لقرون عِدّة، استحوذ بكاء الطفل على مَركز اهتمام علماء النفس أمثال سيغموند فرويد، وغيره من علماء نشأة تطوّر الإنسان ممن درسوا هذا التصرف السلوكي بإسهاب.
لنتعرف معاً إلى بعض النظريات التي من شأنها مساعدتنا في فهم سلوكيات البكاء لدى طفلنا ومتى يكون هذا البكاء طبيعياً ومتى يؤثر على صحة طفلنا العقلية والنفسية.
البكاء في علم النفس
يستخدم الأطفال البكاء كوسيلة للفت انتباه الوالِدين، خصوصاً خلال سنين الطفولة المبكرة التي يكون فيها البكاء هو وسيلة التواصل الوحيدة بينهم.
وعلى سبيل المثال؛ تتحدث المعالجة النفسية والمُنظّرة في البكاء جوديث كاي نيلسون، في كتاب "إدارة العاطفة" (Emotion Regulation)، عن البكاء لدى الأطفال من منظور نظرية التعلّق التي أسهب في شرحها سيغموند فرويد وغيره من العلماء والباحثين، فتخبرنا أن البكاء سلوك إنساني طبيعي يعبِّر عن التعلّق الفطري (بين الطفل ووالِديه).
ذلك السلوك في المقام الأول، ووفقاً لمنظّري التعلّق جون بولبي ومارغريت أينسوورث؛ يمكن تصنيفه كشكل من أشكال نداء الطفل لمقدم الرعاية (الوالِدين أو غيرهم) رغبةً في وجودهم وتغذيتهم وحمايتهم.
وتُكمل نيلسون هذه الفكرة بأن بكاء الرضيع يؤدي إلى تحفيز سلوك رعاية مماثل في الوالِدين؛ حيث تساعد هذه السلوكيات المتبادلة (بين الطفل ووالِديه) في إنشاء علاقة وثيقة بينهم، وتمكّنهم من المحافظة على التقارب الجسدي والعاطفي.
وهنا تؤكد نيسلون حقيقة استمرارية البكاء طوال الحياة، ليكون رد فعل على الانفصال والفقدان، ولترجمة مشاعر وعواطف التعلّق الإنساني بالآخرين، وتحفيز استجابات مقدمي الرعاية.
متى يكون بكاء طفلنا طبيعياً؟
الطبيعي ألا يكون بكاء الطفل لحاجة تغذوية كالإرضاع، أو حاجة عاطفية كالتواصل الجسدي، أو حاجة أخرى تتطلب حضور الأم الفوري وتواجدها؛ حيث أن البكاء -كما سبق إيضاحه- هو من سلوكيات البقاء والتواصل التي تبيّن عدم تلبية احتياجات الطفل اليومية من قِبل مقدمي الرعاية .
فالبكاء أيضاً من وجهة نظر نيلسون ما هو إلا جزء من العلاج النفسي، سواءً في فترة الطفولة أو طوال فترة حياة الإنسان؛ حيث يُعد سلوكاً يدل على ميكانيكا البقاء لدى الطفل، وأيضاً دلالة على حقيقة الانفصال الجسدي عن مقدم الرعاية. وبالمقابل فالاتصال الجسدي أكثر الوسائل فعاليةً لتهدئة بكاء الأطفال؛ حيث تتمثل فيه جميع أشكال التهدئة والرعاية التي تتطلب حضوراً حقيقياً لمقدم الرعاية.
هل يؤثر البكاء على صحة طفلنا؟
عادةً ما تستخدم الأمهات نَهج "البكاء حتى الهدوء" (Cry It Out) الذي يعتمد على تطبيع بكاء الطفل لفترات قصيرة معينة تحددها الأم أو مقدم الرعاية المباشرة للطفل؛ رغبةً في تحفيز سلوكيات الاستقلالية لدى الأطفال.
ففي هذا النهج، تبدأ الأم بتهدئة الطفل في المرة الأولى بعد بكائه بدقيقتين، ثم في المرة الثانية بعد 5 دقائق، وفي المرة الثالثة بعد 7 دقائق.
وخلال أيام أو أسابيع التجربة؛ تزيد الأم مدة الفترات السابقة - كمثال؛ في المرة الأولى بعد بكائه بـ 5 دقائق، ثم في المرة الثانية بعد 10 دقائق، و في المرة الثالثة بعد 12 دقيقة، وهكذا يستمر تطبيع البكاء لفترات معينة.
البكاء وتطور حالات تكراره
وفي دراسة بريطانية حديثة عن استخدام الوالِدين لنهج البكاء حتى الهدوء مع الأطفال الرضّع دون سن الـ 18 شهراً، قسّم العلماء الأمهات حسب تعاملهم مع بكاء أطفالهم إلى ثلاث مجموعات: أمهات حرصن على عدم استخدام نهج البكاء حتى الهدوء، وأمهات استخدمنه لمرات محدودة، وأخريات استخدمنه في كثير من الأحيان.
أظهرت نتيجة الدراسة وجود علاقة عكسية بين حرص الأمهات على عدم بكاء الرضيع دون سن 3 أشهر ومدة البكاء وتكرره؛ حيث أظهرت البيانات انخفاضاً حاداً في مدة البكاء وتكرره حتى سن الـ 18 شهراً.
أما بالنسبة لرضع الأمهات اللاتي استخدمن نهج البكاء حتى الهدوء لمرات محدودة دون سن 3 أشهر، فقد أظهرت البيانات انخفاضاً حاداً في مدة البكاء وتكرره بعد سن 6 أشهر وحتى سن الـ 18 شهراً.
وفي المجموعة الأخيرة؛ والتي شملت الرضّع لأمهات استخدمن نهج البكاء حتى الهدوء في كثير من الأحيان دون سن 3 أشهر، جاءت البيانات بنتيجة غير مفاجئة؛ حيث وجد الباحثون علاقةً طرديةً تمثّلت في زيادة مستمرة في مدة البكاء وتكرره حتى سن الـ 18 شهراً.
البكاء وبعض المشاكل النفسية والسلوكية
وفي دراسة هولندية لأثر بكاء الرضيع المفرط على صحة الطفل العقلية والنفسية عند بلوغ سن 5 إلى 6 أعوام، وجد الباحثون أن ذلك البكاء الذي لا تتم إدارته يُضاعف من خطر حدوث مشاكل سلوكية وفرط نشاط وتقلّب مزاج في سن 5 إلى 6 أعوام، بناء على البيانات التي تم جمعها من أمهاتهم.
ختاماً؛ ينبغي على الأمهات (وجميع مقدمي الرعاية) للطفل توفير جميع احتياجاته الأساسية؛ والتي قد يؤثر فقدانها بشكل مؤقت أو ندرتها أو عدم وجودها، على صحته العامة.
كما ننصح بالاطلاع أكثر على ماهية نظرية التعلّق التي تصف للوالِدين وجميع مقدمي الرعاية بعض التجارب المهمة في علم النفس، وتواصل الطفل مع محيطه في ظل وجودهم وغيابهم، وما يترتب عليها من آثار نفسية وعاطفية لحظية وطويلة الأمد.