ما هو علم الأنساب النفسي؟

4 دقائق

الأمراض التي قد نعاني منها، والكوابيس التي تسيطر علينا، والإخفاقات المتكررة؛ ماذا لو كانت اضطراباتنا تمثل "إحياءً" لذكرى معالم حياة أسلافنا؟ تُعنى تقنية علم الأنساب النفسي بدراسة التكرار عبر عدة أجيال، وهي تقدم نتائجَ مذهلةً بالفعل.

طفرة كبيرة في علم الأنساب النفسي

شهدت السنوات الثلاث الماضية تنامياً غير مسبوق في الاهتمام بالأصول العائلية، وانتشر الحديث عن هذا الموضوع على المواقع العامة والخاصة على الإنترنت انتشاراً واسعاً. كما أُنشِئتْ الجمعيات العائلية، وكثرت الكتب والبرمجيات والبرامج التلفزيونية التي تتناول تقنيات الأنساب.

يقول ستيف لاسي مؤسس موقع "جينيالوجي غيت واي دوت كوم" (Genealogy Gateway.com): "في مجتمع يفقد قيمه التقليدية وينقلب رأساً على عقب بسبب تفكك وحدة الأسرة؛ يتطلع الناس إلى العثور على جذورهم".

من خلال هذا الاتجاه؛ تكتسب تقنية علم الأنساب –الحديثة- شعبيةً إلى حد ما. وكما يوحي اسمها؛ تستخدم هذه الطريقة التي يمارسها معالجون نفسيون متخصصون، أساسيات البحث في علم الأنساب.

وكمثال على كيفية استخدام تقنية علم الأنساب النفسي لنأخذ حالة فرانسوا الذي عانى لسنوات من التهاب الحلق ومتلازمة رينود، وضعف الدورة الدموية في الأطراف؛ ما يعطي إحساساً دائماً بالبرد.

يقول فرانسوا: "لقد فشلت جميع المحاولات لعلاج هذه المشكلات باستخدام الطب التقليدي. أُتيحت لي الفرصة لأجرب طريقة علم الأنساب النفسي لدى معالج مختص، ولبضعة أشهر؛ عملت على إنشاء شجرة عائلتي من خلال البحث في أصولها، ورغم أن الأمر قد استغرق مني الكثير من الوقت، فقد تمكنت من العودة إلى أصول عائلتي في زمن الثورة الفرنسية، ثم اكتشفت أن أحد أجدادي كان يُدعى فرانسوا أيضاً، وأنه قُتل في 9 يناير/ كانون الثاني 1793. لقد وُلدتُ في نفس اليوم بعد 170 عاماً؛ في 9 يناير/ كانون الثاني 1963".

مبدأ طريقة علم الأنساب النفسي

تهدف الطريقة إلى تحديد أحداث مر بها أسلافنا، ولها صلة بالمشكلات التي نعاني منها اليوم. ولكن كيف يمكن لواقعة سعيدة أو غير سعيدة من الماضي، أو حتى خفية أيضاً بسبب جهلها أو اعتبارها من أسرار العائلة التي يجب أن تبقى طي الكتمان؛ أن يكون لها مثل هذا التأثير بعد بضعة أجيال؟ يمكن أن نعزو ظاهرة تكرار واقعة ما عبر جيلين أو ثلاثة أجيال عائلية إلى تناقلها شفهياً بطريقة مباشرة، أو عبر السلوك المرئي، أو بالتلميح الذي يمكن تخمين معناه بطريقة حدسية.

لكن في الحالات المشابهة لحالة فرانسوا؛ حيث نسي الجميع أحداث الماضي، فإن العلم لا يقدم أي تفسيرات. على أي حال؛ تعطي هذه التقنية نتائجَ مفاجئةً تماماً، ويستخدمها المعالجون بصورة متزايدة بما في ذلك الأطباء.

وكمثال على ذلك؛ دائماً ما يتأكد الدكتور ديفرويد؛ الجرّاح في مستشفى شيربروك بكندا، من عدم تحديد مواعيد إجراء العمليات الجراحية لمرضاه في يوم يوافق ذكرى عائلية أليمة لديهم؛ كوفاة أحد الأجداد، أو وقوع حادث ما، وغير ذلك.

نظريات ومدارس فكرية مختلفة

في كتابه "الطوطم والمحرمات" (Totem and Taboo)؛ أثار سيغموند فرويد إمكانية وجود "روح جمعية" في محاولة لتفسير انتقال اللاوعي من شخص لآخر؛ ولكن يُعتبر كارل غوستاف يونغ أول من مهد الطريق حقاً لمقاربة "الانتقال عبر الأجيال"، بعد أن وضع نظريته عن "اللاوعي الجمعي" الذي يمكن لكل منا الوصول إليه.

لاحقاً؛ طور كل من جاكوب ليفي مورينو مبتكر طريقة الدراما النفسية (السيكو دراما)، وفرانسواز دولتو، ونيكولاس أبراهام، وماريا توروك، وديدييه دوماس، نظريات متتالية ومتكاملة حول ديناميات اللاوعي في العائلة الواحدة، وهذا هو السبب في أن علم الأنساب النفسي يتميز بخصوصية دمج نظريات ومدارس فكرية مختلفة.

لا بد من ذكر أن الفضل في التطوير الحقيقي لهذه التقنية يعود إلى مختصة العلاج النفسي آن أنسيلين شوتزنبرغر، فقد عملت لسنوات مع مرضى السرطان، وبحثت في تاريخ عائلاتهم عن "التكرار" المحتمل أو أفراد العائلة الذين واجهوا أحداثاً مهمة.

وهكذا تمكنت الطبيبة النفسية من ملاحظة أن أعراض السرطان قد ظهرت لدى المرضى بصورة متكررة في السن ذاته الذي توفي فيه الأب أو الأم، أو الجد أو العمة، بسبب مرض خطير أو حادث ما.

العمل الاستقصائي في طريقة علم الأنساب النفسي

درّبت آن أنسيلين شوتزنبرغر معظم المعالجين النفسيين الفرنسيين المتخصصين في هذا المجال، لذا يستخدم جميعهم طريقة "علم الأنساب النفسي عبر الأجيال" الخاصة بها؛ مع بعض الاختلافات.

على سبيل المثال؛ إذا كان أغلب المعالجين يضعون الأسلاف في أعلى الورقة عند رسم شجرة العائلة، فإن البعض يفعل ذلك في الجزء السفلي منها، وتوضح إليزابيث هورويتز؛ مؤلفة كتاب "التحرر من مصير العائلة" (Se libérer du destin familial): "من المنطقي أن تضع نفسك في أعلى شجرة العائلة التي تقدم لك الدعم خلال بحثك هذا".

لكن الشيء الأكثر أهمية هو تضمين جميع الأحداث الكبرى في حياة أسلافنا؛ بما في ذلك الزيجات، والولادات، وحالات الانفصال، والأمراض الخطيرة التي أُصيبوا بها، والأماكن التي أقاموا فيها، وتنقلاتهم، والحوادث التي تعرضوا لها، وما إلى ذلك.

ثم نستكمل المعلومات باستخدام الأساليب المعتادة للاستقصاء في طريقة علم الأنساب؛ كالبحث في السجلات المدنية، والمسوحات التي أُجريت في مناطق منشأ أسلافنا.. إلخ.

العودة إلى الصدمة الأولى

تُمارس تقنية علم الأنساب النفسي ضمن مجموعات في دورات تدريبية وندوات، أو في جلسات فردية، وهي بمتناول الجميع. تُمثل هذه التقنية نهجاً علاجياً حقيقياً؛ حتى لو لم يكن علاجاً أسرياً بالمعنى الدقيق للكلمة.

توضح آن أنسيلين أن أغلب الأشخاص الذين تستقبلهم عموماً، يعانون من اضطرابات نفسية جسدية لا يمكن تفسيرها، وتقول: "إنهم يعانون من كوابيس متكررة ومشكلات مهنية مستمرة، أو يرسبون في الامتحانات بصورة منتظمة؛ كحالة ذلك الشاب الذي زارني على سبيل المثال؛ إذ اكتشفنا رسوب 14 شخص من أبناء عمومته على مدار 100 عام في امتحان الشهادة الثانوية. أما أصل المشكلة فيعود إلى فصل جدهم الأكبر من المدرسة قبل اجتيازه امتحان الشهادة الثانوية، بعد أن تسبب في حمل إحدى الفتيات، وتَحمّل حفيده ثقل هذا "الخطأ الأصلي" في صورة سلسلة من الإخفاقات".

هل يمكن للجميع استخدام تقنية علم الأنساب النفسي؟

بالطبع؛ يمكن للجميع الاستفادة من هذه التقنية دون وجود غرض محدد لذلك بالضرورة؛ إنما بهدف التنمية الشخصية ببساطة.

ومع ذلك؛ تُستخدم طريقة علم الأنساب النفسي بصورة خاصة في حالات الحداد التي لم تتم والصدمات المجهولة، والمسكوت عنها.

توضح المختصة النفسية؛ شانتال ريالاند قائلةً: "إنها طريقة استقصاء سريعة للغاية، ففي غضون 10 ساعات تقريباً يمكنك فهم أصل مشكلة معينة؛ لكن تحديد المشكلة شيء، والتعامل معها والشفاء من آثارها شيء آخر".

بينما تُعد الجلسات الفردية مهمةً عند محاولة فهم المشكلة، فإن العلاج الجماعي أمر أساسي، لأنه يجعل من الممكن تجسيد الصدمات العائلية؛ وبالتالي حلها.

وبهذه الطريقة، فسوف نجسّد وفاة الجد الذي لم نودعه أو وفاة الجد الأكبر الذي قُتل خلال الحرب. ومن خلال تحليل "تاريخه النفسي" وتمثيله؛ نتمكن من كسر دائرة التكرار الجهنمية بين الأجيال.

يسمي المعالجون هذه العملية "إعادة بناء العائلة"؛ وهي تتم عبر عدة طرق علاجية بما فيها طريقة الدراما النفسية، والغشطالت، والتحليل التفاعلي، والعلاج بالفن.. إلخ.

واختتمت شانتال ريالاند قائلةً: "أشجع مرضاي على الاهتمام بالعلاجات الجسدية بالتوازي مع العلاجات الأخرى، وذلك لأن الجسد يمثل مصبّ اللاوعي، فالتدليك المناسب -على سبيل المثال- يمكن أن يساعد في تحرير الطاقات المكبوتة".

المحتوى محمي