بينما يقبع أحد أفراد أسرتك خلف القضبان وتتغير حياتك رأساً على عقب جراء ذلك؛ ينظر الآخرون إليك نظرة الاتهام وتنقلب الآية وتصبح وكأنك تعاني تماماً مثلما يعاني ذلك "القريب في السجن".
تبدو الغرفة وكأنها غرفة انتظار واسعة، ينتظر فيها بعض الأشخاص -الذين يكونون بمفردهم وأحياناً برفقة أطفال- لقاء السجين. هذا هو مركز استقبال سوليدير؛ وهي جمعية ملحقة بمركز الحبس الاحتياطي في بوا-دارسي والتي تستقبل منذ 10 سنوات أقارب المعتقلين كل يوم سبت في زيارة تستغرق نصف ساعة.
في هذا السياق؛ توضح رئيسة الجمعية ميشيل فوييه: "يشعر هؤلاء الناس في المرة الأولى بالقلق. إن فكرة وجود طفل أو زوج خلف القضبان تثير الذعر. ولذلك يجب أن يتم استقبالهم بشكل جيد بالإضافة إلى تقديم النصح والاستماع إليهم، لأن الحياة تغيرت بالنسبة لهم أيضاً منذ لحظة دخول قريبهم السجن.
النظرة الخارجية: حياة ثانية
تقول راما ذات الـ 68 عاماً: "لن يتمكّن أحد من العيش مثلما كان من قبل". منذ أن سُجن ابنها تقول إنها لم تعد لديها أي خطط في الحياة. وتضيف: "أحاول أن أعيش يوماً بعد يوم فهذه هي الطريقة الوحيدة للاستمرار".
في ذات الشأن؛ تسافر رانيا البالغة من العمر 56 عاماً 700 كيلومتر كل يوم سبت لترى ابنها الذي حكم عليه مؤخراً بالسجن لمدة 13 عاماً.
توضح رانيا: "لم أعد أستمتع بالإجازات بعد الآن. أحياناً يكون لدي انطباع بأن أسابيعي تتكون من أيام السبت فقط، فأنا أنظم نفسي فقط وفقاً لهذه الزيارة الأسبوعية التي تستغرق نصف ساعة".
بصفتها مديرة أولى في شركة للنفط اختارت التقاعد المبكر. وتشرح: "لكي أكون أكثر استعداداً لمتابعة مشكلة ابني؛ لكن في كلتا الحالتين لا يمكنني التركيز بعد الآن".
يجب الحفاظ على الثبات والحزم على الرغم من كل شيء؛ ولكن قبل كل شيء الصمود في وجه الجميع لأن النفور من العائلة أيضاً سيكون جزءاً من العقوبة المفروضة على السجين.
وفي هذا الصدد تقول غدير البالغة من العمر 28 عاماً: "كثير من الأشخاص الذين اعتقدت أنهم أصدقاء ابتعدوا عني بمجرد أن علموا أن زوجي كان مسجوناً. وهذه حقيقة مؤلمة للغاية؛ فجأة شعرت بالعزلة التامة وكأنني أنا أيضاً مسجونة".
كانت تزور زوجها المسجون المحكوم عليه بخمسة أشهر على مدار شهرين. وتوضح: "عائلته قاطنة خارج أرض الوطن وليست لديها الإمكانيات للقدوم لرؤيته. وبالنسبة لي لا أود أن أخبره بأي شيء يمكن أن يزعجه".
مثل غدير، فإن غالبية أقارب المعتقلين يختارون عدم قول أي شيء؛ وهي الطريقة الوحيدة ليكون الشخص قوياً أمام النظرة الخارجية للناس وعدم تفهمهم. إنه الصمت التام الذي يزيد من حدة الفجوة بين الأسرة والآخرين.
عندما سُجن ابنهما، اختار أحمد وليلى العيش بمفردهما مع هذا السر أولاً خوفاً من الحكم عليه وثانياً لأنهما يأملان في يوم من الأيام أن يتمكّنا من طي الصفحة.
ويشرحان: "في الواقع أرادنا أن نعيش هذه الحقيقة وكأنها سر لم نرغب في وجوده في حياتنا وحياة ابننا. فمن خلال عدم إخبار أي شخص وكأننا نقول لأنفسنا أنه في يوم خروجه من السجن سيعود كل شيء إلى ما كان عليه؛ لن تترك هذه القصة أي أثر ولن تترك أي شاهد آخر غيرنا. لذلك يمكننا أن ننسى".
الحزن والعار والذنب
في غضون ذلك؛ لا يزال هناك الأصدقاء والجيران والزملاء الذين يجب تجنبهم حتى لا يضطروا إلى التطرق إلى موضوع الأبناء الشائك. بالنسبة إلى رانيا أصبحت هذه المناقشات لا تُطاق. وتستدرك: "ماذا ينبغي أن تجيب عندما يسألك الناس عما يفعله ابنك؟".
وبالتالي فإن الشعور بالخجل لا يستغرق وقتاً طويلاً حتى يصبح طاغياً بالنسبة لأمهات الأسرى. تشارك رنا أطفالها سر سجن ابنها وتقول في هذا الصدد: "لم أستطع تحمل ما سيعرفه الناس في الخارج. سوف أتأثر كثيراً لأنني بالإضافة إلى الحزن أشعر بالخزي والعار".
عبرت رنا عن شعورها وهي تبكي لأن معاناتها مؤلمة وقاسية للغاية وتثير شعوراً سيئاً في نفسها. في المقابل دائماً ما يطمئنها ابنها الآخر فادي ذو الـ 43 عاماً قائلاً: "ما تشعرين به طبيعي لكن أنا شخصياً لا أشعر بالخجل لأن هذا الوضع واقع يمكن تفسيره. يجب أن تكون أي عائلة واجهت معاناة أحد أفرادها قادرة على فهم ذلك".
لا ينبغي تجاهل الشعور بالذنب. تضيف رانيا: "لا يسعني إلا أن أشعر بالمسؤولية جراء الموقف. حتى في حالة ابني لم يكن هناك شيء ينذر بوقوع مثل هذه المشكلة. لذلك انتهى بي الأمر بإخبار نفسي أن هناك أشياء لم أنبه عنها من قبل وفشلٌ في إدارة الأوضاع من جانبي".
قطع العلاقات
بالنسبة لأزواج السجناء فغالباً ما تكون الوحدة هي الثمن الأكبر الذي يجب دفعه. حتى لو كانت العقوبة لمدة قصيرة فإن هذا الغياب غالباً ما يكون بمثابة هجران، وهو ما يعبر عنه البعض بغضب مثل غدير التي تقول: "في البداية ترددت في زيارته لأنني أردت أن أعاقبه بقدر ما سبب لي جرحاً في نفسي لا يلتئم".
كما تفيد كريمة البالغة من العمر 18 عاماً وتزور والدها المسجون منذ عام: "السجن هو ما فرّق والديّ إلى الأبد. أمي لا تريد أن تسمع عنه أي شيء بعد الآن كما ترفض زيارته. ولكن الآن بعد أن بلغتُ سن الرشد لم يعد أمامها أي خيار. في الحقيقة غالباً ما نتجادل حول ذلك، لا سيما وأن أختي الصغيرة تود أن تأتي معي أيضاً لزيارته؛ لكن والدتي يجب أن تأتي معها. وعلى الرغم من أنني أعلم أنني سأؤذيها بالمجيء معي، فإنه لا يمكنني التخلي عن والدي فهو بحاجة إلى دَعمي".
عندما يصبح عبء المعاناة الأخلاقية ثقيلاً للغاية فقد يفضل أفراد الأسرة قطع الروابط. بعد عدة محاولات، توقف شقيق وشقيقة رانيا عن القدوم لرؤية ابن أخيهما في السجن. وتشرح في هذا الشأن: "لقد كان الأمر مؤلماً للغاية بالنسبة لهما لكن لا يمكنني إلقاء اللوم عليهما أو إجبارهما. أعلم أنهما إذا لم يأتيا فهذا دليل على أنهما يشعران بالحزن، وأنا أتفهم ذلك. طالما أنني وزملاؤه السابقون هنا فلا بأس. فبالإضافة إلى ذلك امتنعت عائلة مرافقه في زنزانته عن زيارته؛ حيث يرفض والداه رؤيته أثناء وجوده في السجن، وهذا غير مفهوم".
ومع المعاناة الأخلاقية يتراكم التعب والتوتر. تعترف رنا: "أشعر بتعب جسدي. أحياناً أتكبد العناء لكي أتمكن من القدوم لرؤية ابني في غرفة الزيارة. وعندما أتمكن من رؤيته أعلم أنني سأقضي ليلة مروعة. كيف يمكن أن تنام وابنك مسجوناً قابعاً بين أربعة جدران، ما عليك سوى محاولة التماسك جسدياً ونفسياً".
تقول كريمة: "أصبت بالاكتئاب في البداية وحيرت الكوابيس نومي. رؤية والدي وراء القضبان أخافتني حقاً؛ حيث بدا الأمر غير واقعي بالنسبة لي". جراء ذلك تتلقى كريمة مساعدة من قبل طبيب نفسي من أجل دعمها.
تضيف رانيا على ذلك: "لم أتمكّن لمدة ثلاث سنوات من البكاء أبداً. على الرغم من تقوقعي جعلت من حولي يعتقدون أن الحياة تستمر وتسير في مجراها بصفة طبيعية". لكنّ وجهها يرتجف؛ إنها تبكي من الداخل.
"لقد جئت لرؤية والدي"
لكي يصمت أو يبكي أو يثق أو حتى يختبئ؛ يحاول كل بالغ أن يعيش الوضع بطريقته الخاصة. بالنسبة إلى الأطفال فإن التعامل مع التداعيات النفسية أكثر تعقيداً حيث يصعب تحديد مشاعرهم.
يرى لؤي الذي يبلغ من العمر 5 سنوات والده خليل المسجون من إقليم الباسك، مرة واحدة في الشهر من خلال القضبان. يأتي مع جدته وعمه ووالدته أسماء التي تقول: "ابني يعرف جيداً أين نحن وقد قلنا له الحقيقة؛ لكنه يرفض الحديث عنها ولم ينطق قط بكلمة سجن. ما يهمه هو معرفة أن والده في مكان ما على بعد تسعمائة كيلومتر من منزله".
في حضن جدته، ينتظر لؤي دوره بصبر. عندما يُسأل عما يجري هنا يجيب فقط: "لقد جئت لرؤية والدي. كما تفيد أسماء: "لا أعرف ما إذا كان يتألم ولكن عندما ينفد صبره للعثور على والده فإنه يخبرنا بذلك. ما يمر به أمر خاص لأنه لا يعتبر والده بطلاً، فضلاً عن أنه لا يفهم سبب إبعاده عنه فالأمر متروك لنا لنوضح له مبدأ العدل وما هو الخير ومن الذي يستحق العقاب".
ليس كل الأطفال مثل لؤي؛ لديهم فرصة ليكونوا محاطين بالعائلة بأكملها. بمجرد قطع الشريك علاقته بشريكه المسجون، تبدأ معاناة القاصرين الصغار من العواقب لأنه لم يعد لديهم إمكانية زيارة السجين. كما يوضح عالم النفس آلان بورقبة للمفارقة "فإن هذا الانقطاع يشكل عقبة أمام عملية الانفصال".
ويشرح: "يميل الأطفال إلى تعويض هذا النقص من خلال خلق صورة داخلية شيطانية تحسرهم في نهاية المطاف وتمنعهم من النضج. سيُترجم هذا بشكل مختلف اعتماداً على ما إذا كان الأب أو الأم مسجونان. في الحالة الأولى يمكن أن يؤدي سجن الأب إلى سلوك متمرّد يمكن أن يتحول إلى أفعال عدائية عندما يكبر الطفل. أما في الحالة الثانية يكون دفع الثمن باهظاً في بعض الأحيان، لا سيما مع اضطرابات التعلق الخطيرة. لذلك من الضروري أن يبقى الأطفال على اتصال مع الشريك المسجون، وهكذا يدركون أنه لم يُهمش فهذا المسجون وليه وهو عنصر مشترك بينه وبين الطرف الآخر. ثم بعد ذلك يمكن للوالدين تحقيق الانفصال عن بعضهما البعض دون أن يخاف الأطفال من أن يفقدوا صلتهم بوليّهم أو عدم التشبه بخصاله".
يوضح آلان: "أما فيما يتعلق بالكذب أو الإهمال الذي قد يغري بعض الآباء؛ يمكنهم بأي حال من الأحوال تجنيب الطفل المعاناة. إنه يدرك أشياء كثيرة أكثر مما نعتقد ويشمل ذلك الغياب والتهميش والتجاوزات. بعد قولي هذا، لا يتعلق الأمر بحشو الحقيقة أيضاً. فقبل كل شيء عليك أن تعطي الأولوية لرؤيته للأشياء بدءاً من استيعَابه للمَوقف. فإذا قيلت له الحقائق بسرعة كبيرة ودون الاستماع إليه فلن يعود قادراً على الحديث عنها وسينغلق على نفسه وهو أمر ضار جداً".
عواقب مالية خطيرة
في عام 2000 كان يوجد في السجون الفرنسية ما يزيد قليلاً عن 50 ألف سجين. وفقاً لمسح أجراه مركز الأبحاث لدراسة ظروف المعيشة ومراقبتها (Credoc) في سبتمبر/أيلول من ذاك العام، فعندما يُسجن الشريك يرى الكثير من الأزواج أن الوضع المالي للأسرة يتدهور، ويرى البعض أن الأوضاء قد تسوء بالنسبة لأولئك الذين يقبع أولادهم في السجون. ويرجع هذا الوضع في المقام الأول إلى فقدان الدخل، فمنهم من كان لديه وظيفة معلنة وآخرون يعملون في السوق السوداء وغيرهم كانوا يحصلون على نظام للدعم فرنسي. علاوة على ذلك فإن التكاليف المتعلقة بالحبس (السفر للزيارات، المحامين، الإجراءات الإدارية، المدفوعات للسجين) تمثل في المتوسط 27% من دخل الزوج و21% من دخل الوالدين.