كيف تغلّبتُ على البوليميا؟ قصتي مع الشره العصبي

6 دقائق
الشّره العصبي
shutterstock.com/Sasin Paraksa

إذا بدأت الأكل، فلا شيء ولا الشَّبع نفسه كان قادراً على إيقافها. كانت عالقة في دائرة مفرغة تبدأ وتنتهي بالأكل وبين بداية نوبة ونهايتها شعور مرير بالذنب والعار. وعلى هذا النحو مضَت أيام سلوى البالغة من العمر 36 سنة لسنوات طويلة وهي تعاني من الشره العصبي؛ قبل أن تجد القوة أخيراً لتواجه أزمَتها وتستعيدَ حياتها من جديد.

شهادة: بعد إنهائي دراستي الثانوية؛ دقّت ساعة خروجي من شرنقة الأسرة وإطلاق جناحيّ لأحلق بعيداً عن البيت، وأتجه إلى مدينة بعيدة حيث سألتحق بالجامعة، هناك حيثُ جربت للمرة الأولى العيش وحيدةً في بيت يخصّني، لم أكن على أتم الاستعداد لأسكن بمفردي، إذ وأنا وحيدة كنت أجد نفسي مطوّقة بمخاوفي التي لم أكن أستطيع مواجهتها لوحدي. وقد كانت تلك شرارة البداية؛ حين وجدت الملاذ الآمن الذي يهدّئ من روعي ويمنحني الأمان ولا يتركني عرضةً للأفكار التي تنهشني، ولم يكن ذلك الملاذ المزعوم سوى الطّعام! كانت الأطباق الحُلوة والساخنة وصفة ناجعة للتخفيف من قلقي. وهكذا أخذت آكل دون حسيب أو رقيب، إلى أن انتهى بي الأمر باكتساب 10 كيلوغرامات.

بدايتي مع البوليميا

كنتُ أستعدّ ذات مساء وأنا في بيت أهلي للخروج حين صُعِقت أن دولاب ملابسي كاملاً لم يعد يناسب مقاسي، ما استرعى انتباه وقلق أمي التي لم تفهم سبب هذا التحوّل المباغت الذي حصل لجسدي. تحضر بين عيني الآن تفاصيل دخولي نوبات الشّره العصبي؛ وكأن ذلك اليوم كان البارحة فقط، كنتُ قد بدأتُ أشمئزّ بالتدريج من جسدي، وأتحاشى النظر إلى المرآة، لأني كنتُ أرى نفسي سمينةً للغاية! إلى أن جاء ذلك اليوم؛ وأنا في طريق عودتي من الجامعة، حين توقفت عند محل مأكولات سريعة؛ وطلبت قائمة الطعام كاملة بالإضافة إلى المثلجات المُعدَّة بالكريما الدّسمة والمخلوطة بكمية مهولة من قطع الحلوى. ثم فجأةً انتابني شعور بالقرفِ من نفسي وأنا ألتهم الأكل بهذه الشراهة، فحشرتُ أصبعين في فمي، واستفرغتُ كلّ ما في جوفي. وبهذه الحركة، كنتُ قد فتحت باب حياتي على مصراعيه لتدخل البوليميا ويطيب لها المقام فيها لسنوات طويلة! إذ أخذَت لحظتها مخاوفي في الاضمحلال شيئاً فشيئاً إلى أن اختفت، أو هكذا توهمت. ومع الأيّام؛ بِتُّ قادرة على مواجهة وحدتي، بالتسلح بالطعام.

إدمان من نوع آخر

في السنة الثانية من مساري الجامعي؛ فقدتُ والدي في حادثة سيرٍ مأساوية، جسَّد ذلك الرحيل الفجائي حدثاً مفجعاً للعائلة بأكملها، لكن على الرغم من حساسيتي المُفرطة، وجدت في نفسي قوة وصلابة أدهشتني شخصياً. كان علي أن أظلّ متماسكةً ليستمد بقية أفراد أسرتي قوتهم مني. كنت أبدو أمامهم دائماً في أفضل الحالات، تحت كلّ الظروف وبلا توقف. وهنا، عادَ الشَّره العصبي إلي، ولكن هذه المرة لا عابراً لكن ليستقرّ. وبسبب الظروف التي طرأت؛ اضطررت إلى الانتقال من شقتّي الفسيحة إلى مسكن آخر بسَكن الطّلاب، كنت أتوجه للتسوق فور انتهاء محاضراتي؛ كان ذلك روتيناً لا يكتمل بدونه يومي. أما مشترياتي اليومية فلم تكن تتغير، حيث أملأ ثلاثة أكياس عن آخرها، بأكل يكفي لإطعام عائلة كاملة ليومين! لم أعد أفكر كثيراً حين أجلس للأكل بعد عودتي من التسوق؛ هو روتين يتكرر؛ إذ أبدأ بالأطباق المالحة الساخنة، تتبعها بعد ذلك الأطعمة المُسكّرة، إذ أرمي في جوفي ما يزيد عن 20 قطعة من المخبوزات المحشوة بالشوكولاتة تباعاً وثلاث علب من حبوب الإفطار كبيرة الحجم ممزوجةً بـ 3 عبوات من الحليب لأختم نوبتي بـ 3 فطائر. آكل وأتقيأ، آكل وأتقيأ، آكل وأتقيأ. لمدة قد تصل أحياناً لثلاث ساعات متواصلة.

تُعد البوليميا واحدة من أشدّ اضطرابات الأكل تعقيداً؛ إذ ظللت عالقةً بين المطرقة والسندان، فما أنا فيه هو بمثابة تلويحة يد غريق يريد ممن حوله أن يهبّوا لإنقاذه، غير أنّي في الوقت نفسه لم أكن أريدُ إقلاق راحة أسرتي. كنتُ أعاني في صمت، إذ لم يكن بوسع أحد تكهن ما أمرّ بها من خلال النظر إلى مظهري؛ فقد حافظتُ على وزني الطبيعي. وإذا صدف أن تناهى إلى سمع شخصٍ صوتي وأنا أتقيأ في دورة المياه، كنتُ أُعلّل ذلك بوعكةٍ هضمية عابرة أمرّ بها. وفي الوقت الذي كنت أطوّق نفسي بجدار من الصمت وأخفي عن أعين الآخرين حقيقة ما أمر به، كنتُ واقعةً في مِحنةٍ كبيرة وفي حاجة إلى أي يد تمتدّ لي لتخرجني من الحفرة التي سقطت فيها. وفورَ أن ألمَح بوادر أيّ مشاعر سلبية قد تنتابني كنتُ أهيل عليها المزيد والمزيد من الطعام لأدفنها، وفورَ أن أشعر بالراحة، أستفرغ ما في جوفي، فأشعرُ بالعار لفعلتي هذه، وأعودُ للتخلص من هذا الشعور بالأكل. لم تكن تعوزني الحيل لأُبْقِيَ معاناتي طيّ الكتمان وأخفيها عن الجميع. لم أكن أرغبُ في إنهاء ما أنا فيه، كنت واقعة تحت تأثير إدمان مخدّر حقيقي يحمل اسماً قد يستغربه الناس وهو الطعام، لم أكن أريد أن يفرغ جسدي منها لحظةً واحدة. ولأن الأكل ليس بالأمر الذي يمكن الإقلاع عنه، كما هو الشأن بالنسبة للتدخين أو المخدرات، فإني كنت أجد نفسي عرضةً لها كلّ يوم، على الأقل ثلاث مرات كل يوم.

على شفا الموت

لقد تمكّنت مني البوليميا، لدرجة فقداني التحكم في نفسي، وتحوّل كلّ مرور بمكان يقدم الطعام اختباراً وكَرْباً أليماً. بحلول السنة الثالثة من دراستي الجامعية، انتقلتُ إلى جامعة جديدة في مدينةٍ أخرى، وقد كانت تجربة مريعة! إذ عدتُ مجدداً إلى الشعور بالوحدة، لكن هذه المرة بشكل أشدّ وطأة. كنتُ فورَ عودتي من الجامعة أدخل في نوبة شره، ومع توالي النوبات وتعاقب الأيام، صرت أفقد قطعاً من أسناني وجبَ علي ترميمها باستبدالها بأخرى. بعدها استقريت بالعاصمة، وقد كانت تلك المحطّة الأكثر صعوبةً في رحلتي هذه، كنتُ مرهقةً ومستنزفة بالكامل، إذ إن جسدي لم يعد يحتمل النوبات الأربع اليومية التي أمر بها. وبدأ ينتابني هاجس دُنو الموت مني، لحد اقتناعي أن نهايتي باتت وشيكة لا ريب. وحينئذ بدأ يتردد في أعماقي صوت يقول: "إذا أنهى الموتُ جسدي البشع هذا، فإني سأبعَثُ من جديد في جسدٍ أحبه". فأعودُ لأنخرط في نوبات شره أشدّ، كانت شكلاً من أشكال الانتحار.

لم أستطع التعبير عما أمر به والإفضاء به لشخصٍ آخر إلا عند بلوغي سن الـ 25 حين صارحت بهُ زوجي السابق، الذي لم يلاحظ علي أي شيء يبعث على القلق؛ على الرغم من كل العلامات الواضحة أمامَه، كبشرتي المتضررة ووجهي المتورّم وصوتي المبحوح لفرط التقيؤ. لستُ متأكدة أنه صدّق معاناتي، ذلك أنه ظلّ مكتوف الأيدي أمامها ولم يحاول مدّ يده لي بالمساعدة.

النهوض من الحفرة

في العام الذي تلى ذلك، انخرطتُ في حياةٍ اجتماعية صاخبة، مع استمرار نوبات البوليميا اليومية، كنتُ أعيشُ حياةً مزدوجة، واحدة سريّة مُزرية، وأخرى أمام الملأ تبدو مثاليةً ومثيرة للحسد. ثم التقيتُ شخصاً سيمد لي يد العون ويخرجني من هذه الحفرة التي علقت بها لسنوات، إذ على الفور لاحظ أن ثمة شيئاً لا يسير على ما يرام، ورتَّب لي على لقاءً مع إحدى معارفه اللواتي يشتغلن معالجات. في أول موعد ضربته لي وجّهت لي الحديث قائلةً: هل تدركين بأنك تنتحرين ببطء؟ عمّ الصمت المكان، ووضعتُ للمرة الأولى يدي على الفراغ الهائل الذي يملأ روحي، والبكاء الطويل المكتوم في حنجرتي الذي أدفعه دفعاً بالطعام الذي أبلع. أجل، كنت مدركةً لما أقوم به؛ لم أكن متأكدة من رغبتي في الاستمرار في الحياة، الوحيد الذي كان يخفف من نوباتي، كان شعوري أني محبوبة، وقلما كان ذلك يحصل. وقد كانت المفارقة الكبيرة، أن مساري الوظيفي كان مزدهراً وحافلاً بشتّى أنواع النجاحات. بمساعدة هذه السيّدة استطعتُ أن أشتغل على نفسي أكثر، وأنجح في اجتياز سنتين كاملتين دون نوبة بوليميا واحدة!

إلى أن انفصلتُ عن شريكي الثاني؛ وعادت مشاعر الخوف من الوحدة والخواء لتتملكّني، حيث هاجمتني من جديد كل المشاعر السلبية القديمة، غير أني بالموازاة مع ذلك، أحطت نفسي بالمعالجين، وبدأت متابعة علاج جشطالتي مع معالجة رائعة، بدأت أتردد بانتظام على مجموعة من الاختصاصيين من بينهم اختصاصي تقويم عظام، يمارس كذلك الطب الصيني. تقبّلت فكرة أن رحلة علاجي قد تكون طويلةً للغاية، وبسبب النضج الذي وصلت إليه، نجحت في دَكِّ الأسوار العالية التي أحطتُ معاناتي بها، وبدأت شيئاً فشيئاً أسمحُ لعائلتي والأصدقاء بمعرفة ما كان يدور خلفها، وحرصتُ كل الحرص على أن أتحدث عن معاناتي بصيغة الماضي معهم، وأن أؤمن أنا نفسي بأن كل ذلك صار اليوم وراء ظهري. بعد وقتٍ ليس بطويل؛ تركتُ البلد لأستقرّ في بلاد أخرى، هناك حيثُ سأواجه للمرة الأولى نفسي، دون وسيط. وكانت تلك التجربة مهمة، وفارقة.

حيث أسدى لي التأمل خدمة كبيرة، إلى جانب ممارسة اليوغا والاتصال الدائم مع الطبيعة، وهذا لا يعني أن نوباتي لم تعاود الظّهور، غير أني هذه المرة استطعتُ النهوضَ في كل مرة وعلى الفور لاستكمال رحلتي بشجاعة دون أن أشغل بالي بالماضي؛ ودون أن أقدّم نفسي فريسةً سهلة للشعور بالعار.

الحديث عن أزمتي مع الآخرين

أبلغ من العمر اليوم 36 سنة، وبعد أن قضيتُ سنين طويلة لا أسمح لنفسي بذرف دمعةٍ واحدة ولا التنفيس عن غضبي وبعد أن تنازلت كل تلك المدة عن جسدي لتعشش فيه مخاوفي وقلقي، تعلمتُ اليوم التعبير والتنفيس عن كل تلك المشاعر. لا مكان للكراهية في قلبي اليوم، بل الحب فقط، حبّ نفسي أولاً. تعلمتُ كيف أفصل بين حبي لعائلتي وبين حقّي في أن أشارك معهم مشاعري. فحين يسقط أحدنا طريح الفراش مريضاً، فإننا نجتمع حوله ونزوره ونآزره، ولا نتركه يصارع مصيره وحيداً. كنت في حاجةٍ إلى أن يعرفوا أني كنتُ طريحةَ الفراش أيضاً، حتى وإن كنتُ أقفُ على قدميّ بصحةٍ جسدية جيدة. منذ صرت أكثر انفتاحاً وتقبلت فكرة الحديث عن ما أعيشه، بدأت أشعرُ حقاً بمعنى التعافي، تعلمت أن أتقبل نفسي وأحبها، وكنتيجة لذلك، صار بوسعي أن أحبّ الحياة نفسها وأنظر بفخرٍ إلى الطريق التي قطعت. الرحلة لم تنتهِ، غير أن الفرق اليوم أني أعرفُ أن النهوضَ بعد السقوط ممكن، ورسالة الأمل هذه هي ما أريده أن يصل لكل من يمرّ بمشكلة الشره العصبي أو مشكلة مماثلة.

المحتوى محمي