مارست البشرية التأمل، وهو انضباط عقلي ينطوي على تنظيم التركيز -دون تحديد نوع معيّن بالطبع- لقرون عديدة؛ ولكن الأبحاث حول فوائد التأمل على الصحة ككل، والصحة النفسية بشكل خاص، تُعتبر حديثةً نسبياً.
التأمل في إطار الطب التكاملي
قبل البدء في شرح فوائد التأمل على الصحة وخاصةً الصحة النفسية، لا بد أن نبدأ بتقديم نبذة مختصرة عن فكرة "الطب التكاملي" (ّIntegrative Medicine)؛ والذي يُعتبر توجه الأنظمة الصحية الحديثة، لأنه يتبنّى إطاراً شاملاً لمفهوم الصحة يراعي صحة الجسد، وصحة النفس، وصحة الروح. ولاستكمال هذا التسلسل الذي نسعى من خلاله لفهم فوائد التأمل على الصحة؛ يجب أن نعرف دور التأمل العلاجي ضمن منظومة "الطب التكميلي والبديل" (Complementary and Alternative Medicine)؛ والذي يصنَّف تحت مظلة الطب التكاملي. جدير بالذكر أيضاً أن الطب التكميلي والبديل يعني التحوّل من التركيز على المرض فقط -من خلال وصف العلاجات الدوائية لوحدها- إلى منظومة أكثر شموليةً تنتهج تعزيز الصحة حتى بالطرق غير التقليدية. وفي الحقيقة؛ إن منظومة الطب التكميلي والبديل تُعنى بتقديم خدمات علاجية بديلة وتكميلية، بالإضافة إلى العلاجات الدوائية. بطبيعة الحال؛ تكون في أساسها مبنيةً على احتياجات فردية مخصصة (Personalized) واستباقية (Proactive) تضع المريض في قلب التدخل العلاجي (Patient-Centered).
والمراجعات العلمية تقدّم لنا التأمل في حقيقته على أنه أسلوب علاجي بديل يمثّل إضافةً قويةً عند اقترانه مع العلاج الأساسي. وأيضاً تخبرنا عن أن التأمل يُعتبر علاجاً تكميلياً يحسّن الصحة حينما يتم تقديمه مع العلاج النفسي.
اقرأ أيضا: تمارين الاسترخاء المناسبة للتوتر.
ما هي فوائد التأمل للصحة؟
-
التأمل كعلاج نفسي سلوكي
تناولت إحدى الدراسات تحليل تأثير التأمل كعلاج نفسي سلوكي؛ حيث وجد الباحثون أن الأشخاص الذين مارسوا التأمل أظهروا تحسّناً فيما يتعلق بتعاملهم مع التوتر، وساهم هذا التحسّن في حصول الممارسين للتأمل على صحة نفسية وعقلية أفضل مقارنةً بالأشخاص الذين لم يمارسوه، كما أوضح العلماء أن الأشخاص الذين مارسوا التأمل أظهروا صحةً شاملةً أفضل بشكل عام.
-
التأمل والأمراض المزمنة
تضمنت دراسة أخرى مراجعةً منهجيةً لفوائد التأمل -وعلى وجه التحديد التأمل اليقظ (اليقظة الذهنية) الذي يتسم بحالة من التنّبه والوعي المطلق- على الصحة لدى الأشخاص الذين يعانون من أمراض مزمنة؛ حيث يمكن القول أن التأمل ساهم بشكل بارز في تحسين جودة الحياة والتقليل من مشاعر الاكتئاب.
وتطرق بيان علمي مطوّل لجمعية القلب الأميركية نُشر عام 2017 في المجلة العلمية للجمعية، للعديد من المواضيع التي تتعلق بفوائد التأمل على الصحة بشكل شمولي وأثرها على صحة القلب بشكل خاص. ومن هذه المواضيع ما يلي:
-
تأثير التأمل على الفيزيولوجيا العصبية والتشريح العصبي للدماغ
في البداية؛ يمر الدماغ لدى البالغين بتغيرات في الفيزيولوجيا العصبية تُغيّر من التشريح العصبي. فمن خلال عملية المرونة العصبية (Neuroplasticity) تقوم أدمغتنا بتكوين دوائر عصبية أو عصبونات جديدة (Circuits and Neurons). ولأن التأمل يعتمد بشكل كبير على تنظيم وإدارة عمليتين رئيسيتين في الدماغ تتضمنان دوراً أساسياً للأعصاب هما: التركيز والعاطفة؛ يلاحَظ بشكل متسق في الدراسات أن الأشخاص الذين يمارسون التأمل يُظهرون تغيرات في الدماغ ذات أثر طويل وإيجابي من حيث الفيزيولوجيا العصبية والتشريح العصبي أي بشكل خاص فيما يتعلق بالمرونة العصبية،مع التأكيد بالطبع على قلة عدد المشاركين في هذه الدراسات، ووجود عدد من المحددات؛ كالاختيار غير العشوائي للمشاركين، وخبرة بعض المشاركين الطويلة مع التأمل، وتعدد طرق التأمل؛ ما يمنع تعميم النتائج كما يصف بيان جمعية القلب الأميركية.
اقرأ أيضا: فوائد التأمل للصحة النفسية.
-
الحد من مخاطر أمراض القلب والأوعية الدموية من خلال التأمل
فيما يتعلق بالوقاية "الاستباقية الأولية" (Primary Prevention)؛ تلك التي تهتم بتعزيز صحة الأشخاص الأصحاء، هناك ارتباط إيجابي -على الرغم من محدودية الدراسات وقلتها- بين التأمل والحد من مخاطر أمراض القلب والأوعية الدموية. أما الدراسات التي تتعلق بالوقاية الثانوية (Secondary Prevention)؛ والتي تهتم بتعزيز صحة الأشخاص المصابين بأحد أمراض القلب والأوعية الدموية، وجد العلماء أن التأمل يحد من عوامل الخطورة دون وجود أدلة قوية تربط التأمل و الحد من حصول وفيات أو نوبات قلبية.
-
التوقف عن التدخين والتأمل
من بين جميع الأمراض التي يمكن الوقاية منها، يُعتبر تدخين السجائر السبب الرئيسي للوفيات بين الأميركيين. وفي حين أن ثُلثي المدخنين في أميركا يرغبون بالتوقف عن التدخين، فقط 6% يكونون قادرين على تحقيق رغبتهم. وعند مراجعة الدراسات التي تربط بين التوقف عن التدخين والتأمل، وجد الباحثون أن التأمل يؤدي إلى نتائجَ إيجابية حينما يُستخدم في برامج التدخلات الصحية أو العلاجية التي تستهدف حل مشكلة تدخين السجائر. على سبيل المثال، في دراسة خَيّرت المشاركين بشكل تطوعي بين تمرين لليقظة الذهنية أو تمرين للاسترخاء لمدة أسبوعين، وجد العلماء انخفاضاً بنسبة 60% بين الممارسين للتأمل مقارنةً بعدم وجود أي انخفاض في مجموعة الاسترخاء. ووجدت دراسة أخرى أن رُبع (25%) الذين مارسوا التأمل كانوا قادرين على التوقف عن التدخين نتيجة انخفاض التوتر لمدة تزيد عن أربع أشهر مقابل 14% فقط بين الذين تلقوا تعليمات "تقليدية" للتوقف عن التدخين.
-
التأمل والتحكم بالتنفس والصحة العامة والنفسية
يُعتبر التحكم بالتنفس من العناصر الأساسية لتمارين التأمل، وفي مقالة أخرى نُشرت في منصة نفسيتي بعنوان ”تمارين الاسترخاء المناسبة للتوتر“، نتطرق فيها بشكل أكبر للعلاقة بين التحكم بالتنفس المصحوب بتمارين الاسترخاء؛ كالتأمل، وإدارة التوتر. يساعدنا التأمل في الحصول على نتائجَ إيجابية وردود فعل سوية تحسّن الصحة العامة للفرد، وعلى وجه الخصوص الصحة النفسية.
-
الاكتئاب واضطرابات القلق و التأمل
في مراجعة علمية للدراسات التي كانت تقيس فعالية تمارين التأمل الذي يعتمد على الوعي الذاتي (اليقظة الذهنية)، أثبتت إحدى الدراسات فعالية التأمل في التخفيف من الاكتئاب واضطرابات القلق والتوتر. بالإضافة إلى أن تمارين التأمل المعتمِدة على اليقظة الذهنية، كانت ذات فعالية مقارنة لتلك التي تأتي عن طريق العلاج المعرفي السلوكي، والعلاج الدوائي، والعلاجات السلوكية الأخرى.
في الختام؛ الحديث عن فوائد التأمل على الصحة يجب أن يذكرنا بحقيقة أن ممارسات أو تمارين التأمل ليست تقنيات حديثةً، وإنما هي متجذّرة بي تاريخنا البشري لأسباب مختلفة، سواءً أكانت دينيةً، أو ثقافيةً، أو علاجيةً. وفوائد التأمل للصحة أثبتتها المراجعات العلمية التي وصفت لنا التأمل كأسلوب علاجي بديل يمثّل إضافةً قيّمة عند اقترانه مع العلاج الأساسي، أو كعلاج تكميلي يحسّن الصحة حينما يتم تقديمه مع العلاج النفسي. ومن المهم التأكيد أن الأنظمة الصحية الحديثة أصبحت تهتم بممارسات أو تمارين التأمل بعد أن تحوّلت لتتبنّى إطاراً شمولياً لمفهوم الصحة يراعي صحة الجسد، وصحة النفس، وصحة الروح.