تغلغلت التكنولوجيا الرقمية في جوانب الحياة البشرية جميعها، مُغيرةً بذلك طريقة التواصل بين الأشخاص، والعمل، والتعليم، وحتى إدارة الصحة الجسدية والنفسية، وعلى الرغم من أن الاستخدام المفرط للتكنولوجيا يؤدي إلى تشتيت الانتباه والإرهاق الرقمي، فإن محو الأمية الرقمية (Digital Literacy) يؤدي دوراً محورياً في تعزيز الصحة النفسية؛ إذ أكدت دراسة بحثية نشرتها مجلة الحدود في علم النفس (Frontiers in Psychology) في أبريل/نيسان 2025 أن محو الأمية الرقمية يؤثر تأثيراً إيجابياً في تحسين الصحة النفسية عبر تعزيز المرونة الذهنية والعاطفية، فكيف يمكن أن نفهم هذه المعادلة؟ الإجابة عبر المقال.
محتويات المقال
ما هي أهم النتائج التي توصلت لها هذه الدراسة البحثية؟
حاولت الدراسة البحثية السابق ذكرها معرفة العلاقة بين الثقافة الرقمية والمرونة النفسية لدى الرياضيين، وقد شارك في هذه الدراسة أكثر من 200 لاعب كيك بوكسينغ، وقُيّمت ثقافتهم الرقمية من خلال مقياسٍ مُعتمدٍ يشمل 4 أبعاد فرعية وهي: السلوك، والمعرفة التقنية، والمهارات المعرفية، والمشاركة الاجتماعية، وتبين من نتائج الدراسة أن محو الأمية الرقمية يُسهم في تعزيز المرونة النفسية.
فقد أوضحت الدراسة أن الاستعداد البدني ضروري للنجاح في ممارسة الرياضة، وعلى الرغم من ذلك فإن نقص الكفاءات النفسية -مثل ضبط الانفعالات، والتعامل مع النكسات، والحفاظ على الثقة بالنفس- يمكن أن يعوق أداء الرياضيين بصورة كبيرة. ولهذا يُعدّ بناء المرونة النفسية، أي القدرة على التعافي من التحديات والشدائد، أمراً بالغ الأهمية للرياضيين من أجل تجاوز النكسات والإخفاقات الحتمية التي تحدث في أثناء عملية التطوير، ولهذا السبب تؤكد الدراسة أهمية تطوير المرونة النفسية، وخاصة القدرة على إدارة المشاعر السلبية بفعالية، والتكيف مع المواقف المتغيرة، والحفاظ على التركيز تحت الضغط.
وتُعرّف الدراسة المرونة النفسية بأنها مجموعة من القيم والمواقف والمشاعر التي تُشكل كيفية تعامل الأفراد مع التحديات والتغلب عليها لتحقيق أهدافهم، وتشرح الدراسة أن محو الأمية الرقمية، أو الثقافة الرقمية، يعزز المرونة النفسية من خلال تخفيف التوتر، والتواصل مع العائلات ومن ثم الحصول على الدعم، علاوة على التواصل مع الأفراد أصحاب التفكير المماثل على منصات التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت، والمشاركة في أنشطة تخفف المشاعر السلبية؛ مثل الوحدة والقلق والاكتئاب، كما يمكن أن يسهم الوعي الرقمي في تعزيز مرونة لاعبي الكيك بوكسينغ لأنهم يتعرضون للكثير من الضغوط النفسية.
ويمكن القول إن الثقافة الرقمية ساعدت اللاعبين المشاركين في الدراسة من أجل تعزيز القدرة على تحليل المعلومات المقدمة في الوسائط الرقمية بصورة نقدية، واتخاذ قرارات مستنيرة بناءً عليها، بالإضافة إلى استخدام الموارد الرقمية بمسؤولية، وامتلاك أنماط تفكير متطورة، تشمل الجوانب المعرفية والحركية والعاطفية والاجتماعية، مثل التركيز وحل المشكلات، وتنظيم الانفعالات، والسلوكيات الثابتة الموجهة نحو تحقيق الأهداف، وكلها مدعومة بثقة قوية بالنفس.
وتضيف الدراسة أن الأفراد الذين يتمتعون بمستويات عالية من الثقافة الرقمية يتميزون بعادات إنتاجية ومهارات متقدمة في اتخاذ القرار والتفكير الموجه نحو الحلول، وينصح الباحثون المشاركين في الدراسة بضرورة تسخير قوة التكنولوجيا لتحسين مهارات الثقافة الرقمية، وذلك من أجل الوصول إلى مستويات جديدة من المرونة والتركيز والبراعة الاستراتيجية، ما يؤثر في نهاية المطاف في أداء الرياضيين بصورة عميقة.
ما هو المقصود بمحو الأمية الرقمية؟
يُعدّ استخدام التكنولوجيا الرقمية سمة من سمات الحياة اليومية في المجتمع المعاصر، ولا يقتصر الأمر على الوصول إلى المعلومات ومعالجتها باستخدام الأدوات الرقمية فحسب، بل يشمل أيضاً التحليل والوعي بالفرص والقضايا في الفضاء الرقمي.
ويمكن القول إن مهارات الثقافة الرقمية تُمكّن الأفراد من التعلم والتغيير والتكيف مع البيئة الرقمية العالمية، كما تُعزز هذه المهارات تطوير الاستخدامات الإبداعية والتحليلية للتكنولوجيا، حيث تُحوّل المستخدم من مستهلك سلبي إلى مستخدم نشط وواثق قادر على الانخراط الكامل والمهني في عالم الإنترنت، لذلك، تُعدّ الثقافة الرقمية، التي تُركز على معرفة الأفراد ومهاراتهم وممارستهم للتقنيات الرقمية أمراً شديد الأهمية في الوقت الحالي.
وبناءً على ذلك، يجب التركيز على محو الأمية الرقمية، ويمكن القول إن مصطلح الأمية الرقمية ظهر خلال عام 1997، ويعني غياب المعلومات، أو المهارات أو الفهم فيما يتعلق باستخدام الأدوات والتقنيات الرقمية لإنجاز أي مهمة، وعدم القدرة على استخدام الحاسوب أو الهاتف الذكي أو الأجهزة الإلكترونية الأخرى للحصول على معلومات عبر الإنترنت أو التواصل مع الآخرين.
وقد تشمل الأمية الرقمية أيضاً، تعثّر الوصول إلى الإنترنت بسبب التكاليف الشهرية أو السكن في المناطق الريفية، علاوة على مواجهة صعوبة في تأمين البيانات الشخصية، أو كيفية العثور على معلومات موثوقة على الإنترنت.
وعلى الرغم من أهمية الثقافة الرقمية، فإن لها جانباً سلبياً يتمثل في توضيح المختص النفسي، عبد الرحمن الحمودي، أن بعض منصات التواصل الاجتماعي تنشر محتوى نفسياً غير دقيق، ما يؤدي إلى تشكيل صورة مشوّهة أو سلبية عن الذات، ومع الوقت يبدأ بعض الأشخاص بتبنّي هذه التصورات وتطبيقها على واقعهم من غير وعي، ومن ثم، يُسهم ذلك الأمر في زيادة الضغط النفسي، وتدني تقدير الذات، وظهور مشكلات في العلاقات الشخصية.
اقرأ أيضاً: ما هو الإرهاق الرقمي؟ وكيف تحمي نفسك منه؟
كيف يؤدي محو الأمية الرقمية إلى تعزيز الصحة النفسية؟
عادة ما يؤدي محو الأمية الرقمية إلى الوعي الرقمي؛ وهو القدرة على استخدام التقنيات الرقمية وفهم مخاطرها، ولا يقتصر هذا التعريف على المهارات التقنية التطبيقية اللازمة لاستخدام الإنترنت والوصول إليه، بل يشمل أيضاً القدرة على التفاعل النقدي والواثق مع البيئة الإلكترونية.
ويعزز الوعي الرقمي أو محو الأمية الرقمية الصحة النفسية من خلال تلبية الاحتياجات النفسية الجوهرية من خلال دعم الاستقلالية، والتقييم الذاتي، والكفاءة؛ بمعنى إيمان الأشخاص بقدرتهم على تخطي العقبات، والتواصل الاجتماعي، وذلك عن طريق:
- إدراك متى يكون استخدام التكنولوجيا صحياً ومتوازناً بدلاً من أن يكون رد فعل.
- التحكم في السلوك، واتخاذ خيارات واعية، وترسيخ القدرة على تحديد الأولويات.
- طرح الأسئلة والتفكير النقدي فيما يشاهدونه ويفعلونه باستخدام الوسائط.
- بناء مهارات اجتماعية مثل اللطف والتعاطف.
- الوعي بردود الفعل العاطفية التي تُثير سلوكيات سلبية، مثل الشك الذاتي.
- فهم أهمية الحدود، بما في ذلك السلوكيات الشخصية والخصوصية وملكية المحتوى.
- توفير استراتيجيات للتعامل مع المتنمرين أو المحتوى غير اللائق.
- التعرّف إلى وجهات النظر والتجارب المتنوعة للآخرين عبر الإنترنت.
- بناء المرونة الرقمية من خلال تعلم المهارات اللازمة للتكيف والازدهار في بيئة رقمية دائمة التغير.
- المشاركة في سرد القصص الرقمية أو مشاريع الوسائط المتعددة توفر منفذاً للتعبير عن الذات، وتعزز الرفاهية العاطفية والثقة بالنفس.
وتشرح دراسة بحثية حديثة نشرتها مجلة بي إم سي للصحة العامة (BMC) في يناير/كانون الأول 2025، أن محو الأمية الرقمية يسهم في تعزيز الصحة النفسية من خلال عدة عوامل، مثل تحسين الدخل الذي يرفع جودة الحياة، وإمكانية الحصول على الدعم الاجتماعي، علاوة على الوصول إلى الرضا الوظيفي الذي يعزز الصحة النفسية والجسدية.
ويعتقد الباحثون القائمون على الدراسة أن محو الأمية الرقمية يعد بمثابة رأسمال بشري قيّم، وذلك لأنه يؤثر بالإيجاب في دعم الصحة النفسية؛ إذ يتمتع الأفراد الذين يمتلكون مستويات عالية من الوعي الرقمي بتواصل اجتماعي صحي، ودعم اقتصادي، ما يُحسّن جودة حياتهم وظروفهم الصحية، وبفضل هذا الوعي الرقمي العالي، يُمكنهم اكتساب رؤى عميقة في الوقاية من الأمراض وممارسات الرعاية الصحية من خلال الوسائط الرقمية، علاوة على ذلك فإن النشر الواسع لمعلومات الصحة النفسية عبر المنصات الإلكترونية يُحسّن بصورة كبيرة إمكانية الوصول إلى الموارد الطبية.
ومن ناحية أخرى، يمكنهم التواصل مع أفراد لهم تفكير مماثل على منصات التواصل الاجتماعي، ما يزيد مشاركتهم في الأنشطة الاجتماعية، ويسهم في تخفيف المشاعر السلبية؛ مثل الوحدة والقلق والاكتئاب.
اقرأ أيضاً: نصائح لتقليص الوقت الذي تقضيه على وسائل التواصل الاجتماعي
6 نصائح عملية تساعدك على زيادة وعيك الرقمي من أجل تعزيز صحتك النفسية
يمكن أن يساعدك زيادة الوعي الرقمي على التنقل بصورة أفضل في عالم التكنولوجيا، والبقاء آمناً على الإنترنت، علاوة على الوصول إلى مجموعة واسعة من الموارد والفرص، وتحسين الإنتاجية، وإليك أهم النصائح التي قد تحتاج إليها:
1. قيّم مستواك الحالي
الخطوة الأولى لمحو الأمية الرقمية هي تحديد نقاط قوتك وضعفك؛ يمكنك على سبيل المثال استخدام أدوات التقييم الذاتي، بالإضافة إلى طلب ملاحظات من زملائك أو مديرك في العمل، وذلك من أجل تقييم مستواك الحالي، ووضع أهداف واقعية ومحددة لتحسين مهاراتك، وتحديد أولويات المجالات التي تحتاج إلى مزيد من الاهتمام.
2. تعلّم من مصادر متنوعة
يمكنك التسجيل في دورات وورش عمل، وندوات عبر الإنترنت تتناول مواضيع متعلقة بالثقافة الرقمية، مثل الأمن الرقمي ورواية القصص الرقمية، علاوة على ذلك، حاول العثور على موارد مجانية أو منخفضة التكلفة، مثل المدونات والبودكاست ومقاطع الفيديو والكتب الإلكترونية، والتي تقدم نصائح وبرامج تعليمية، بالإضافة إلى ذلك، يمكنك التعلم من تجربتك الخاصة، من خلال تجربة أدوات ومنصات وتنسيقات مختلفة، والتفكير في نتائجك.
اقرأ أيضاً: اتبع هذه الخطوات لتتخلص من السموم الرقمية
3. فكّر بتأثير الثورة الرقمية في مجال عملك
يؤدي الذكاء الاصطناعي دوراً كبيراً في أداء العديد من المهام، فكّر في أجزاء عملك التي يُحتمل الاعتماد فيها على الذكاء الاصطناعي بالمستقبل وكيف سيؤثر ذلك في دورك. بعد ذلك، راجع المهارات الأساسية التي تحتاج إليها حتى تظل محتفظاً بوظيفتك، وقيّم إذا ما كانت هناك أي فجوات في معرفتك.
4. تواصل مع الآخرين
لتحسين ثقافتك الرقمية تواصل مع الآخرين الذين يشاركونك اهتماماتك أو أهدافك أو تحدياتك؛ يمكنك الانضمام إلى مجتمعات أو منتديات أو شبكات إلكترونية تُركز على الثقافة الرقمية، مثل شبكة الثقافة الرقمية، أو المشاركة في فعاليات إلكترونية، مثل الندوات الإلكترونية أو المحادثات أو المؤتمرات، التي تُقدّم أمثلة أو رؤى أو ابتكارات. ومن خلال التواصل مع الآخرين، سوف تستطيع تبادل الأفكار والحصول على الدعم واكتشاف فرص جديدة.
5. طبّق مهاراتك
استخدم الأدوات والأساليب الرقمية لتحسين مهاراتك في البحث والكتابة والعرض، مثل تصور البيانات وإنتاج الوسائط المتعددة، يمكنك أيضاً استخدام المنصات والوسائط الرقمية لعرض أعمالك، ومشاركة معرفتك، مثل المدونات أو ملفات الأعمال أو البودكاست.
6. تابع آخر المستجدات
حاول قدر الإمكان مواكبة أحدث التطورات والاتجاهات في العالم الرقمي؛ على سبيل المثال، تابع مصادر المعلومات الموثوقة، مثل المجلات والنشرات الإخبارية والبودكاست، التي تتناول مواضيع متعلقة بالثقافة الرقمية، مثل التحول الرقمي والشمول الرقمي، وجرّب استكشاف أدوات ومنصات متطورة، مثل الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي، وبمواكبة آخر المستجدات، يمكنك التكيف مع الاحتياجات والتوقعات المتغيرة للمجتمع الرقمي.