تمثل مسألة التغير المناخي تهديداً كبيراً يتطلب تحوّلاً لا يقتصر على المستويين المجتمعي والمؤسسي (المستوى الكلّي) فقط؛ بل يشمل أيضاً المستوى الفردي (المستوى الجزئي)، فالاستدامة البيئية جهد جماعي يتطلّب استجابة جماعية لضمان نجاح المبادرات المتخذة في هذا الإطار. وعلى الرغم من أن السياسات والتقنيات قد تهيئ الأرضية الملائمة لتحقيق الاستدامة فإن الأهم هو الانتباه إلى أن محفزات التغيير الحقيقية تتجاوز هذه البنيات.
محتويات المقال
ديناميات المستوى الجزئي
على الرغم من وجود نمط ثابت من التصورات حول تغير المناخ على المستوى الفردي بين المجموعات السكانية المختلفة، فإن الأبحاث تشير إلى أن هذه التصورات تختلف على نحو ملحوظ من بلد إلى آخر. تتبلور وجهات النظر المختلفة هذه بناءً على عوامل عدّة تشمل الرُّؤى العالمية والديناميات الاجتماعية والسياسية والاعتبارات الديموغرافية، والقيم الفردية بالأساس.
يميل كل من الرجال والشرائح العمرية الأكبر والأفراد الذين قضوا سنوات قليلة في التعليم الرسمي على وجه التحديد، إلى التشكيك في حقيقة التغير المناخي والتعبير عن مستوى أقل من القلق بشأن انعكاساته (بورتينغا، Poortinga 2019). علاوة على ذلك، غالباً ما ينظر سكان الدول الغربية إلى تغير المناخ وآثاره باعتبارها تهديداً بعيداً من الناحية النفسية، وهو التصور الذي يعكس الانفصال القائم بين محيطهم المباشر والتحديات البيئية العالمية (بيرسون وآخرون، 2016 Pearson et al).
ثمة عوامل عدّة تتدخّل في عملية فهم التصورات المختلفة حول مسألة التغير المناخي:
- الموارد المعرفية المحدودة: يمكن أن تعرقل القيود المفروضة على معالجة المعلومات البشرية، والمتمثلة في التحيزات المعرفية والاعتماد على الخبرات الشخصية وفهم تعقيد مسألة تغير المناخ، الجهود الفردية والجماعية المبذولة للتصدي لهذه المشكلة، فالتغير المناخي معقد بطبيعته وينطوي على تفاعلات معقدة بين العوامل البيئية والاجتماعية والاقتصادية. وتُصعّب الموارد المعرفية المحدودة فهم الأفراد تعقيدَ مسألة التغير المناخي؛ وهو الأمر الذي يعوق قدرتهم على اتخاذ قرارات مستنيرة وإجراءات فعالة.
- المسافة النفسية: لا تساير الجهودُ والمعرفة العامة التقدمَ العلمي في أغلب الأحيان. يمكن في هذا الصدد أن تساعدنا مصادر المعلومات، التي يستخدمها الأفراد في اتخاذ القرارات، على فهم ظاهرة تنوع التصورات في مسألة التغير المناخي، فتجاربنا الشخصية عوامل مؤثرة في تحديد أفعالنا بالمقارنة مع المعلومات التي نستقيها من مصادر غير مباشرة (رودمان وآخرون، 2013 Rudman et al). يشير مفهوم "المسافة النفسية" على سبيل المثال إلى مدى القرب أو البعد المتصوَّر من مشكلة معينة، وقد اتضح أنه يؤثر في تصوّر الأفراد لقضايا بيئية مثل تغير المناخ وتفاعلهم معها (فان لانج وهوكلبا، 2021 Van Lange & Huckelba). عندما يلاحظ الأفراد مثلاً أن تغير المناخ قريب من محيطهم، فإنهم يميلون إلى تبني رؤية أكثر واقعية؛ ما يعزز استعدادهم لاعتماد سلوكيات مرنة ومؤيدة لحماية البيئة، وعندما يحملون في المقابل تصوّراً مجرداً عن هذا الموضوع فإن ذلك يعني استبعاد ظاهرة تغير المناخ.
- تعمل المعتقدات والقيم الشخصية باعتبارها محفزات قوية للسلوكيات المؤيدة لحماية البيئة، وتؤثر في المواقف والقيم والتصورات التي تقود الأفراد إلى تبنّي الإجراءات المستدامة. توجه هذه القيم عملية صناعة القرار وتعطي الأولوية للإجراءات التي تتوافق مع الشعور بالمسؤولية البيئية. وعلى غرار ذلك، يؤثر الاعتقاد بأن الإجراءات الفردية يمكن أن تُحدث فرقاً في مواجهة التحديات البيئية، في السلوك الذي يتبناه الأفراد (بشتولدت، 2021Bechtoldt). ويميل أولئك الذين يؤمنون بفعالية إجراءاتهم إلى تبنّي ممارسات مستدامة والدفاع عن القضايا البيئية أكثر من غيرهم.
تتأثر هذه المعتقدات والقيم كثيراً بالمجموعات التي ننتمي إليها؛ حيث يعزز السلوك المقبول والمرغوب فيه اجتماعياً علاقاتنا الاجتماعية ويسمح بقبولنا في المجموعات باعتبارنا أعضاء ذوي قيمة. وإذا عدَّت المجموعة الإجراءات المؤيدة لحماية البيئة من المعايير الاجتماعية السائدة، فمن المرجح أن يتّبع الأفراد توقعاتها؛ ومن ثمّ تؤدي الهويات الاجتماعية دوراً مزدوجاً من خلال التأثير في إدراك المخاطر المرتبطة بتغير المناخ ومستوى الانخراط في المجموعات التي تعمل بنشاط على معالجته.
ديناميات المستوى الكلي
الثقافة: تتأثر الاستجابة الجماعية إلى مسألة التغير المناخي بشدة بالعناصر الثقافية وفقاً لنظرية هوفستيد حول الأبعاد الثقافية (بشتولدت، 2021Bechtoldt). وتُظهر الثقافات ذات التوجه الطويل المدى إرادة أكبر للاستثمار في تحقيق النتائج؛ ما يجعلها أكثر ميلاً إلى الاستثمار في إجراءات التكيف مع المعايير البيئية.
وتشير نظرية هوفستيد أيضاً إلى أن الثقافات ذات التوجه النسوي العالي التي تقدر صفات مثل الجو الودي والتعاون والتضامن، تكون على الأرجح أكثر استثماراً في الحفاظ على البيئة وإجراءات التكيف. في المقابل، تركز المجتمعات الذكورية على الصرامة واكتساب الثروة وتتميز بضعف حس التضامن؛ الأمر الذي يؤدي إلى تقليل الميل إلى الاستثمار في التكيف البيئي.
ويظهر هذا التوجه أكثر في الثقافات الفردية؛ حيث يرتبط تفضيل العمل الفردي على الانتماء إلى المجموعة بانخفاض إرادة الاستثمار في التكيف. في الثقافات الجماعية، يعزز الشعور القوي بالولاء والالتزام توجهاً أكبر نحو المشاركة في إجراءات التكيف مع تغير المناخ التي تعود بالفائدة على الأفراد والجماعة على حد سواء.
عموماً، فإن الاعتراف بتنوع تصورات تغير المناخ والسلوكيات المؤيدة لحماية البيئة ضروري لبلورة استراتيجيات التواصل والسياسات التي تعالج هذه الظاهرة بفعالية على المستوى العالمي. كما أن تخصيص مبادرات لمراعاة السياقات والمخاوف الفريدة للمجتمعات المختلفة يمكن أن يعزز المشاركة والدعم في تبنّي الإجراءات المناخية.