أصبحنا نعيش اليوم في عالم لا تهدأ فيه الأحداث المتلاحقة من أوبئة وحروب وكوارث طبيعية، لذا فليس مستغرَباً أن يشعر الكثير منا بالإرهاق جراء متابعة ما يجري حولنا، وذلك لأن الأمر في أغلب الأحيان لا يقتصر على متابعة الأحداث فقط إنما يمتد إلى التعاطف مع الأشخاص المتضررين.
ماذا يعني إجهاد الرحمة؟
ظهر مصطلح "إجهاد الرحمة" لأول مرة في مقال كتبته الكاتبة والمؤرخة "كارلا جونسون" (Carla Joinson) عام 1992 عن تجربتها في معايشة الممرضات في أقسام الطوارئ بالمستشفيات، فقد لاحظت أن إحداهن عانت من مشاعر العجز والغضب بعد وفاة إحدى المريضات التي كانت مرتبطة بها معنوياً بشكل وثيق، وكادت تلك المشاعر أن توصلها للاستقالة وترك مهنة التمريض إلى الأبد.
شهدت نفس الفترة التي نشرت خلالها جونسون مقالها، جهوداً علمية لعالم النفس الأميركي "تشارلز فيغلي" (Charles Figley) في سبيل تعريف إجهاد الرحمة، فوصفه بأنه حالة من الإرهاق والخلل الوظيفي بيولوجياً وفيزيولوجياً وعاطفياً، نتيجة التعرض المطول لضغط التعاطف.
بحسب فيغلي؛ ينتشر إجهاد الرحمة بين العاملين في مجال الرعاية الصحية ليس فقط لأنهم يتعرضون لصدمات نفسية كثيرة؛ ولكن لأن المبادرة بالتعاطف غالباً ما تكون متأصلة في ذواتهم، وينظرون إليها باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من مسؤولياتهم الوظيفية.
لماذا حذرت الأم تيريزا من إجهاد الرحمة؟
ما يحدث عند الإصابة بإجهاد الرحمة أن الشخص عندما يتعاطف مع آلام الآخرين لفترة طويلة يتسرب إليه الشعور بأنه مسؤول عنهم، ومن ثم يقع ضحية للعدوى العاطفية؛ أي أن معاناتهم تصبح معاناته أيضاً وتترك آثاراً نفسية وجسدية سلبية فيه.
ما سبق جعل رائدة العمل الخيري والحائزة على جائزة نوبل للسلام عام 1979، الأم تيريزا (Mother Teresa) تحذر من الإصابة بإجهاد الرحمة، فكتبت في إحدى الرسائل الموجهة إلى رؤسائها تخبرهم أنه من الأمور الإلزامية أن تأخذ الراهبات التابعات لها إجازة لعام كامل كل 4 أو 5 سنوات حتى يستطعن الشفاء من آثار عملهن في مجال تقديم الرعاية للآخرين.
يرتبط ذلك بكون إجهاد الرحمة نتيجة لا مفر منها عندما يقدم الشخص الدعم لمن حوله بشكل مستمر دون أي فترات للراحة واستعادة الأنفاس، بالأخص إذا لم يكن على دراية بسلوكيات الرعاية الذاتية والكيفية التي يمكن أن يقي بها نفسه من تأثير الصدمات فيه.
من هم الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بإجهاد الرحمة؟
مثلما ذكرنا فإجهاد الرحمة يمكن أن يصيب الأشخاص الذين يغرقون في مساعدة من حولهم لدرجة تنسيهم أنفسهم. وتؤكد على ذلك عالمة النفس الأميركية "إيفون توماس" (Yvonne Thomas) بقولها إن الأشخاص الذين يعملون على دعم من يعانون نفسياً أو جسدياً يمتصون بالتدريج معاناتهم، ومن ثم يصبحون عرضة لخطر إجهاد الرحمة.
لكن توجد سمات شخصية بعينها تزيد من احتمالية أن يقع الشخص ضحية لإجهاد الرحمة، تسردها الدكتورة "كارلا ماري مانلي" (Carla Marie Manly) المتخصصة في علم النفس الإكلينيكي بقولها إن من يتعاطفون في المطلق دون حدود واضحة تحافظ على ذواتهم، والأشخاص الذين يميلون إلى التفاؤل والكمال هم أكثر عرضة لأن يقعوا فريسة للإرهاق النفسي والجسدي الذي يقودهم إلى إجهاد الرحمة.
يوصلنا هذا إلى استنتاج آخر هو أن هذا النوع من الإجهاد لم يعد يقتصر على العاملين بمهن معينة، فأي شخص يتعرض لمستويات الإجهاد النفسي العالية الناتجة عن تعاطفه مع الغير سيكون معرضاً للإصابة به. لكن رغم ذلك فوفقاً لمقال كتبته الدكتورة "هيلين براون" (Helen Brown) المتخصصة في الصحة النفسية هناك مهن تزيد بها نسبة إصابة العاملين بإجهاد الرحمة؛ مثل:
1. الأطباء والممرضون
تظهر آثار إجهاد الرحمة بوضوح على العاملين في مجال الرعاية الصحية من أطباء وممرضين. وإذا تُرك دون علاج فإنه يؤدي إلى انخفاض جودة الرعاية المقدمة، يزيد من نسبة الأخطاء الطبية ويرفع معدل دوران الموظفين (الاستقالة). وقد يصاحب ذلك الإجهاد العاملين في مجال الرعاية الصحية في علاقتهم بأسرهم وأصدقائهم؛ ما يؤثر فيها سلباً، لذا يُطلب منهم دوماً ملاحظة التغيرات النفسية التي تطرأ عليهم للتأكد من عدم إصابتهم بهذا النوع من الإجهاد.
وذلك لأن إجهاد الرحمة في الغالب يكون نتيجة تراكمات زمنية طويلة؛ إذ تشبّه عالمة النفس "سوزان ألبرز" (Susan Albers) ذلك بقولها إنه عند التعرض للإجهاد بشكل يومي يكون الأمر بمثابة قطرات متتالية من الكورتيزول تذهب إلى الدماغ، لذا لا يتنبه الشخص المصاب بإجهاد الرحمة إلا عندما يبدأ جسمه وعقله في الانهيار.
2. الاختصاصيون الاجتماعيون
يعمل الاختصاصيون الاجتماعيون غالباً على تقديم المساعدة للأشخاص الذين عانوا من صدمات مختلفة مثل العنف المنزلي أو سوء المعاملة؛ ما يجعلهم قريبين للغاية من دائرة المعاناة والتأثر فيها. أثبتت ذلك دراسة من"جامعة كينت" (Kent State University) الأميركية على الاختصاصيين الاجتماعيين الذين قدموا الدعم للناجين من هجمات 11 سبتمبر/أيلول وأقارب الضحايا، فقد وجدت الدراسة أن هؤلاء الاختصاصيين عاشوا صدمات نفسية مماثلة لصدمات الضحايا.
3. مقدمو خدمات الرعاية
يتمثل دور مقدمي خدمات الرعاية المنزلية سواء للأطفال أو المسنين، في توفير بيئة آمنة وودودة لمن يرعونهم، وهو غالباً ما يترافق مع الشعور بالضغوط المستمرة نتيجة طبيعة العمل التي تحتاج إلى اليقظة المستمرة، والحصول على إجازات قليلة نسبياً بعيداً عن بيئة العمل.
يحكي أحد القائمين على رعاية المسنين هذه المعاناة بقوله إنه يقضي يوم العمل الاعتيادي في التفاعل مع أشخاص يمرون فعلياً بأسوأ أيام حياتهم، لذا فهو يدرك جيداً خطورة إعطائهم الكثير من الاهتمام والطاقة بشكل يضر به، ويبتعد قدر الإمكان عن وضع نفسه مكانهم والشعور بما يشعرون به رغم أن ذلك يحدث له لا إرادياً أحياناً.
أعراض تؤكد الإصابة بإجهاد الرحمة
بحسب موقع "ويب إم دي" (WebMD) تظهر العديد من الأعراض على الشخص الذي يعاني من إجهاد الرحمة لتؤكد إصابته. وأهمها:
- حدوث تحولات جذرية في الحالة المزاجية: كأن يصبح الشخص متشائماً دون أي مقدمات، بالإضافة إلى الغضب والانفعال السريع.
- الانسحاب من الأنشطة الاجتماعية: عدم إعطاء العلاقات الاجتماعية الوقت والاهتمام الكافيين نتيجة الشعور بالانفصال العاطفي عن الآخرين.
- اللجوء للإدمان: إدمان الكحوليات أو المخدرات أو القمار، أو حتى إدمان العمل للهروب من المتاعب الناتجة عن إجهاد الرحمة.
- الشعور بأعراض القلق والاكتئاب: إلى جانب التشكيك دوماً في مدى القدرة على تأدية المهام الاعتيادية.
- تراجع الإنتاجية في العمل وانخفاض القدرة على التركيز.
- ظهور أعراض جسدية غير مسبوقة: مثل الإنهاك، حدوث تغير في الشهية، مشكلات الجهاز الهضمي والصداع.
- الشعور بالعجز عن مساعدة الآخرين ورؤية ذلك أمراً لا جدوى منه.
5 نصائح عملية للتعافي من إجهاد الرحمة
إذا كنت تشعر بأنك تعاني من إجهاد الرحمة فلا تتردد في التواصل مع المعالج النفسي حتى يضع لك خطة علاجية محكمة. ويمكنك بالإضافة إلى ذلك اتباع هذه النصائح التي ستخفف عنك للكاتبة "علايا كوكس كامبل" (Allaya Cooks-Campbell) المتخصصة في الصحة النفسية:
1. اعتنِ بنفسك
يتصل إجهاد الرحمة بشكل مباشر بكون الشخص يقدم الآخرين على نفسه حتى يستنزفه ذلك. لذا فالخطوة الأولى تتمثل في التأكد من الحصول على القدر الكافي من الرعاية الذاتية، بالنوم لفترات كافية وتناول الطعام الصحي وممارسة الرياضة والتأمل، وغيرها من الجوانب الأساسية للحياة المتزنة.
2. استرح من الضغوط
من المهم عند الوصول للانهيار الناتج عن الإصابة بإجهاد الرحمة أن يستريح الشخص؛ وذلك من خلال استقطاع بعض الوقت لنفسه بعيداً عن عمله والتزاماته، بالأخص إذا كانت طبيعة عمله قائمة على مساعدة الآخرين. وإذا كان أخذ إجازة ليوم أو لأكثر أمراً صعباً فمن الضروري أن يأخذ ولو بضع ساعات يومياً ينعزل فيها عن ضغوطه.
3. أعد ترتيب أولوياتك
غالباً ما يقدم الأشخاص المصابون بإجهاد الرحمة الآخرين على أنفسهم؛ لكن المنطقي أن يقدم الإنسان ذاته على من حوله وهذا ليس من الأنانية. للتوضيح يمكننا أن نضرب مثلاً بأب مع أطفاله في طائرة انخفض بها الضغط الجوي، إذا ما وضع القناع على وجه أطفاله أولاً سيكون معرضاً لأن يفقد الوعي بالتالي سيكون الأطفال في موقف حرج. هذا ينطبق على الواقع تماماً، فإذا أجهدت نفسك في مساعدة الآخرين حتى تسقط من الإرهاق ستكون قد آذيت نفسك، وفي الوقت نفسه لن تكون قادراً على استكمال دعمهم.
4. عبر عن مشاعرك
ما يحدث في إجهاد الرحمة هو تراكم الضغوط شيئاً فشيئاً لتتحول إلى كرة ثلج ضخمة تصطدم بالصحة النفسية والجسدية للشخص. لذا سيكون من المفيد التعبير عن المشاعر السلبية والإيجابية أيضاً في وقتها بمختلف الأساليب الممكنة؛ مثل التحدث عنها لمن حولك، أو تدوينها في دفتر، أو حتى تسجيلها بصوتك.
5. تعاطَف بحدود
هناك بعض المهن التي يعد التعاطف جزءاً لا يتجزأ منها مثل التمريض والعمل الإغاثي؛ لكن من المهم للغاية أن يتضمن ذلك التعاطف حدوداً واضحة يحمي بها الشخص نفسه من الآثار الضارة للتعاطف الزائد، فالتحدي الأصعب أن تكون رحيماً داعماً للآخرين لكنك لا تنصهر مع آلامهم بشكل يؤذي ذاتك.