يأتي يوم الطفل الخليجي يوم 15 من يناير/كانون الثاني من كلّ سنة ليذكّر أهالي بلدان مجلس التعاون الخليجي بأهميّة مرحلة الطفولة في بناء أجيال من المواطنين الفعالين. ويُعتبر هذا اليوم بمثابة احتفالية كبيرة بحقوق الأطفال التي يكفلها القانون في المنطقة؛ كما أنه يتيح فرصة للتذكير بالأوضاع الراهنة للطفل الخليجي والتحديّات المتوازية مع الانفتاح الاقتصادي والتطوّر التكنولوجي والمتصاعد بوتيرة سريعة.
إن توفّر السبل المعيشية وظروف الرخاء المادي في المنطقة قد يعيق بالفعل تحقيق تربية إيجابية سليمة وتكوين أطفال يتّسمون بالصلابة النفسية اللازمة لمواجهة الصعاب عند الكبر. يقول الكاتب الأميركي فريدريك دوغلاس: "إن بناء أطفال أقوياء أسهل من إصلاح رجال مكسورين". إذاً كيف يمكن تحقيق هذا المبتغى؟ وما نوع التربية والبيئة المحيطة الذي يمكن أن يمنع ذلك؟
الطفل الخليجي وتحدّيات التربية بالرغم من الوفرة المعيشية
يشير أستاذ الطب النفسي السعودي في جامعة الملك سعود، عبد الله السبيعي (Abdullah Al-Subaie) في إحدى مقابلاته، إلى انتشار ظاهرة الهشاشة النفسية وافتقاد القدرة على التحمّل، ومظاهر الفراغ العاطفي والشعور بالخواء والحساسية الزائدة لدى الجيل الحالي وذلك بالرغم من الوفرة المعيشية وتوفّر ظروف الرخاء المادي. ويؤدّي ذلك بحسب ملاحظاته المهنية إلى ازدياد الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب، وارتفاع نسبة استهلاك الأدوية النفسية ومحاولات الانتحار.
ويعزو السبيعي هذه الظواهر إلى التغيّرات المجتمعية التي طرأت على المجتمع الخليجي خلال الـ 40 سنة الماضية أكثر من الأسباب النفسية؛ حيث كان الطفل يقضي معظم وقته مع أحد الأبوين أو كليهما ما كان يساعده على إتقان المهارات الاجتماعية المطلوبة في كلّ مرحلة من مراحل نموه، وهو ما اختلف في العصر الحديث حين أصبح أفراد الأسرة منفصلين عن بعضهم بعضاً لأوقات طويلة بسبب عمل الأبوين وظهور وسائل التواصل الاجتماعي التي زادت اتساع الفجوة بين الجيلين وقضت على التواصل الأسري.
ويوضّح السبيعي أن الأثر الكبير لهذه الظواهر هو حين يستشعر الآباء البعد بينهم وبين أبنائهم فيحاولون تعويضه بالأموال؛ ما يؤدّي إلى تزايد شعور الوفرة الذي يصاحبه الملل والكآبة والقلق بالرغم من توفّر كل شيء. ويسهم ذلك أيضاً في تنمية الشعور المتضخّم بالاستحقاق وأزمة الهوية لدى المراهقين في ظلّ التأثّر بالثقافة الغربية.
النتائج المدمّرة لسلوكيات التدليل المفرط
وقد يخلط بعض الأباء بين مفهوم التربية الإيجابية والتدليل المفرط، فيرسخّون بذلك جذور الضعف النفسي وضعف القدرة على تحمّل المسؤولية في نفوس أبنائهم.
وفي هذا السياق، يوضّح استشاري الصحة النفسية والإرشاد الأسري والتربوي المصري إيهاب ماجد (Ihab Maged) إن الانسياق وراء تلبية طلبات الطفل كلها يمكن أن يشير إلى محاولة الأب أو الأم تعويض نقصٍ مرتبط بغيابه الدائم في العمل أو حرمان شخصي عانى منه في طفولته، أو بسبب قناعات خاطئة عن التربية السليمة. وفي الحالات جميعها، قد يؤدّي هذا النوع من التصرّفات إلى الأذى غير المباشر للطفل في سنوات لاحقة من عمره. وتتمثّل النتائج المدمّرة لهذه السلوكيات الوالدية بحسب رأيه في الآتي:
- بخس قيمة الأشياء.
- قلب أدوار السلطة بين الأبوين والطفل.
- الأنانية والتمركز حول النفس.
- عدم تحمّل المسؤولية وضعف الاستقلالية.
- توجيه اللوم إلى الآباء وإمكانية اللجوء للإدمان.
- الحب يساوي تلبية رغباته الخاصة.
وينصح إيهاب ماجد الآباء بالابتعاد عن تلبية رغبات أطفالهم كلها، لأنهم قد يدمّرون حياتهم وعلاقاتهم كبالغين. كما يدعو إلى تصحيح مفهوم التربية الإيجابية، والتركيز على الحبّ والاحترام وتوفير الاحتياجات الحقيقية للطفل.
اقرأ أيضاً: رسالة إلى شباب الجيل زد: حوّل ضعفك إلى قوة إذا كنت تعاني من الهشاشة النفسية
الطفل الخليجي وإدمان الدوبامين
قام مجلس شؤون الأسرة ومكتب اليونيسيف في منطقة الخليج بالتعاون مع جامعة غرب سيدني الأسترالية، في فبراير/ شباط من عام 2019 بورش عمل في السعودية هدفها تحديد القضايا الرئيسية التي تؤثّر في الصحة النفسية للأطفال ورفاهيتهم فيما يتعلّق بالوسائط الرقمية.
وقد أثار بعض نتائج التقرير قلق المشاركين في الورش؛ إذ ارتبط بالمخاطر والسلبيات العديدة المحتملة لزيادة الاعتماد على الوسائط الرقمية مثل واتساب وفيسبوك وإنستغرام وسناب شات من طرف الأطفال. ومن بين تلك السلبيات نجد الآتي:
- قضاء وقت أقلّ مع الأسرة.
- الاعتماد على التكنولوجيا بدلاً من التفكير.
- الآثار الصحية مثل عدم ممارسة التمرينات الرياضية، وضعف النظر، والنوم المضطرب.
- تشتت التركيز عن أداء المهام المهمة.
وأشار التقرير نفسه إلى أن أطفال السعودية يتمتّعون بمعدلات مشاركة واتصال بالإنترنت مرتفعة مقارنة بنظرائهم في الدول الأخرى؛ ما يؤكد أهمية مراقبة الحد الذي يستفحل عنده تعرّضهم للضرر عبر الخدمات والمنصات الرقمية.
وفي هذا الإطار، كان مدير مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي "إثراء"، عبد الله الراشد قد أعرب في مقابلة إعلامية عن تخوّفه من أوضاع جيل الأطفال الحالي الذي يتربّى تماماً على وسائل التواصل الاجتماعي، والضغوط النفسية الرهيبة التي يمكن أن تسبّبها. كما أشار إلى اطلاعه بشكل شخصي على بحوث تربط بين التعرّض للشاشات والتأخّر في النطق باللغة العربية والنطق بشكل عام لدى الأطفال.
وبالرغم من الجوانب الإيجابية للتقنية التي لا ينكرها، يوصي عبد الله بضرورة سنّ القوانين الرقابية التي ستحدّ من أثرها السلبي وتحقّق ما يصطلح عليه بالاتزان الرقمي (Digital Wellbeing). هذه إحدى مبادرات المركز الثقافي السعودي الذي يشرف عليه، وهي مبادرة تدعو إلى الموازنة والاتزان في استهلاك التقنية بحيث يتحكّم المستخدم بما يرغب في استخدامها له، فلا تتحكّم هي به.
وعن أهميّة إيجاد التوازن، تتحدّث الكاتبة الأميركية وأستاذة الطب النفسي بكلية الطب بجامعة ستانفورد، آنا ليمبيكي (Anna Lembke) في مؤلَّفها المعروف "أمة الدوبامين" (Dopamine Nation) عن تميّز عصرنا الحديث بالمحفزات عالية المكافأة وعالية الدوبامين أكثر من أي عصر مضى. فالأخبار والتسوق والألعاب والإشعارات جعلت منا جميعاً عرضة للاستهلاك المفرط القهري (Compulsive Overconsumption)؛ حيث يؤدي ذلك السعي الدؤوب وراء المتعة إلى خلق تجارب الألم.
ما القدرات التي يحتاجها الطفل الخليجي ليصبح قوياً نفسياً؟
تخبرنا الكاتبة والمعالجة النفسية الأميركية إيمي مورين (Amy Morin)، إن القوّة النفسية هي نقطة القوة الرئيسية التي يجب تعزيزها لدى الأطفال؛ إذ ستمكّنهم من تجاوز أصعب تحديّات الحياة. وبحسب ملاحظاتها، فهناك 7 قدرات يمتلكها الأطفال الأقوياء نفسياً وذهنياً، وهناك أيضاً 7 طرائق تقترحها لتعليمها لهم ونلخصّها كالتالي:
1. التمكين الذاتي
لا يعتمد الأطفال الأقوياء نفسياً على أطفال آخرين ليشعروا بالرضا؛ كما أن الحالة المزاجية السيئة لطفل آخر لن تثير غضبهم في الغالب.
يمكنك تعليم هذه المهارة أو تعزيزها عند طفلك من خلال التعاون معه لابتكار عبارات يمكنه تكرارها مع نفسه. سيساعده هذا التمرين على التخلص من الصوت السلبي الداخلي الذي يحاول إقناعه بأنهم يفتقر إلى القدرة على النجاح. وكأمثلة لتلك العبارات يمكن أن تجرّب: "كل ما عليّ فعله هو بذل قصارى جهدي" أو "أختار أن أكون سعيداً اليوم".
2. التأقلم مع التغيير
يفهم الطفل القوي نفسياً أن التغيير يمكن أن يساعده على النمو ليصبح شخصاً أقوى حتى لو كان صعباً وباعثاً على القلق في البداية؛ مثل الانتقال إلى مدرسة جديدة.
اجعل طفلك يتحدّث بإسهاب عن مشاعره ويضع لها اسماً عندما يواجه تغييراً كبيراً. ساعده في العثور على الكلمات المناسبة لوصف مشاعره وتعريفها؛ مثل حزين وسعيد ومحبَط وعصبي ومتلهف.
3. القدرة على الرفض
غالباً يكافح العديد من الأشخاص والأطفال في دواخلهم لإيجاد الشجاعة لإبداء الرفض أو قول "لا" تجنباً للحرج أو الشعور بالغرابة، بينما اختيار عدم قول "نعم" في بعض المواقف يجعل الطفل أقوى.
يمكنك أن تجرّب اختبار "الاستسلام" حين يواجه طفلك موقفاً يجب أن يقول فيه "نعم" أو "لا". اسأله عما سيتعيّن عليه التخلّي عنه إذا قال نعم، فقد يعني قول "نعم" لموعد لعب في منزل أحد الأصدقاء التخلّي عن الوقت الذي يقضيه مع أشقائه مثلاً. فإذا كان لا يريد ذلك شجّعه على الرفض، وإن كان لا يمانع يمكنه قبول الدعوة. ساعده أيضاً على ابتكار طرائق مهذّبة لإبداء الرفض.
4. الاعتراف بالخطأ
يتمتّع الطفل بالشجاعة حين يكون قادراً على التعرّف إلى خطئه والاعتراف به وتصحيحه كذلك، ولا يكون ذلك عائقاً أمام نموه الشخصي فهو يعتذر ويجد طرائق لتجنّب ارتكاب الخطأ نفسه مرة أخرى.
ذكّر طفلك عندما يرتكب خطأً ما، أنه يمكنه إعادة تنظيم مساحته الخاصة بطريقة تمنعه من ارتكاب الخطأ نفسه مرتين. فإذا كان طفلك غير منظّم، من المحتمل أن يجد صعوبة في تذكّر واجباته المدرسية، أو إذا كانت غرفته مليئة بالوجبات الخفيفة غير الصحيّة، قد لا يتمكّن من مقاومة تناول الكثير من السكريات.
5. الفرح بنجاحات الآخرين
يدعم الأطفال الأقوياء نفسياً أقرانهم ويشجّعونهم، ويركزّون على أداء أفضل ما لديهم دون القلق أو الغيرة بشأن أداء الآخرين.
من أجل تعزيز الرضا عن النفس عند طفلك؛ اجعله يأتي بقائمة من السمات التي تعجبه في أشخاص آخرين مثل الإخوة أو الأصدقاء ثمّ شجّعه على تبنّيها في تصرّفاته. يمكن أن تكون سمات شخصية مثل الثقة بالنفس أو التفاؤل أو الشجاعة على سبيل المثال، فذلك يسهّل عليه الاحتفال بنجاحات الآخرين ودعمهم.
6. المحاولة بعد الفشل
ينجح الأطفال في وقت لاحق من حياتهم إذا تمكّنوا من تركيز انتباههم على كيفية إصلاح الخطأ بدلاً من الشعور بالحرج وخيبة الأمل والإحباط. يساعدهم ذلك على تطوير عقليات نمو تساعدهم على تحويل الفشل إلى تجارب تعليمية إيجابية.
عندما يشعر طفلك بالإحباط لأنه فشل في أمر ما، أخبره بقصص الأشخاص الذين ارتكبوا أخطاء كثيرة قبل تحقيق النجاح؛ مثل توماس إديسون الذي تمكّن من اختراع المصباح الكهربائي بعد 1000 محاولة فاشلة.
7. المثابرة
لا يستسلم الأطفال الأقوياء نفسياً بسهولة ويصرّون على تحقيق الهدف مهما تطلّب ذلك من جهد، والنجاح يثبت لهم أن المحاولة جديرة بالعناء.
اطلب من طفلك أن يكتب رسالة أو ملاحظة لنفسه مليئة بكلمات اللطف والتشجيع. يمكنه قراءَتها في كلّ مرّة يشعر بالرغبة في الاستسلام. يمكن أن تكون ملاحظة بسيطة كالآتي: "أعلم أن الأمور صعبة الآن لكن يمكنك الاستمرار، لأنك حقّقت أهدافاً صعبة من قبل ويمكنك القيام بذلك مجدّداً".
لماذا القوة النفسية عند الأطفال هي الأهم؟
تُعدّ مهمّة تربية أطفال ذوي شخصيات قوية وقادرة على تحمّل وطأة شدائد الحياة واحدة من أصعب تحدّيات الأبوة والأمومة، وبخاصة في عصر الثورة الرقمية وتأثيراتها السلبية. كآباء؛ نرغب أن يكبر أبناؤنا ليصبحوا أشخاصاً مستقلين وواثقين ومرنين في تعاملهم مع الصعاب.
لذلك تشير إيمي مورين إلى أهميّة القوة النفسية لدى الأطفال نظراً لأنها تتطلّب منهم الانتباه إلى ثلاثة أمور وهي: الطريقة التي يفكرّون ويشعرون ويتصرفون بها، والتفكير بعمق والشعور بالرضا والشجاعة على تنمية "العضلات النفسية". أمّا بالنسبة إلى الآباء، فتبقى ممارسة الصبر والتعزيز المستمّر هي المفتاح لبلوغ المرحلة التي سيتمكّن فيها الطفل من تحقيق تلك القدرات بشكلٍ طبيعي.
اقرأ أيضاً: كيف نساعد الأطفال والمراهقين على إدارة القلق
تتطلّب مهمة تربية أطفال أقوياء نفسياً وذوي قدرة على تحمّل الشدائد الكثير من الصبر الجميل والمحبة غير المشروطة والتوجيه الدائم من الآباء. وحدَثٌ بأهمية يوم الطفل الخليجي يذكّر كلّ أم وأب بأسس التربية السليمة في زمنٍ بدأت تسيطر فيه شتّى أنواع المشتتات على أذهان الأطفال، فلم يعد توفير الاحتياجات المادية والإغداق على الصغار بالهدايا والألعاب صالحاً إذا أردنا تطوير قدرة تحملهم خلال الأوقات الصعبة.