عادة ما نعتمد على فحص العناصر الغذائية لتحديد ما إذا كانت الأطعمة صحية أم لا؛ هذا بالإضافة إلى جردِ ما تحتويه من سكريات ودهون وفيتامينات ومعادن ومغذيات نباتية. غير أن هذا المنظور الذي لا يأخذ سوى المكون الغذائي بعين الاعتبار، يظلّ اختزالياً وقاصراً إلى حد بعيد. إذ إنه يُنحي جانباً خصائصها وفوائدها المرتبطة ببنيتها وشكلها أو ما يطلق عليه بـ "مصفوفة الغذاء". فالجهل بالآثار المترتبة عن أثر "المصفوفة الغذائية" من شأنه أن يتركنا عرضة لتوصيات غذائية مغلوطة ومضرّة بالصحة.
قد يبدو تقديم حبوب الإفطار المستخلصة من الأرز أو القمح الكامل لطفلك على اعتبارها وجبة إفطار متكاملة، اختياراً حكيماً وصحياً. غير أن بثق الطعام والقولبة بالنفخ من شأنهما أن يُفقدا مصفوفة الطعام سِمَتها الطبيعية ويحوّلاها من طعام صحي إلى مجرد مصدر سكريات سريعة للجسم. ما يجعل الطفل الذي يتناول حبوب الإفطار هذه لا يحصل في نهاية المطاف سوى على طعام مُشبع بالسكريات البسيطة بعد أن حُرِّفَت خصائصه عن خصائص الحبوب الأصلية والطبيعية.
ظلّت "مصفوفة الغذاء" ولمدة طويلة غير مُكتشفة من طرف خبراء التغذية، رغم أنها تُعد مرجعاً لا غنى له لتصنيف الأطعمة الصحية وتمييزها عن غيرها، لا سيما في زمنٍ استحوذت فيه المنتجات فائقة المُعالجة على الأسواق.
ما هي مصفوفة الغذاء؟
المصفوفة (matrix) كلمة مشتقة من الجذري اللاتيني (mater) والذي يعني الأم، وهي عنصر "يوفر ركيزة أو بنية تصلح لإعادة الإنتاج أو البناء". أما حين يتعلق الأمر بالأغذية، فالمصفوفة مرتبطة بالبنية ثلاثية الأبعاد للأطعمة أو شكلها الظاهري، فالعناصر الغذائية التي تدخل في تكوينها تتفاعل بينها بطرق مختلفة ما يمنحها خصائص متباينة.
ولنأخذ اللوز على سبيل المثال، فهو صَلب وبُنيّ اللون وغني بالألياف، غير أن مصفوفته تتغير حال طحنِه على شكل مسحوق. فحتى وإن تشابهت تركيبة حبة اللوز المطحونة بتركيبة حبة اللوز الكاملة، فإن آثارهما في الحالتين على الجسم مختلفة. وتظهر هذه الاختلافات عبر تباين هضمية العناصر الأغذية، والتي تنتج عنها بدورها ردات فعل فسيولوجية وأيضية مختلفة.
يمكن إذن أن نُعرِّف أثر مصفوفة الغذاء بأنها: "تشارك طعامين في التركيبة ذاتها مع اختلاف هيئتهما ما يقتضي بالضرورة أثراً مختلفاً لكلّ منهما على الصحة". بشكل آخر، فإن السعرات الحرارية لغذاء "أ" لا تعادل سعرات غذاء "ب" رغم تركيبتها الغذائية المتماثلة، إذ لكل من "أ" و"ب" سعراته الحرارية الخاصة.
لا يتوقف تأثير المصفوفة عند الأغذية بل يطالُ بشكل أعمق المكونات والعناصر الغذائية الدقيقة نفسها.
ولنأخذ النشاء على سبيل المثال، فإذا تمت تجزئته للحصول على شراب الغلوكوز ثم شراب الغلوكوز- فركتوز فإن ذلك لا يؤثر في التركيبة التي لا تتغيّر في الحالتين؛ حيث أن للفركتوز المكونات نفسها التي للغلوكوز، لكن الهيئة هي المختلفة. في المقابل، فإن الآثار الفسيولوجية لا تتشابه، فمؤشرات نسبة السكر في الدم لكلّ منها مختلفة. حيث إن الاستهلاك المفرط للفركتوز يقود إلى الإصابة بمرض الكبد الدهني والذي يميزه تراكم الدهون على الكبد.
وبالتالي، لا غنى عن وضع أثر "المصفوفة" الخاص بالأغذية والعناصر الغذائية في الحسبان لتقييم أثرها في الصحة.
آليات عمل المصفوفة
تلعب المصفوفة دوراً رئيساً في التغذية، إذ تؤثر في سُرعة الهضم وكذلك الشبع، فدرجة المضغ ترتبط بمدى صلابة أو هشاشة المصفوفة.
ولنسترجع مثلاً المثل الذي سُقناه حول حبة اللوز الكاملة، حيث نجدها مشبعةً أكثر، والسبب في ذلك عائد إلى ما تتطلبه المصفوفة الصلبة من مضغٍ أكثر، ما يُفرز دهوناً أقل في الدم، وهذا كله يحصل على مهلٍ بسبب القشرة الغنية بالألياف عكس اللوز المطحون على شكل مسحوق ناعم.
والتي تكرر عند تناول تفاحة كاملة (مصفوفة صلبة)، أو على هيئة معجون أو كومبوت (مصفوفة شبه صلبة) أو على شكل عصير (مصفوفة سائلة). فآثار المصفوفة ليست حكراً على غذاء دون آخر بل تعمّ كل الأطعمة، وبالتالي نستخلص أن من المُستحسن أن نستهلك الأغذية في هيئتها الصلبة الكاملة.
فقدان أثر المصفوفة في الأغذية فائقة المعالجة
أدخلت تقنيات المعالجة تغييراً على مصفوفة الغذاء، سواء كانت هذه التقنيات حرارية أو ميكانيكية أو تخمرية. صحيح أن تغيير المصفوفة يعود أحياناً بالنفع على الصحة حين يجعل من الأطعمة أكثر قابلية للهضم، غير أن التغيير الذي يعمد إلى إعادة تشكيل المصفوفة بشكل كامل لاستخراج المكونات التي تدخل في تركيبها ثم إعادة جمعها داخل مصفوفات اصطناعية جديدة، كما هو الحال بالنسبة للأغذية فائقة المعالجة، يخلق مشكلة كبيرة للصحة.
فضياع أثر المصفوفة بالنسبة لهذه الأطعمة لا يحصل بسبب التكسير (cracking) فحسب ولكن أيضاً من خلال الاستخلاص والتنقية والتميء والتغيير الكيميائي. وبسبب الاستساغة الفائقة لهذه الأطعمة فائقة المعالجة والتي تتجلّى في مذاقها اللذيذ، فإن الأمر ينتهي بمن يتناولها إلى الاستهلاك المفرط للسعرات الحرارية. ومن جهة أخرى؛ بسبب شكل المصفوفات الهشّة والليّنة والسائلة لهذه الأطعمة؛ فإنها تتطلب مضغاً أقل ما يعني أنها أقل إشباعاً.
ومن النظرة الأولى لحالة هذه الأطعمة يمكن الاستنباط بأن التدهور أو التغيير الاصطناعي لمصفوفاتها هي بمثابة عوامل تقف خلف الأضرار التي تتسبب فيها للصحة.
أثر المصفوفة للألياف: ألياف طبيعية أو مُستخرجة؟
تعمد المصانع إلى إضافة ألياف إلى الأطعمة المكررة، لا تتشارك مع الألياف الطبيعية في خصائصها. فالألياف الموجودة بشكل طبيعي في المصفوفات الغذائية ترتبط بمغذيات نباتية، كمضادات الأكسدة والتي تُحَرّر بالتدريج في القناة الهضمية.
إذ تحمي هذه الجزئيات عند مرورها بالدم من مخاطر أكسدة البروتين الدهني منخفض الكثافة (Low Density Lipoprotein)، وهو بروتين دهني منخفض الكثافة متعارف على أنه "كولسترولاً ضاراً"؛ يتولد من الفائض من الكولسترول الذي يتموضع على جدار الأوعية الدموية متسبباً في تصلب عصيدي ينتج عن تراكم الألواح الدهنية ما يعرض للإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية. فيما يقلل تأكسدها - الذي تُسهم الألياف الطبيعية في مكافحته - من قدرة الجسم على التخلص منها من جهة، كما يُسهم في مفاقمة هذا التراكم.
أما على مستوى القولون؛ فإن مضادات الأكسدة الموجودة في الألياف المتوفرة بشكل طبيعي في الأغذية تُسهم في مكافحة الجذور الحرة لأوجاع القولون.
علاوة على ذلك، فهي لا تتخمّر في القولون بالطريقة نفسها التي تتخمر بها الألياف المستخرجة. كما أنها تمنح بنيةً خاصة للمنتجات النباتية، وتسبغ عليها خصائص خاصة، كقدرة أفضل على الاحتفاظ بالمياه، أفضل من تلك التي تتمتع بها الألياف المستخرجة التي تفتقر إلى المركبات الحيوية النشطة الوقائية.
توصيات غذائية
من المرجح أن تزايد معدلات انتشار الأمراض المزمنة في العالم يعود إلى فقدان أثر المصفوفة لعدد من الأغذية لا إلى تركيبتها. إذ إن السبب الأول الذي يدفع بالناس إلى الاستهلاك المفرط للدهون المشبعة والملح والسكريات والمواد المضافة الخطِرة، يعود بالأساس إلى تغيير هذه المصفوفة.
ومن هنا تتجلى الأهمية البالغة لوضع أثر مصفوفة الغذاء في الحسبان عند قيام أي منظمة صحية بتوصياتها الغذائية؛ ويتحقق ذلك، عبر الحد من استهلاك الأطعمة فائقة المعالجة، ذات المصفوفة المعدلة صناعياً أو المتدهورة. على أمل يولي البحث العلمي المزيد من الاهتمام والدراسة لهذا المجال الذي يحمل بين دفتيه حلولاً جذرية لمشاكل تمسّ صحة سكان العالم اليوم.