لطالما كان الموت موضع اهتمام العلماء والعوام، سواءً كان السبب وراء ذلك دوافع شخصية داخلية بحتة للتعرف أكثر إلى مصائرنا التي تنتظرنا، أو تأثير الموت علينا و"شعورنا بالموت" نفسياً، وجسدياً، وروحياً، بجانب المحفزات الخارجية من حولنا؛ كمرض فرد من العائلة أو صديق مقرّب.
ويتساءل الكثير من الناس عن قدرتهم على استشعار اقتراب الموت منهم؛ حيث يبدو التعمّق في ماهية الموت شيئاً لا يمكن تجاهله. دعونا نتعرف أكثر إلى واقع شعورنا بموتنا أو موت شخص ما حولنا وأهمية قبول ذلك الشعور.
الشعور باقتراب الموت
يُعبّر الموت في الأساس عن النهاية الطبيعية التي تنتظرنا جميعاً؛ حيث إن الجسد البشري يمر من خلال تغيرات بيولوجية متعددة قبل أن يصل لمرحلة يُعتبر فيها ذابلاً بما فيه الكفاية وقريباً من الموت.
وقد يمكن الشعور بقرب الوفاة عند ملاحظة هذه العلامات الشكلية: كالتعب أو النعاس، ورفض الأكل والشرب، وارتباك الإدراك أو تناقص التركيز واليقظة الذهنية، والقلق، وضيق التنفس أو التنفس البطيء أو غير الطبيعي، وبرود الأطراف كاليدين والذراعين والقدمين والساقين.
وتُمثّل هذه التحولات -في حقيقة الأمر- الصورة الطبيعية لتدهور حالة الجسد الفيزيولوجية مع تدنّي مستويات جودة الحياة والصحة.
الوعي بعد الموت
وجدت دراسة منشورة عام 2020 في مجلة "نيتشر" (Nature) بعنوان "دليل الفيزيولوجيا الكهربية على السمع المحفوظ في نهاية الحياة" (Electrophysiological evidence of preserved hearing at the end of life) أن استمرار عمل حاسة السمع بين المرضى في دور الرعاية التلطيفية أمر وارد، خصوصاً بعد تحليل إشارات الدماغ التي تحدث بعد سماع أولئك المرضى لأصوات أفراد عائلاتهم الذين يعبرون عن حبهم لهم.
وفي دراسة أخرى نُشِرت عام 2020 بالتعاون بين جامعة "أوريغون" ومركز للطب التلطيفي في ولاية نيوهامشير الأميركية بعنوان "تقرير تم التحقق منه لتجربة الاقتراب من الموت لطبيب نجا من السكتة القلبية" (Verified account of near-death experience in a physician who survived cardiac arrest) تطرّقت لتجارب الاقتراب من الموت (Near-Death Experience)، حيث يدخل الإنسان تجربة شخصية عميقة مرتبطة بالموت أو الموت الوشيك.
مثال من الدراسة السابقة، وجد العلماء أن الوعي يستمر حتى بعد توقف القلب وذلك من تجربة الطبيبة بيتينا بيتون (Bettina Peyton)؛ التي مرت بتجربة الاقتراب من الموت في أثناء ولادة طفلها الثالث عندما كانت تبلغ من العمر 32 عاماً.
أهمية قبول فكرة الموت
في الحقيقة؛ بحسب دراسة منشورة عام 2021 بعنوان "كلمات تصف المشاعر عن الموت: مقارنة المشاعر تجاه الذات والآخرين وتتغير بمرور الوقت" (Words describing feelings about death: A comparison of sentiment for self and others and changes over time) عندما نفنّد ماهية الموت ونُسقط ذلك الحدث على أنفسنا أو الأشخاص المقربين منّا، نتجه لا شعورياً لقبول فكرة الموت مع الإقرار بأن الموت حتمي، وحدث طبيعي مغلّف بمشاعر الحزن والفقد.
ويؤثر هذا القبول للموت في سلوكياتنا تجاه أنفسنا وكيفية قبولنا للمجهول، وفي نفس السياق؛ قبول الموت يعني تغيّراً إيجابياً في سلوكياتنا تجاه الآخرين، خصوصاً عندما نكون في محل تقديم الدعم، أو الاهتمام، أو الرعاية -كما تضيف هذه الدراسة التي نُشرت عام 2013 من جامعة "موناش" الأسترالية.
بالإضافة إلى ذلك؛ تكمن أهمية قبول فكرة الموت في تغيّر الطريقة التي نتحدث بها عنه في أنفسنا ومع الآخرين، بحيث نُصبح أكثر إيجابيةً وتتحسّن اختياراتنا اللغوية تباعاً. ولا نغفل بالطبع عن تأثير قبول الموت على جاهزيتنا النفسية والعقلية، ويصبح بإمكاننا فعل بما يجب فعله.
فعلى سبيل المثال؛ يخبرنا إيرا بيوك (Ira Byock) في كتاب "الموت بشكل جيد" (Dying Well) أن قبول الموت يجعلنا أكثر قدرةً على تبادل الأحاديث والمشاعر والعواطف ذات المعنى العميق؛ ومنها، الحب، والعفو والصفح، والشكر والتقدير، وأخيراً الوداع.
وفي إحدى الدراسات الحديثة التي نُشِرت عام 2021 من قسم الطب بجامعة "مالايا" الماليزية، سأل العلماء المرضى الذين يتلقون الرعاية التلطيفية عن السعادة في نهاية الحياة، ووجدوا أن إحساسهم باقتراب أجَلهم جعل السعادة تتجلى في الحياة البسيطة ذات العلاقات الاجتماعية العميقة مع عيش اللحظات كما هي.
بالإضافة إلى ذلك، فالسعادة إنما هي في التخلّص من خزعبلات السعادة التي تتمحور حول الاستهلاك المادي، أو التملّك، أو المال، أو المنزلة الاجتماعية. وفي نفس السياق؛ قبول الموت يعني الأمل في عيش الأيام الأخيرة في سلام مع النفس والآخرين، والعمل على جعلها -أياً كان عددها- مملوءة بالمعنى وراحة البال.
وأخيراً؛ لنركّز على فهم "شعورنا بالموت"؛ حيث يمثّل (الموت) مُنتهى الوجود الذي نعرفه حتى الآن، وإدراك ذلك يجعل منّا أكثر قدرة على تقبله.