عانى مارك من الصداع النصفي منذ كان في التاسعة من عمره ومع اقترابه من سن الخمسين الآن فقد أصبح الصداع أشد، وهو يعاني منه بصورة يومية تقريباً. لذلك قرر استشارة المختص في التحليل النفسي والعلاج النفسي الجسدي (السيكوسوماتي)، جان بينجامين ستورا الذي يوضح في كتابه "15 حالة من حالات العلاج باستخدام الطب النفسي الجسدي" (15 cas de thérapies psychosomatiques) رحلة مارك نحو الشفاء باستخدام هذه الطريقة العلاجية.
جاء مارك الذي يشكو من صداع نصفي مزمن لاستشارتي بعد أن نصحه صديق وزميل لي باستشارة مختص في العلاج النفسي الجسدي. قابلته عدة مرات خلال الشهر الأول من العلاج، وكان مارك شخصاً طويل القامة وضخماً وقوي البنية وذكياً، وبدأ بإخباري عن عائلته التي نشأ فيها.
كانت والدته التي ولدت في عام 1936 امرأةً صارمةً رسخت فيه مثل الحياة العليا التي ظل ملتزماً بها طوال حياته. تنحدر والدته من عائلة من المثقفين؛ إذ كان جده أستاذاً جامعياً منخرطاً في العمل السياسي.
أما جده لأبيه فقد عمل طوال حياته في وظيفيتين، فكان يعمل مساءً في حمل نقالات المرضى إضافةً إلى عمله في وظيفة أخرى خلال النهار ليتمكن من إعالة أسرته الكبيرة التي كانت تضم 9 شقيقات إلى جانب والد مارك. وكان الأخير قد أصيب بمرض خطير ولكن لم أعرف ما الذي حصل بعد ذلك لأن مارك لم يتحدث مرةً أخرى عن الأمر.
الصداع النصفي والعودة إلى العمل
يعاني مارك من الصداع النصفي منذ عودته إلى العمل في سبتمبر/أيلول بعد انتهاء فترة الإجازات الطويلة. حاولت البحث في ظروف حياته بالتعاون معه لأفهم سبب الأعراض التي يعاني منها وأبدى اهتماماً وتعاوناً جيداً وسعى جاهداً لمحاولة فهم ما يحدث له.
كنت أحاول توصيف الأعراض التي يعاني منها وأفسر له ملاحظاتي وأوضح له أنها مجرد فرضيات في الوقت الحالي أحاول من خلالها فهم سلوكه فهماً أفضل، وخاصةً عدم قدرته على التفكير والجمود الذهني الذي يشعر به بسبب أعراض الصداع النصفي.
يدير مارك مصنع مشروبات وعصائر إدارة كاملة، لحساب رئيسه في العمل الذي هو صديقه في الوقت ذاته، وهو يعمل لنحو 14 ساعة يومياً من دون توقف ويعاني من أرق شديد. لذا فقد بدأت أربط بين معاناته مع الصداع النصفي وعودته إلى العمل أوائل سبتمبر/أيلول وكنت أتساءل عن مدى رغبته في العودة إلى عمله هذا.
علاوةً على ذلك فقد كان الصداع خلال الشهر الذي عاد فيه إلى العمل شديداً جداً؛ إذ كان يعاني منه طوال اليوم ما أجبره على الحد من نشاطه المهني تدريجياً خلال شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني وصولاً إلى الانقطاع التام عن العمل، وفي شهر يناير/كانون الثاني جاء لرؤيتي.
كانت فترة الإجازات قد سمحت لمارك بالاستراحة والعودة مجدداً لممارسة النشاط الذي يحبه جداً لكنه استنزف طاقته في الوقت ذاته إلى درجة أن جسده لم يعد يقوى على الاستمرار.
الحاجة إلى الهدوء
أيد مارك هذه النقطة وأصبح يفكر خلال الجلسات بكيفية إنهاء نشاطه الحالي والبدء بنشاط آخر يناسبه بطريقة أفضل. وهنا ظهرت مشكلة المواجهة المحتملة مع صديقه ورئيسه في العمل صاحب المصنع. وبرزت الصعوبة التي يعاني منها مارك في التعبير عن رفضه لأمر ما؛ ما جعلني أفكر على الفور بتثبيط الدوافع العدوانية الكامنة وراء الأعراض الجسدية وبهذه المرحلة التي يتكامل فيها سلوك الرفض وفقاً لرينيه سبيتز. لا يحب مارك المواجهة بل يفضل أن يبتعد قليلاً ريثما تهدأ الأجواء ليصبح بعد ذلك قادراً على قول ما يريد. لكن المهم بالنسبة إليه أن يتجنب المواجهة بأي ثمن؛ وهو الأمر الذي يتبعه حتى عندما يتعامل مع مرؤوسيه في العمل، وأوضح لي أن الحال كانت كذلك دائماً أيضاً فيما يخص علاقته بأفراد أسرته. لدى مارك شقيقان أكبر منه، وفي جلستنا الأخيرة تحدثنا مطولاً عن ماضيه؛ إذ لم يعد يتذكر أو على الأقل ليست لديه ذكريات عن حياته قبل سن 16 عاماً أي أنه لا يتذكر أي شيء عن مرحلة الطفولة أو المراهقة.
كانت جلسة اليوم جلسةً توضيحيةً بصورة خاصة لأننا تمكنها خلالها تدريجياً من تحديد عناصر محددة لمشكلته. وكان مارك قد وصل إلى الجلسة مرتاحاً تماماً؛ إذ لم يعانِ من أي صداع نصفي اليوم. وعندما أبلغني نيته المغادرة يوم الاثنين المقبل لقضاء إجازة لمدة أسبوعين في آسيا هنأته وتمنيت له إجازة سعيدة. اعتباراً من جلستنا الأخيرة اقتصرت معاناته مع الصداع النصفي على يومين فقط في الأسبوع؛ إذ لجأ مؤخراً إلى منزل صديق لطيف شعر لديه بالاسترخاء التام وأخبرني أنه، للمرة الأولى في حياته، كان نادراً ما يرد على المكالمات الهاتفية وأحاط نفسه بحالة من الهدوء. وكانت الإجازة التي سيقضيها على جزيرة نائية في آسيا حيث استأجر فيلا هناك ستوفر له الهدوء والسكينة التي يحتاج إليها.
الصداع النصفي وسيلة لمواجهة الضوضاء
جعلت حاجة مارك الشديدة إلى الهدوء حديثنا يأخذ منعطفاً جديداً؛ إذ تعود حاجته هذه إلى نفوره من الضوضاء التي كانت تحيط بطفولته ومكان عمله.
كانت والدة مارك قد أخبرته فيما سبق أن معاناته مع الصداع النصفي بدأت منذ كان في سن التاسعة، فقد عاش آنذاك مع أسرته في شقة صغيرة ما اضطره لتقاسم غرفة مع شقيقيه، وكان أكبرهما قد اعتاد الاستماع إلى موسيقى "الهارد روك" الصاخبة جداً طوال اليوم.
ومع صخب هذه الموسيقى في غرفته وصوت التلفاز العالي في غرفة والديه لم يكن بإمكان مارك أن ينعم بأي هدوء. لذا فقد كانت غرفة المرحاض ملاذه الوحيد في ظل كل هذا الصخب حيث قضى معظم وقته يقرأ هناك، دون أن يحتفظ بأي ذكريات عن مرحلة الطفولة أو المراهقة.
بعد ذلك تطرقت إلى نظرية أن الصداع النصفي ظهر لديه كآلية لحمايته من هذه الضوضاء، فهذا الصداع سمح له بعدم سماع أي شيء، وأصبح بسببه يشعر بالضجيج داخل رأسه فقط.
إضافةً إلى ذلك فقد نشأت علاقة بين مارك وهذه الضوضاء؛ إذ لا حظنا أنه على الرغم من رغبته بالابتعاد عنها فهو لم يتخذ خطوةً فعليةً بهذا الاتجاه بل على عكس ذلك تماماً، فقد عمل طوال حياته المهنية في أماكن صاخبة كالنوادي الليلية، وغير ذلك.
لقد عاش في أجواء صاخبة على الرغم من كرهه لهذا الصخب، وكان يبحث دون وعي منه عن هذه الأماكن الصاخبة ما جعل معاناته تستمر حتى اليوم. اتفق مارك معي في طرحي هذا وبدأ يفكر في مستقبله.
كان ترك العمل في مصنع العصائر خطوةً صعبةً بالنسبة إليه لأن رئيسه في العمل متمسك به و يقدر جداً إخلاصه وتفانيه في عمله. لكنه تمكن أخيراً من إقناعه بقبول رحيله وهو يبحث الآن عمن سيحل محل مارك ويؤدي دوره بالتفاني ذاته، فهو شخص نشيط ومثابر بالفعل.
أوضحت له وجهة نظري التي تتلخص بأن ما شعر به عند العودة إلى العمل في العام الماضي، كان بمثابة جرس إنذار أطلقه جسده المشبع بالإرهاق العصبي، وهكذا فإن جسده متأثر بهذا الإرهاق، وليتمكن من الاستمرار وجهه إلى التعامل مع الصداع النصفي، وبهذه الطريقة تمكن من حمايته، فالصداع النصفي في حد ذاته آلية دفاعية أيضاً.
استطاع مارك التحرر من الصداع النصفي
حاولت أن أطبق فرضيتي هذه على فترات عديدة من حياة مارك وخصصت جميع الجلسات اللاحقة للبحث في ماضيه ومحاولة استعادته لأعيد تنشيط نظامه النفسي.
وهكذا فقد بحثنا في الأنا المثالية لديه وحياته العاطفية، فتحدث معي عن ابنه وحقيقة أنه كان شديد الصرامة معه وأنه يساعده في دراسته. مارك مطلق ويعيش ابنه مع زوجته السابقة وعلى الرغم من ذلك فإن علاقته بها طيبة ويعود ذلك إلى رغبته في تجنب النزاعات.
يقارن مارك الحياة الحالية لابنه مع حياة ابنة إحدى صديقاته التي كانت أماً متساهلةً نوعاً ما؛ الأمر الذي أدى إلى عواقب وخيمة في حياة هذه الفتاة الصغيرة التي غالباً تنظر إلى مارك "كأب بديل".
بعد انفصاله عن زوجته السابقة، تعرف مارك إلى امرأة أخرى لكنه تركها قبل بضع سنوات. كانت هذه المرأة مديرة أحد الأقسام في مصنع المشروبات والعصائر وهي سيدة انتهازية لم تناسبه؛ إذ حاولت استغلال منصبه كمدير عام لمصنع المشروبات هذا. من الواضح أنه سيتعين علينا لاحقاً استكشاف علاقته بالمرأة والصعوبات التي تواجهه في ذلك.
في الوقت الحالي يتابع مارك دراسة ابنه بعناية، ولما كان لا يعمل ولديه الكثير من الوقت فقد سمح له ذلك برؤيته كثيراً. يدرس ابنه في المعهد الجامعي للتكنلوجيا (IUT) وتبدو نتائجه الامتحانية ممتازة وهو يدعمه بقوة ليستمر.
في نهاية الجلسة أخبرني مارك أنه يشعر أنه بصحة جيدة ولا يعاني من أعراض الصداع النصفي وأن رأسه قد تحرر تماماً، وتمنيت له عطلةً سعيدةً.