بات الارتباط بشخصٍ آخر اليوم مثار خوفٍ للعديد من الناس. هل تحوّل من مصدر طمأنينةٍ إلى عقبةٍ يحاول البعض تجاوزها بأقل الخسائر؟ ماذا لو أن كل ما ينبغي علينا فعله هو تغيير زاوية نظرنا إلى الحبّ والحرية؟ تحكي سارة الفنانة الفوتوغرافية البالغة من العمر 42 سنة غاضبةً عن خيبتها الكبيرة بعد ارتيادها لأشهر مواقع الزواج الإلكترونية بحثاً عن زوج مناسب: "تبادلت أطراف الحديث مع أحد الرجال وقد حصل تناغم بيننا منذ اللحظة الأولى، ما شجّعني أن أرسل له مرة لأحكي له عن الصعوبات التي تواجهني في النوم، غير أنه ردّ على وجه السرعة قائلاً: "أتمنى أني لستُ السبب في أرقكِ هذا، فما أنا سوى عابر في حياة الآخرين، لا أريدُ التوقف لحظةً واحدة، فحريّتي فوق أي ارتباط". يا لوقاحته! حظرته على الفور". سألتُها إن كانت تتوقع منه أن يطلب منها على الفور أن تحدد موعداً للزواج وقد تعرفت إليه قبل مدة قصيرة فقط، فردّت قائلةً: "بالتأكيد لا! لو فعل فإني سأرتابُ من نواياه وأقفل الباب في وجهه طبعاً!".
يمكن تلخيص هذه المناورات بين سارة والشخص الذي تعرفت إليه افتراضياً في: "أنا مهتم بك فعلاً، غير أني لستُ مستعداً للإخلال بالنظام الذي تمشي عليه حياتي، لا أريد التنازل عن حياتي الخاصة لأجلك". حيثُ تتعارض رغبتنا في الدخول في علاقة مع حريتنا ويبدوان كأنهما يقفان على طرفي النقيض.
رغبات متنافرة
نواجه هذا النوع من التوتر مع الوالدين أو الأبناء وأحياناً حتى مع الأصدقاء، غير أن الخوف من خسارة جزء منك يكون على أشُدّه في الحياة الزوجية. يشرح عالم الاجتماع جيرار ميرميه (Gérard Mermet) ما يحصل بقوله: "إن إنجاح الزواج دون التضحية بجزء من حياتك الخاصة، هو أحد المطالب الحديثة، لا سيما عند فئة من النساء، غير أنه من الصعب مواجهة هذا التحدي دفعة واحدة، بل يتطلب الكثير من الدأب والمحاولة".
إنه تحدٍ صعب بلا شك، غير أن إنجاحه ليس بالمستحيل. ومفتاح النجاح في ذلك يكمن في مساءلة كل مُسلّماتنا عن الحب والحرية وإعادة تشكيلها. إذ سواء اعترفنا بذلك أو أنكرنا؛ فإننا في النهاية ضحايا قصص خيالية غذّت تصوراتنا عن الحبّ المشبوب المجنون، حيث يُسخّر الطرفان حياتهما وطاقتهما لأجل هذا الحب ولا شيء سواه. فهل كانت بطلة الأسطورة الإغريقية بينيلوبي وهي تنتظر عودة بطل طروادة أوديسيوس طيلة سنوات، تستطيع الخروج للتسلية عن نفسها مع صديقاتها؟ هل كانت لتترك الثوب الذي تحيكه في انتظار عودة زوجها، وتذهب في رحلة استجمام إلى جزيرة قريبة؟ قطعاً لا، فبينيلوبي التي تهيم عشقاً في أوديسيوس كرَّست حياته لانتظار عودة زوجها، الانتظار والوفاء المُطلق ولا شيء غير ذلك.
الحرية المقدسة
يحمل كل منا في داخله توقاً إلى ذلك الحب المطلق؛ حبّ نغرق فيه ونضيع، حبّ اختبرناه جميعاً كما يؤكد المحللون النفسيون في مراحل وجودنا الأولى حين كنا في حالة اندماج كامل مع أمهاتنا ونحن في بطونهنّ. علاقة تأخذ شكل رابطة أبدية لا يفضها سوى الموت، وفي هذا الصدد ذهبَ بعضُ المعالجين إلى ردِّ الرهاب من الالتزام (فوبيا) إلى الخوف اللاواعي من الارتماء مجدداً في أحضان حالة الاندماج القصوى هذه.
لكن هل يعني الحبّ ربط النفس بالشريك والالتصاق التام به؟ لِمَ يبدو الحب الذي تشتعل شرارته بين الطرفين ليدفع بهما إلى تحقيق نفسيهما والتفوق أمراً يستحيل إيجاده على أرض الواقع؟ أليس الحب ما يفتح قفص الماضي ليحررنا منه؟ أليس هو ما يجعل المستحيل ممكناً ويبدد شكوكنا؟ غير أن "الحرية" فكرة مطلقة وأكثر اتساعاً من "الحب". فحين نتكلم عن الحرية في الحب، هل يتعلق الأمر بـ "فعل ما يحلو لنا" بطيش المراهق الذي يحرضنا عليه "عالم الأطفال الأبديين" الذين ننتمي له؛ حسبَ تعبير الكاتب الفرنسي ميشيل ويلبيك (Michel Houellebecq) في روايته "احتمال وجود جزيرةٍ ما" (La Possibilité d’une île)؟ هل يتعلق الأمر بحريّة الاختيار كما يصفها عالم الاجتماع جيرار ميرميه؟ هل يتعلق الأمر بشبه حرية مُدعّاة، نخفي خلفها أموراً يصعبُ الإفصاح عنها؟
يخوض البعض حروباً زوجية كي يحتفظ بحقه في الخروج دون شريكه، لأنهم لا ينجحون في التعبير عن أفكارهم أو احتياجاتهم وهم معه. فحين يتعلق الأمر بالحرية داخل مؤسسة الزواج، فإنها تتعدّد باختلاف ما تمثله لكل شخص. فمثلاً بالنسبة لسارة، الحرية أن تضرب موعداً مع صديقاتها ليلتقينَ في مطعمٍ ويتناولن الغذاء معاً من وقت لآخر، وهي حين يتعلق الأمر بهذا الموعد الثابت؛ ليست أبداً مستعدةً للتنازل، ومتمسكة إلى آخر رمق بهذه الفسحة التي تمدّها بالطاقة لتبدأ أسبوعاً جيداً.
زواج على طاولة المفاوضات
مكاشفة النفس وتحديد أي نوعٍ من الحرية نحتاج في زواجنا هي أولى الخطوات التي ينبغي اتخاذها لإنجاحه، مع ما يتبعها من فتح حوارٍ صريح مع الشريك. وفي هذا الصدد يشير الاختصاصي في علاج المشكلات الزوجية سالومون ناسيلسكي (Salomon Nasielski): "إلى أن الاعتياد على عدم مطالبة الطرف الآخر بما نريد أو نحتاج على عكس ما يظنه البعض يضر بالحياة الزوجية ولا ينفعها، على حرية كل طرف أن تكون محددة وبطريقةٍ واضحة قدر الإمكان".
في المقابل، يخشى الكثير من الأزواج الخوض في بعض المواضيع وطرحها على مائدة النقاش مخافة أن تضعَ زواجهم على المحك. ويوضح ذلك سالمومون ناسييلسكي بقوله: "عليهما أن يعبّرا عن كل شيء دون مواراة، بدايةً بطريقة إدارة المال والوقت الذي يقضيانه معاً وكذا ذاك المخصص للنفس، ونهايةً عند الوقت المخصص للأصدقاء والعائلة. لنفترض جدلاً أن ثمة زوجين، نادر ومرام، فحين يطالبُ نادر بحقه في عطلة نهاية أسبوع مرتين في الشهر ليلعبَ الورق ويقضي الأمسية مع أصدقائه، فإن بإمكان مرام أن تعبّر عن موقفها إزاء ذلك بقولها: "لا بأس في ذلك، سأترقَّبُ عودتك على الثانية صباحاً، أما إذا تجاوزت هذا الوقت فسيبدأ القلق يساورني". ولأن الاتفاق هنا واضح وتم التعبير عنه، فإن حريّة أحدهما لن تتعارض مع حريّة الآخر".
هذا هو نوع الاتفاقات الذي ينبغي أن يسود العلاقات الزوجية اليوم، إذ يكفل للطرفين خلق رابطة قوية أساسها الثقة المتبادلة والحوار المفتوح. والظنّ أن بإمكان الحياة الزوجية أن تمضي بسلاسةٍ دون اتفاقاتٍ كهذه، يوازي الاعتقاد بأن بإمكان شخصين معصوبي العينين أن يتلمسا طريقهما وسط الحفر. لا شك في أن ردم الحُفر يتطلب جهداً كبيراً، لكن ألا يبقى أفضل من الوقوف في مكانك في انتظار حصول معجزةٍ تختصر عليك هذه الطريق دون حركةٍ واحدة؟
ما يُشعرني بالحرية في زواجي:
لمى البالغة من العمر 29 سنة في زواج متقطّع منذ سنتين
"بحكم عمل زوجي في مدينةٍ بعيدة وما يتطلبه من سفرياتٍ كثيرة، فإنه حين يغادر إلى عمله أعود وحيدة في البيت وهذه الوحدة تمدّني بالاسترخاء، وهذا لا يعني أني أكرهُ اللحظات التي تجمعنا معاً أو حياتنا المشتركة، لا الأمر أبعد عن ذلك، ما يحصلُ أني أشعر فور سفرِه أني استعدتُ نفسي، والتقيتُها بعدَ فراق. لا أستطيع اليوم تخيّل حياتنا الزوجية إلا على هذا النّحو، زواج تتخلله لحظات خاصّة بكلّ واحد منا بعيداً عن الآخر قبل أن نجتمع مجدداً".
يوسف البالغ من العمر 62 سنة، متزوج منذ 37 سنة
"على عكس زوجتي التي تخاف من البحر؛ فإني حين أذهب وحدي أو مع الأصدقاء في نزهةٍ بحرية تمتدّ لأسبوع أشعر وأنا على متن المركب بإني سمكة عادت إلى المياه! لذلك إن سألتني عن معنى الحرية بالنسبة لي فلن تكون غير هذا الأسبوع الذي أمنحه كل صيف لنفسي منذ ثلاثين سنة، لكن حريتي لا تكتمل إلا بيقيني أن زوجتي سعيدة وراضية، ولو أني كنت أعرف أن حريتي هذه تتسبب لها في قلق أو حزن، ما كنتُ أبداً استطعتُ تسميتها حرية".
نور البالغة من العمر 29 سنة والمتزوجة منذ خمس سنوات
"حين ألتقي بصديقة عمري؛ يأخذنا الحديث لساعاتٍ طويلة عمّا لا أستطيع مفاتحة زوجي حوله، ومن ضمن هذا المسكوت عنه الذي أفضفض عنه معها زوجي نفسه".
(أجرت مجموعة المقابلات هذه؛ آن لور غيناك)
زواج تعمّه الفوضى
إن غريزة البقاء هي المشترك بين الإنسان والحيوانات، وتركُ ذريّة تحافظ على هذا "البقاء" أحد أوجه هذا المُشترك. غير أن الأطفال على عكس صغار الحيوانات، يستغرقون وقتاً أطول بكثير قبل أن يصيروا راشدين بإمكانهم الاعتماد على أنفسهم كما أنهم يحتاجون من الآباء بذل الكثير من العناية والإمكانات. يُفسر هذا الأمر رائدُ علم الأحياء التطورية الأميركي جارد دايموند (Jared Diamond) مؤلف كتاب "لِمَ الجنس للمتعة: تطور النشاط الجنسي البشري" (Pourquoi l’amour est un plaisi) بأن الجنس البشري خُلِق ليعيشَ داخل مؤسسة الزواج، رفقة شريك.
وجد الإنسان منذ دبّ أول مرة على هذه الأرض نفسَه في وضعية زواج، ذلك أنها أثبَتت توفيرها الرعاية والبيئة التي يحتاج الطفل إلى أن يصبح راشداً. لكن السؤال المطروح، هل ما كان مناسباً للإنسان الأوّل لا يزال يجري على إنسان الألفية الثالثة؟ شمل التغيير كل مناحي الحياة؛ إذ صار الطعام اليوم غنياً، والمسكن بات آمناً، ووسائل تحديد النسل لا تُعد بالإضافة إلى دخول المرأة القويّ إلى عالم العمل.
تغيّرت ظروف الحياة بشكلٍ جذري، بما في ذلك مؤسسة الزواج نفسها، التي أصبحت مؤخراً مهددة بالطلاق السريع، لدرجة أن الكثير من الزيجات صارت تنتهي بعد إنجاب الطفل الأول بوقتٍ قصير. وكأن المعايير انقلبت وصار الجنس البشري مبرمجاً لا على الزواج بل على الإنجاب فقط لا غير.
(ماري أوليفيي)