنا إلى أنفسنا وتحررنا من الأفكار الهوسية وغزو المشاعر ولم يعد الآخر يحتل مكانة محورية في حياتنا أو يحيط بها دون علمنا. لم نعد في وضع رد فعل أو معارضة أو نبحث عن الانتقام أو ننتظر أن يصلح الآخر ما أفسده.
4. سامح عندما تكون مستعداً لذلك.
يمكن أن يأتي طلب المغفرة من الآباء الذين أدركوا المعاناة التي تسببوا فيها إما لأنهم أعادوا النظر في ماضيهم واستخرجوا نتائجَ معينة أو لأن طفلهم ألقى باللوم عليهم.
إن قبول اعتذار الوالدين دون قضاء الوقت في التفكير هو خيار يزيد من شعور استسلام ابنهما إليهما. وبكل بساطة يصبح الرجل البالغ اليوم طفلاً في مواجهة والديه، وسرعان ما يغزوه الشعور بالذنب أو الخوف من عدم الحب أو الرغبة في إنقاذ والديه.
وعلى العكس من ذلك؛ يمكنك إخبار والديك أنك بحاجة إلى وقت للتفكير في الأمور أو أنك لست مستعداً للتسامح بعد. هذا الوضع يعيد المساواة في العلاقة ويمنعنا من أن نكون رهينة لمشاعرنا لكي لا يتلاعب بنا الآخرون.
من المهم أيضاً التفكير في الطريقة التي تريد بها التعبير عن مسامحتك أو عدم مغفرتك لترجمة مشاعرك بأمانة قدر الإمكان. ينبغي ألا نستخدم المسامحة لتقليل الأذى الذي ألحقه الآباء بالطفل أو إبراء ذمة الوالدين بشكل كبير، أو نقرر عدم الصفح عنهم في سبيل الانتقام منهم.
كما يحق لنا أن نغفر أو لا نغفر لوالد غائب إما لموته أو عدم وعيه بالضرر الذي سببه لطفله. تُنتج هذه العملية الرمزية نفس تأثيرات التسامح وجهاً لوجه. يمكننا أن نكتب له رسالة (سنحتفظ بها أو نتلفها) ونتحدث معه أثناء النظر إلى صورة والتعبير عن أنفسنا بصوت عالٍ أو بصمت تام. مهما كانت طريقة التعبير المختارة يمكن التعرّف إلى معنى الغفران الحقيقي مرة أخرى مع مرور الوقت، وذلك من خلال الشعور بالراحة الذي ينجر عنه.
5. ابقَ متحكماً في العلاقة.
الغفران لا يلزم أي واجب ولا يمنح أي حق للمغفور لهم. من يسامح له الشرعية الكاملة في اختيار شروط العلاقة التي يرغب في إقامتها بعد ذلك. كل الخيارات ممكنة؛ حيث من حقه أن يرفض رؤية والديه مرة أخرى أو يبتعد عنهما أو حتى يشدد الروابط. هكذا يكون التصرف فقط وفقاً لما نعتبره جيداً لأنفسنا ودون تبرير. هذا هو الموقف الوحيد الذي يعيد إلينا احترام الذات.
6. عِش اللحظة بعد الصفح.
خلافاً للاعتقاد السائد فإن الصفح لا يغدق علينا الفرح على الفور؛ بل على العكس من ذلك غالباً ما يُحدث شعوراً بالفراغ. إن الغضب والكراهية والاستياء مشاعر حادة تستهلك الكثير من المساحة والطاقة ويمكن أن تعطي معنىً وتوجيهاً آخر لحياتنا.
كما أن اختفاء هذه المشاعر يمكن أن يتركنا في حالة من الفوضى؛ بحيث ينتابنا شعورٌ بالخسارة المزعزعة للاستقرار. ثم لا يوجد شيء آخر يمكن القيام به سوى المرور بهذه المرحلة التي تعدّ في حد ذاتها شكلاً من أشكال النقاهة، قبل التمكن من استثمار الطاقة الحيوية الموجودة في الأشياء الجديدة (المشاريع والعلاقات).
يجب دائماً ألا يغيب عن البال أن العفو الممنوح بسرعة يمكن التراجع عنه تماماً كما يختار المرء منح العفو الذي رفضه لفترة طويلة. إنها طريقة للبقاء منتبهاً لمعاناتك ورغبتك.
اقرأ أيضاً: 7 خطوات أساسية للتسامح.