للوساطة الأسرية أهمية بالغة؛ إذ تُعتبر أحياناً آخر بابٍ يُطرق لإيجاد حلول لمشكلات مستعصية مثل التخفيف من حدّة التوتر الأسري أو الوصول إلى اتفاق في أثناء الطلاق أو مَدّ جسور التواصل بين الأطراف المتنازعة. لكن من المؤسف أن عدد الأشخاص الذين يلجؤون إليها من تلقاء أنفسهم يبقى قليلاً!
الوساطة الأسرية خارج نطاق الطلاق
صحيح أن الوسطاء الأسريين يستقبلون أزواجاً في خضّم طلاق صعب أو مُعقد؛ لكنهم إلى جانب ذلك يتدخلون أيضاً في بعض المسائل ذات الطابع العَمَلي. تشرح الوسيطة الأسرية في الجمعية المهنية المحلية للوساطة الأسرية، بولين بروشييه: "تسهم الوساطة الأسرية في إعداد الأزواج في طور الانفصال للإجراءات التي هُم مقبلون عليها بشكل ملموس. مثلاً في حالة الحضانة المشتركة، نضعُ على طاولة الحوار الأسئلة التالية: أي نوع من الحضانة هو الأنسب للأطفال؟ من سيتكلف بنقلهم أيّام الزيارات الأبوية؟ كما نتناول المسائل المتعلقة بـ"النفقة"؛ أي باختصار كل ما يتعلق بالحياة اليومية أثناء الطلاق وبعده". وتتولى الوساطة الأسرية كل ما من شأنه أن يحول دون نشوب خلاف مالي؛ إذ تضيف الوسيطة: "نتعامل بشكل دوري مع المسائل المتعلقة بالملكية، وأعني بذلك من سيحتفظ ببيت الزوجية مثلاً. كما يظل من الوارد معالجة مواضيع تتعلق بالأثاث والسيارة، وحتى الحيوان الأليف ومن سيتعهّد برعايته بعد الطلاق!".
في المقابل ثمة وضعيات نزاع أخرى تكون موضوع وساطة؛ إذ تضيف بولين بروشييه غروس في هذا الصدد: "أستقبل آباء يشتكون من قطيعة بينهم وبين أبنائهم المراهقين أو الشباب إلى حدّ أن البعض يجد في ساعة المقابلة في مكتبي الفرصة الوحيدة لتبادل الحديث مع أبنائه. كما يدخل في صلب اختصاصي أيضاً التعامل مع حالات تتعلق بالشيخوخة؛ إذ لا يتفق الأخوة دائماً على وضع الوالد المُسن في بيت لرعاية المسنين، ويُطرح في هذه الحالة سؤال حول من سيتولّى العناية به من بينهم، بالإضافة إلى ما يترتّب عن هذه الوضعيات المعقّدة من مصاريف وتكاليف".
في مثل هذه الحالات وغيرها يظهر دور الوساطة الأسرية في مد جسور الحوار بغرض الوصول إلى حلّ يرضي جميع الأطراف.
الوساطة الأسرية بعيداً عن القضاء
إلى جانب الوساطة التي يلجأ إليها الأشخاص بأمر من محكمة الأسرة؛ ثمة أيضاً وساطة يمكن أن نطلق عليها "توافقية" إذ بإمكان أيّ شخص أن يحجز موعداً عند أحد الوسطاء ثم يتردد على مكتبه لعدد محدد من الجلسات. وفي كل الأحوال فإن هناك معاييرَ تحدد إطار الوساطة الأسرية وأهمّها موافقة الأطراف المشارِكة والحياد وعدم تحيّز الوسيط وتوفير مكان مقابلات يحفظ خصوصية وسريّة الحالات.
تبقى الإشارة إلى أن بعض المحاكم لا تنظرُ في طلبات تغيير الحُكم إلا بعد المرور بتجربة وساطة أسرية وهو ما يُصطلح عليه بـ "محاولة الوساطة الأسرية الأولية الإلزامية".
الوساطة الأسرية في متناول اليد
قد يتهيّب البعض من اللجوء إلى أحد مكاتب الوسطاء الأسريين، لا سيما عند المرور بظروف مادية صعبة، بسبب تكاليف المقابلات المرتفعة؛ لكن يعمل بعض الوسطاء في إطار الجمعيات التي توفر الوساطة الأسرية بأسعار معقولة. تؤكد الوسيطة: "أعمل في الجمعية المهنية المحلية للوساطة الأسرية التي تملك عدة مكاتب في مختلف المناطق، ولأنها تتلقى الدعم المالي من مجموعة من الجهات الحكومية، فإننا نعتمد على السلم الذي وضعه الصندوق الوطني للإعانات الأسرية بحيث نحدّد سعر خدمتنا حسب الأجر الشهري للعميل. على سبيل المثال؛ بالنسبة لشخص يستفيد من الإعانات المالية فهو لن يدفع أكثر من 2 يورو للجلسة الواحدة، في حين نُحدد 5 يورو بالنسبة لشخص يتقاضى أجره طبقاً للحد الأدنى من الأجور".
الوساطة الأسرية قصيرة الأمد
تتراوح مدة مرافقة الوساطة الأسرية ما بين 3 إلى 8 حصص، وقد تبدو مدّة طويلة لكن بولين بروشييه غروس تعقبّ على ذلك بقولها: "ينبغي أن يدرك الأشخاص أن الجلسة الأولى لا تُلزِمهم بأيّ شيء على المدى البعيد؛ بإمكان الناس خوض التجربة واختبار إذا كانت تناسبهم أو لا. بعد كلّ حصة، ندرس الوضع لنرى إذا كانت ثمة ضرورة لحصة إضافية، والبعض يتحمّس لذلك فيما يتحفظ البعض الآخر. تعتمد الوساطة في أساسها على القبول والإرادة الحرة لكل طرف من الأطراف، وبالتالي فإن بيد كلّ واحد منهم أن يوقف الوساطة متى ما أراد، سواء أكان الوسيط نفسه أو الأطراف المتنازعة. يُعدّ أخذ "الوقت" ونسبيتَه بعين الاعتبار شرطاً مُلزِماً؛ إذ ليس بالضرورة أن يكون جميع الأطراف بنفس الجاهزية في الوقت نفسه، ولهذا ينبغي وضع فاصل زمني بين كل مقابلة وأخرى، ذلك أن ما يحتاجه أحد الأطراف من وقت قد لا يستغرقه الآخر.
الوساطة ليست بين اثنين بالضرورة
توضح الوسيطة: "يحصل أن نجري مقابلات فردية لخلق رابطة ثقة بيننا وبين الشخص، أو لوجود ضرورة تستدعي ذلك. وثمة حالات عكس ذلك؛ حيث المقابلات التي يفترض أن يحضرها اثنان فقط يحضرها أكثر. ذات مرة استقبلت ستّة أشخاص بداية بالأجداد مروراً بالآباء ونهايةً عند الأحفاد؛ إذ يمكن للوساطة أن تعم على الأسرة بأكملها، فأياً كان عدد الأشخاص الحاضرين وأعمارهم، فإن الهدف من ورائها يبقى هو نفسه؛ أي الإسهام في جعلهم يخرجون من مكتبي أكثر هدوءاً وقد رُدمت الفجوة التي تفصل بينهم ولو قليلاً. تمنح الوساطة الأسرية الفرصة للتعبير عن المشاعر والاحتياجات الدفينة أو المسكوت عنها، ولأن اللجوء إليها ليس بالقرار الذي يسهل أخذه فإن مجرد حضور الأطراف المَعنية إلى مكاتب الوسطاء يُعتبر خطوة مهمة نحو إعادة الأمور إلى مجاريها!".