ملخص: اضطراب الشخصية الحدية (BPD) هو أحد أنواع اضطرابات الشخصية، وعادة ما يعانيه الأشخاص الذين يجدون صعوبة بالغة في إدارة عواطفهم؛ ما يؤدي في نهاية الأمر إلى فقدان السيطرة على المشاعر وزيادة الاندفاع والانخراط في السلوكيات المتهورة المحفوفة بالمخاطر، فما هذا الاضطراب؟ وكيف يمكن تشخيصه من أجل علاجه؟ الإجابة في هذا المقال.
محتويات المقال
تخيل ما قد يحدث لك إذا كنت تعيش الكثير من وقتك في خضمّ المشاعر الغامرة وغير العقلانية. حينذاك، لن تكون قادراً على التفكير بطريقة صحيحة، وقد تتصرف بطريقة متهورة أو غير مناسبة، وهذا تحديداً ما يعانيه المصابون باضطراب الشخصية الحدية (BPD)؛ إنهم يشعرون وكأنهم في قطار داخل مدينة الملاهي! ليس فقط بسبب المشاعر والعلاقات غير المستقرة؛ ولكن أيضاً من جرّاء الإحساس المتذبذب بالهوية، فقد تتغير صورهم الذاتية وأهدافهم بصفة متكررة وبطرائق تبدو مربكة وغير واضحة، فكيف يمكن تشخيص اضطراب الشخصية الحدية؟ وما طريقة التعامل معه؟ الإجابة في هذا المقال.
ما اضطراب الشخصية الحدية (BPD)؟
اضطراب الشخصية الحدية (BPD) حالة صحية نفسية تتسم بتقلبات مزاجية شديدة وعدم استقرار في العلاقات الشخصية، وقد يُطلق عليه أيضاً اسم "اضطراب الشخصية غير المستقرة عاطفياً". ويعاني المصابون بهذا الاضطراب مزاجاً غير مستقر، وقد يتصرفون بتهور، ويجدون صعوبة بالغة في إدارة عواطفهم. إذا كنت مصاباً باضطراب الشخصية الحدية، فقد تواجه مشكلات في التعامل مع المهام اليومية والالتزامات وأحداث الحياة، وربما تواجه أيضاً تحديات تتعلق بوظيفتك وروتينك اليومي في العمل.
3 أسباب للإصابة باضطراب الشخصية الحدية
الأسباب الدقيقة للإصابة باضطراب الشخصية الحدية غير معروفة؛ لكن ثمة مجموعة من العوامل التي قد تزيد احتمالية الإصابة بهذا الاضطراب؛ وتشمل هذه العوامل:
- العامل الوراثي: على الرغم من عدم وجود جين محدد يسبب اضطراب الشخصية الحدية مباشرةً، فإن دراسة علمية أجرتها دورية نيتشر (Nature) تشير إلى أن الأشخاص الذين لديهم فرد قريب من العائلة مصاب باضطراب الشخصية الحدية، قد يكونون أكثر عرضة إلى الإصابة بهذا الاضطراب.
- العوامل البيئية والثقافية والاجتماعية: الأفراد الذين يتعرضون إلى أحداث حياتية مؤلمة مثل الاعتداء الجسدي أو الجنسي في أثناء الطفولة، أو الإهمال، أو الانفصال عن الوالدين، أو سوء المعاملة والهجر؛ معرّضون إلى خطر الإصابة باضطراب الشخصية الحدية على نحو متزايد.
- الاختلالات في بنية الدماغ: لا تتواصل أجزاء الدماغ التي تتحكم في المشاعر والسلوك بطريقة صحيحة لدى الأشخاص الذين يعانون اضطراب الشخصية الحدية؛ الأمر الذي يؤثر بالتبعية في طريقة عمل الدماغ، ويجعله غير قادراً على تنظيم العواطف؛ ما يشير إلى وجود أساس عصبي لبعض الأعراض.
اقرأ أيضاً: ما هو اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع؟
ما أعراض اضطراب الشخصية الحدية؟
يواجه الأشخاص المصابون باضطراب الشخصية الحدية تغيرات كبرى وسريعة في مشاعرهم تجاه الآخرين؛ التي تتأرجح من القرب الحميمي إلى الكراهية الشديدة، وهذه المشاعر المتغيرة يمكن أن تؤدي إلى علاقات غير مستقرة وألم عاطفي. ويميل الأشخاص الذين يعانون هذا الاضطراب إلى رؤية الأشياء بتطرّف؛ إما كل شيء جيد وإما كل شيء سيئ. وتشمل الأعراض الأخرى لاضطراب الشخصية الحدية ما يأتي:
- الخوف الشديد من التعرض إلى الهجر: يؤكد الطبيب النفسي ليث العبادي إن أكبر مخاوف الأشخاص المصابين باضطراب الشخصية الحدية هي فكرة التخلي عنهم أو تركهم بمفردهم؛ حيث يشعرون بالخوف الشديد من فكرة التعرض إلى الهجر. وفي الكثير من الأحيان، تكون هذه المخاوف غير منطقية أو مبرَّرة مثل الخوف من وصول أحد أفراد الأسرة متأخراً إلى البيت بسبب العمل. وقد تؤدي تلك المخاوف إلى بذل جهود محمومة من أجل البقاء بالقرب من الآخرين، وتصل تلك الجهود إلى تتبع مكان أحبائهم أو منعهم تماماً من المغادرة! وفي أوقات أخرى، قد يدفعون المقربين منهم بعيداً، ثم يقتربون منهم كثيراً مرة أخرى خوفاً من الهجر.
- العلاقات المكثفة وغير المستقرة: يواجه الأشخاص المصابون بهذا الاضطراب صعوبة في الحفاظ على علاقات شخصية صحية؛ لأنهم يميلون إلى تغيير وجهات نظرهم تجاه الآخرين على نحو مفاجئ وكبير؛ حيث يمكنهم الانتقال من المثالية الشديدة في العلاقات وإغداق الآخرين بعبارات الحب والدعم، إلى حالة التقليل من قيمتهم، والعكس صحيح، وغالباً ما تكون علاقاتهم الاجتماعية جميعها فوضوية وغير مستقرة.
- صورة ذاتية مشوهة: عندما تكون مصاباً باضطراب الشخصية الحدية، فإن إحساسك بذاتك عادةً ما يكون غير مستقر. ففي بعض الأحيان، قد تشعر بالرضا تجاه نفسك؛ لكن في أحيان أخرى تكره ذاتك، أو حتى ترى نفسك شخصاً سيئاً. وفي بعض الأوقات، لا تكون لديك فكرة واضحة عن هويتك أو ما تريده في الحياة، ونتيجة لذلك؛ قد تغير في كثير من الأحيان وظيفتك، أو أصدقاءَك، أو قيمك، أو أهدافك.
- السلوكيات المتهورة والمدمرة للذات: ينخرط المصابون بهذا الاضطراب في سلوكيات متهورة ومدمرة للذات؛ مثل الإسراف في تناول الطعام، أو قيادة السيارة بتهور، أو تعاطي المخدرات. وقد تساعد هذه السلوكيات المحفوفة بالمخاطر على الشعور بالتحسن الفوري؛ لكنها تسبب الكثير من الأذى والدمار على المدى الطويل.
- السلوك الانتحاري وإيذاء النفس: قد يجرح الأشخاص المصابون باضطراب الشخصية الحدية أنفسهم أو يحرقونها أو يهددون بذلك، بالإضافة إلى أنهم يفكرون في الانتحار بصفة مستمرة. وعادة ما تكون أفعال التدمير الذاتي وإيذاء النفس ناجمة عن الرفض أو التخلي المحتمل أو خيبة الأمل من الأهل والأصدقاء أو شريك الحياة.
- التقلبات العاطفية الشديدة: تعد التقلبات المزاجية المستمرة أمراً شائعاً يصاحب اضطراب الشخصية الحدية، ففي لحظة واحدة، قد تشعر بالسعادة، وفي اللحظة التالية، يتملك منك اليأس، والأشياء الصغيرة التي يتجاهلها الآخرون يمكن أن تجعلك في حالة كبرى من الفوضى العاطفية.
- مشاعر الفراغ المزمنة: يشعر أغلب المصابين بهذا الاضطراب من مشاعر الفراغ المزمنة؛ كما لو أن هناك ثقباً أسوداً في داخل كل منهم! والحقيقة أن هذا الشعور قد يكون مدمراً لأنهم في الكثير من الأوقات يلجؤون إلى ملء هذا الفراغ عبر سلوكيات التكيف غير الصحية مثل تناول الطعام أو تعاطي المخدرات.
كيف يُشخَّص اضطراب الشخصية الحدية؟
عادةً ما يُشخَّص اضطراب الشخصية الحدية عند البالغين، وليس عند الأطفال أو المراهقين؛ وذلك لأن الأعراض التي تظهر على الأطفال أو المراهقين قد تختفي مع تقدمهم في السن والنضج. ولكن في بعض الحالات النادرة، قد تُشخَّص إصابة فرد يقل عمره عن 18 عاماً بهذا الاضطراب إذا كانت الأعراض شديدة وتستمر مدة عام على الأقل.
والخطوة الأولى من أجل تشخيص اضطراب الشخصية الحدية تتجسد في زيارة الطبيب النفسي المختص الذي سيعتمد أولاً على:
- فحص التاريخ الطبي الشخصي والتاريخ الطبي للعائلة.
- إجراء مقابلات معمقة مع أفراد عائلة الشخص وأصدقائه لجمع المزيد من المعلومات حول سلوكياته وطريقة تعامله.
- ملء استبانة حول أعراض اضطراب الشخصية الحدية.
- استبعاد الحالات المماثلة، وتقييم الأعراض لتحديد إذا ما كان المريض يعاني حالة متزامنة، فغالباً ما يتزامن اضطراب الشخصية الحدية مع حالات الصحة النفسية الأخرى؛ بما فيها القلق، والاضطراب الثنائي القطب، والاكتئاب، واضطرابات الأكل، واضطراب ما بعد الصدمة، واضطراب تعاطي المخدرات.
ويمكن القول إن الطبيب النفسي يعتمد في تشخيصه بصفة أساسية، على الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية بنسخته الخامسة (DSM-5) الصادر عن الجمعية الأميركية للطب النفسي. وكجزء من عملية التشخيص؛ عادة ما يطرح الطبيب الأسئلة التالية:
- هل لديك خوف شديد من البقاء وحيداً؟ وهل يدفعك هذا إلى التصرف بطريقة خارجة عن المألوف أو بطريقة متطرفة لتجنب الوحدة؟
- هل لديك مشاعر طويلة الأمد بالفراغ والوحدة؟
- هل كان هناك نمط من العلاقات المكثفة وغير المستقرة مع الناس؛ حيث تنتقل من محبة الشخص إلى الاعتقاد أنك تكرهه؟
- هل تشعر أنك لا تملك صورة ذاتية محددة أو أن لديك إحساساً غير واضح بذاتك؟
- هل تشارك في أنشطة متهورة؟
- هل هددت بالانتحار أو أقدمت عليه أو آذيت نفسك في الماضي؟
- هل تعاني تقلبات مزاجية حادة يمكن أن تستمر من بضع ساعات إلى عدة أيام؟
- هل سبق لك أن شعرت بمشاعر غضب شديدة وغير مناسبة، ووجدت صعوبة في السيطرة عليها؟
- هل تشعر بجنون العظمة عندما تكون في المواقف العصيبة، أو تشعر بالانفصال عن العالم، أو عن نفسك؟
سيستمع الطبيب المعالج إلى الردود كلها، ويتعرف إلى السلوكيات ثم سيحدد إذا ما كان الشخص يعاني اضطراب الشخصية الحدية أم لا.
اقرأ أيضاً: كل ما تود معرفته عن علاج اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)
ما طرائق علاج اضطراب الشخصية الحدية؟
يُعالَج اضطراب الشخصية الحدية بصفة أساسية باستخدام العلاج النفسي الذي يُعرف أيضاً باسم "العلاج بالكلام"؛ ولكن تُمكن الاستعانة بالأدوية وفقاً لتعليمات الطبيب المختص الذي قد يوصي في بعض الأحيان بالبقاء في المستشفى إذا كانت سلامة الشخص المصاب معرضة إلى الخطر. وغالباً ما يسعى العلاج النفسي إلى مساعدة المريض على:
- تعلم كيفية إدارة المشاعر، وخاصة تلك التي تجعله يشعر بعدم الارتياح.
- العمل على تحسين علاقاته، وذلك من خلال إدراك مشاعر الآخرين.
- تقليل حدة الانفعالات عن طريق ملاحظة المشاعر بدلاً من التصرف وفقاً لها.
وتشمل أنواع العلاج النفسي التي تُمكن الاستعانة بها في التعامل مع اضطراب الشخصية الحدية ما يلي:
- العلاج المعرفي السلوكي (CBT): يساعد كثيراً على تغيير المعتقدات التي تأتي من الطرائق المشوهة لرؤية الأشياء، والهدف من العلاج المعرفي السلوكي هو تعلم كيفية تحديد الأفكار السلبية والتعامل معها. ومع مرور الوقت، يمكن أن يقلل هذا العلاج تقلبات المزاج ويجعلك أكثر استقراراً، ويمكن أن يحد من احتمالية إيذاء النفس أو محاولة الانتحار.
- العلاج السلوكي الجدلي (DBT): يركز هذا النوع من العلاج على قبول واقع حياة الشخص وسلوكياته، بالإضافة إلى مساعدته على تعلم كيفية تغيير حياته؛ بما فيها السلوكيات غير المفيدة، فهو يعلمه المهارات التي تساعد على التحكم في المشاعر الشديدة وتقليل سلوكيات التدمير الذاتي وتحسين العلاقات.
وفي حالة الاستعانة بالأدوية، فقد يوصي الطبيب المعالج باستخدام بعض مثبتات المزاج والأدوية المضادة للذهان مثل الريسبيريدون الذي قد يكون فعالاً على المدى القصير نتيجة قدرته على تقليل الأعراض. وقد يلجأ الطبيب إلى مثبطات امتصاص السيروتونين الانتقائية (SSRIs) للسيطرة على عدم الاستقرار العاطفي.