"قادر على العمل تحت ضغط". لا تخلو طلبات التوظيف من هذه الجملة؛ حيث يفضِّل المدراء الفرد المرن القادر على التعامل مع إجهاد بيئة العمل والمشكلات الملحَّة بفعالية، وكذلك القيود التي غالباً ما تكون خارج نطاق سيطرته، سواء كانت ضيق الوقت أو قلة الموارد أو صعوبة المهام أو التغييرات المستمرة.
كذلك، فهم يتوقعون منه أن يتمكن من تخفيف حدة هذه المشكلات بالتخطيط الفعال وإدارة الوقت الجيدة، والقدرة على الاستجابة بفعالية للضغط والتوتر.
على الجانب الآخر؛ تعددت الدراسات التي توضح الآثار السلبية للتوتر أو الإجهاد المستمر في الصحة النفسية والجسدية والنصائح لمواجهته بفعالية لتفادي هذه الآثار.
فهل يولّد التوتر آثاراً سلبية دائماً؟ أم يمكن أن يكون هناك بعض أنواع التوتر الجيدة لوظائف الدماغ والتي تساعده على أداء مهام لم يكن يتمكن من أدائها إذا ظل في حالة من الهدوء؟
قد يهمك أيضا:
تأثير التوتر في الصحة النفسية والعقلية
في مقالهما عن تأثير التوتر في الإدراك وتحفيز الفرد، يوضح الباحثان من معهد أبحاث الحياة والعلوم الصحية بكلية الطب، جامعة مينهو (University of Minho) البرتغالية، بيدرو مورغادو (Pedro Morgado) وجواو سيركويرا (João Cerqueira)، أنه عادةً ما يُعرَّف التوتر أو الإجهاد على أنه تهديد فعلي أو متوقَّع يؤدي في بعض الأحيان إلى استجابة حادة لمحاولة التكيّف مع هذه الحالة الجديدة.
بينما يؤدي الإجهاد المزمن إلى استجابات قوية لا تستطيع أجهزة الجسم التكيُّف معها؛ ما قد ينتج عنه اضطرابات نفسية وعصبية وأمراض القلب والأوعية الدموية وعدم انتظام التمثيل الغذائي، بحسب دراسة من الجامعة ذاتها. كما يمكن للإجهاد الاجتماعي المزمن تحفيز السلوكيات الشبيهة بالاكتئاب والعجز عن اتخاذ القرارات.
على الجانب الآخر؛ أفادت دراسة حديثة من جامعة جورجيا الأميركية (University of Georgia) أن الإجهاد المنخفض إلى المتوسط يمكن أن يكون مفيداً للعمليات المعرفية.
تشير الدراسة الحديثة المنشورة في أبحاث الطب النفسي (Psychiatry Research) في أغسطس/آب 2022 أن المستويات المنخفضة إلى المعتدلة من الإجهاد يمكن أن تساعد في بناء المرونة المعرفية، وقد تقلل خطر الإصابة باضطرابات صحية عقلية أكثر خطورة؛ بما في ذلك الاكتئاب والسلوك المعادي للمجتمع؛ ما يعني أن تواجد الفرد في بيئة يعاني فيها من مستوىً معين من التوتر يمكن أن يساعده على تطوير آليات التكيُّف التي تسمح له لاحقاً بأن يصبح أكثر كفاءة وفعالية وقدرة على تننظيم سلوكه بطريقة تساعده على الأداء بشكل جيد.
على سبيل المثال؛ يمكن أن يؤدي الضغط الناتج عن الدراسة لامتحان ما، أو التحضير لاجتماع كبير في العمل، أو قضاء ساعات أطول لإتمام صفقة إلى تحقيق النمو الشخصي. كما أنه إذا تعرّض كاتب ما لرفض من الناشر، فقد يدفعه ذلك إلى إعادة التفكير في أسلوب كتابته؛ وبالتالي تطويره. كما يمكن أن يدفع طرد شخص ما من العمل إلى إعادة النظر في نقاط قوته، وما إذا كان يجب عليه البقاء في مجاله أو الانخراط في مجال آخر يمكنه أن يتميز به ويكون أكثر نجاحاً.
اقرأ أيضاً: كيف يمكننا إدارة القلق السلبي؟
الإجهاد المعتدل يؤهلنا للتعامل مع صعوبات المستقبل
حلل الباحثون في هذه الدراسة بيانات أكثر من 1200 شاباً قد أبلغوا عن مستويات الإجهاد المتصوَّرة لديهم باستخدام استبيان لقياس كيف يجد الأشخاص المرهَقون حياتهم.
أجاب المشاركون عن أسئلة حول عدد المرات التي مروا فيها بأفكار أو مشاعر معينة؛ مثل "في الشهر الماضي، كم مرة شعرت بالضيق بسبب شيء حدث بشكل غير متوقع؟" و "في الشهر الماضي، كم مرة وجدت أنك لا تستطيع التعامل مع كل الأشياء التي كان عليك القيام بها؟".
ثم تم تقييم قدراتهم الإدراكية العصبية باستخدام الاختبارات التي تقيس الانتباه والقدرة على قمع الاستجابات التلقائية للمنبهات البصرية، والمرونة المعرفية أو القدرة على التبديل بين المهام؛ وذاكرة تسلسل الصور التي تتضمن تذكر سلسلة طويلة من الأشياء، بالإضافة إلى ذاكرة العمل وسرعة المعالجة.
ووجد الباحثون أن المستويات المنخفضة إلى المعتدلة من الإجهاد كانت مفيدة نفسياً، ومن المحتمل أن تكون بمثابة نوع من "اللقاح" ضد ظهور بعض اضطرابات وأمراض الصحة العقلية.
خيط رفيع بين معدلات التوتر الصحية والإجهاد المزمن
يقول المؤلف الرئيس للدراسة والأستاذ المشارك في كلية علوم الأسرة والمستهلكين عساف أوشري (Assaf Oshri): "لدى معظمنا بعض التجارب السلبية التي تجعلنا في الواقع أقوى. هناك تجارب محددة يمكن أن تساعدك على تطوير المهارات التي ستعدك للمستقبل".
لكن القدرة على تحمُّل الإجهاد والشدائد تختلف كثيراً بين شخص وآخر، كما تؤدي عوامل أخرى؛ مثل العمر والاستعدادات الجينية ووجود مجتمع داعم للرجوع إليه في أوقات الحاجة، دوراً في كيفية تعامل الأفراد مع التحديات. وبينما أن القليل من الضغط يمكن أن يكون مفيداً للإدراك، فالمستويات المستمرة من الإجهاد المرتفع يمكن أن تكون ضارة بشكل كبير، جسدياً وعقلياً.
على سبيل المثال؛ يمكن أن تكون للإجهاد المزمن أو الضغط الناجم عن العيش في فقر مدقع أو التعرض للإيذاء، عواقب صحية ونفسية سيئة للغاية، فهو يؤثر في نظام المناعة والتنظيم العاطفي ووظائف المخ.
اقرأ أيضاً:
كيف يمكن التغلب على القلق والتوتر؟
إن القضاء على كل مسببات التوتر لدينا غاية مستحيلة المنال، كما أنه ليس جيداً تماماً لصحتنا النفسية؛ قليل من التوتر يساهم في تحفيزنا على زيادة الإنتاجية والتركيز، ويمكن أن يكون حافزاً كبيراً لإجراء تغييرات أو حل المشكلات أو تحقيق الأهداف.
يقدّم خبير اضطرابات الأكل والاكتئاب والقلق وإدمان التكنولوجيا وسوء المعاملة، غريغوري جانتز (Gregory Jantz) 6 استراتيجيات للتعامل الجيد مع التوتر، وهي:
1. تحديد الضغوط الخاصة بك
اكتب قائمة بمسببات التوتر لديك: هل تعاني من توتر ومشكلات في علاقاتك مع الأصدقاء أو الشريك؟ ما العادات غير الصحية التي تستخدمها للهروب أو تجنب التعامل مع المشكلات؟ ربما يكون لديك ندم في الماضي يؤثر في الحاضر، أو تفتقر إلى القدرة على مسامحة نفسك أو الآخرين. من خلال فهم سبب التوتر في حياتك، يمكنك البدء في معالجة هذه الأشياء والمضي قدماً.
2. توقف عن المماطلة
هذه طريقة بسيطة -وإن لم تكن سهلة- لتخفيف الضغط والتوتر، سواء كان التسويف عادة لديك أو أنه أمر عَرَضيّ، فإن التأجيل وتجنب المهام يزيدان من مستويات التوتر لديك.
3. حافظ على توازنك
إن حماية وقتك من الالتزامات الزائدة التي تتطلّب جهداً ليس بالأمر السهل؛ ولكنه أحد أكثر الأشياء التي يمكنك القيام بها لتقليل التوتر فعاليةً.
4. تجنب الهروب
إن الإفراط في تناول الطعام أو التسوّق قد يكون إحدى طرق التكيُّف مع الضغوط، ذلك لأننا نريد أن نفعل شيئاً لتغيير مزاجنا. لكن الحقيقة هي أن هذا النوع من الهروب يزيد من التوتر لاحقاً ولا يساعد على حل المشكلة.
5. الخروج من العزلة
تساعد العلاقات الداعمة على تحسين الطريقة التي نعاني بها من الإجهاد ومعالجته، فالوحدة لا ترتبط بالاكتئاب فحسب؛ بل أيضاً بالمشكلات الصحية كارتفاع ضغط الدم، وأمراض القلب والأوعية الدموية، والسرطان، والتدهور المعرفي، بينما يساعد الاندماج مع الآخرين على خفض مستويات القلق والتوتر.
6. اعتنِ بجسمك جيداً
من أفضل الأشياء التي يمكنك القيام بها للتعامل مع ضغوط الحياة تقوية صحتك وجسمك؛ مثل تناول الطعام الصحي والحصول على قسطٍ كافٍ من النوم وممارسة الرياضة بانتظام. كل ذلك يساعد على تخفيف حدة مشاعر التوتر والقلق ويحسن مزاجك وينشط جسمك وعقلك.
إذاً فالتوتر ليس سيئاً في مجمله؛ بل قد يكون ضرورياً في بعض الأحيان لتطوير أنفسنا وقدراتنا في الحياة الشخصية والعملية، ويساعدنا على أن نكون أكثر مرونة. لذلك فالسعي الدؤوب لتفادي المواقف الحياتية التي قد تنطوي على التوتر لن يكون مجدياً؛ يجب أن نضع كيفية إدارته والتعامل معه بشكل جيد حتى لا يؤثر في صحتنا بشكل سيئ نصب أعيننا.
اقرأ أيضا: