ملخص: أدرك فرويد في نهاية حياته أن الأنثى بقيت بالنسبة إليه مخلوقاً مبهماً ولغزاً محيّراً. لكن المحللة النفسية آن ماري بون (Anne-Marie Pons)، تقول في مراجعتها لكتاب "العلامة المائية" (Filigrane) في خريف عام 2003 إن هذا الرجل عاش محاطاً بالنساء. فهل كان فرويد يكره المرأة؟ لنتعرف إلى نظرة فرويد الحقيقية إلى المرأة.
يصف فرويد النساء في بعض كتاباته بأنهن أشخاص فشلوا في أن يكونوا رجالاً، وأنهن سيبقَين أطفالاً إلى الأبد، وأنهن مخلوقات هستيرية كثيرة التبرم والتذمر، ومن هنا ثمة تساؤلات تطرح نفسها حول نظرته الحقيقية إلى المرأة.
أدرك فرويد في نهاية حياته أن الأنثى بقيت بالنسبة إليه مخلوقاً مبهماً ولغزاً محيّراً. لكن المحللة النفسية آن ماري بون (Anne-Marie Pons)، تقول في مراجعتها لكتاب "العلامة المائية" (Filigrane) في خريف عام 2003 إن هذا الرجل عاش محاطاً بالنساء: أماليا، والدته التي توفيت عن عمر يناهز 95 عاماً أي قبل وفاته بتسع سنوات فقط، وأخواته الخمس الأصغر، وناني مدبرة المنزل المخلصة، وبناته، لا سيما آنا التي سارت على خُطاه وأصبحت محللة نفسية مثله وكان يلقّبها "أنتيغون" إشارة إلى أنتيغون ابنة أوديب. وبالطبع مارثا، زوجته المخلصة، وكذلك مينا، أخت زوجته وكاتمة أسراره المقرَّبة إليه للغاية، لدرجة أن بعض الكُتَّاب، وعلى رأسهم الفيلسوف ميشيل أونفري (Michel Onfray)، أثاروا شكوكاً حول وجود علاقة غرامية بينهما. علاوة على ذلك، لا يخفى علينا أن ثمة مثقفات بارعات الجمال بقدر ما كنّ لامعات الذكاء مثل الأميرة ماري بونابرت (Marie Bonaparte)، أو المحللة النفسية لو أندريا سالومي (Lou Andreas-Salomé) التي كان نيتشه (Nietzsche) يعشقها بجنون، قد أسهمن بنصيب وافر في تطور نظرية التحليل النفسي لسيغموند فرويد. ودعونا لا ننسى هؤلاء المريضات اللاتي كنَّ أساس عملية التحليل النفسي من خلال تخيلاتهن وأحلامهن، وهذا يعني أن فرويد مدين بكل شيء، أو بمعنى أصح كل شيء تقريباً، للنساء!
المرأة، ذلك اللغز المحيّر الفاقد للاتجاه الجنسي الواضح
لم ينكر فرويد يوماً أنه مدين للمرأة؛ ولكنه أقر واعترف في آخر حياته بأنه يفتقر إلى الكفاءة اللازمة لفهم التفاصيل الدقيقة لروح الأنثى، لدرجة أنه أعلن استسلامه عام 1932 أي قبل 7 سنوات من وفاته. ووفقاً لما جاء في مراجعة كتاب "العلامة المائية"، فقد: "نصح الرجال الذين يرغبون في معرفة المزيد عن المرأة أن ينظروا بعين الشك إلى تجاربهم الخاصة وأن يتحدثوا إلى الشعراء، أو ينتظروا حتى يكشف العلم عن خبايا نفسها ويمدهم بمزيد من المعلومات عن الأنثى".
لماذا نجح هذا العالِم الفذ في إزاحة الستار عن ألغاز محيّرة بخصوص اللاوعي ولكنه وقف عاجزاً عن فهم المرأة؟ كانت إجابته عن هذا السؤال صادمة؛ إذ يرى أن لغز الأنثى يستند إلى واقع تشريحي، بمعنى أن المرأة تفتقر إلى اتجاه جنسي واضح، وهذه الخصوصية المورفولوجية تجعلها مخلوقاً غامضاً. ولإثبات هذه الفرضية؛ اعتمد فرويد على النشاط الجنسي للأطفال أي حينما يكتشف الأطفال الصغار، صبياناً وبناتٍ، الاختلاف الجنسي بين الذكر والأنثى. وكما يقول فرويد، فإنهم يكتشفون عدم وجود شيء في مكان العضو الذكري عند الفتيات. وانطلاقاً من هذا التصور المخيب للآمال والمؤلم إلى حدٍّ ما، يتكوّن لدى الفتيات الصغيرات اعتقادٌ بأنهن جنس مُحتقَر، وهو التصوُّر الذي يظل يلازمهن طوال حياتهنّ.
لكن لماذا يظل البشر متمسكين بهذه المواقف الطفولية المتمركزة حول الذكورة بعدما يكبرون ويكتشفون وجود المهبل؟ لماذا لا يطورون تفكيرهم في المقابل؟ لا يوضح فرويد هذه النقطة، ويعتبر في أعماله جميعها أنه لا فرار من اعتبار أن المرأة الحقيقية هي ذلك المخلوق الذي "يمتلك عضواً ذكرياً ضامراً وطاقة حيوية ضعيفة تؤدي إلى عدم نضج ممارساته الجنسية واتصافه بالبرودة الإجبارية"، وفق ما أشارت إليه آن ماري بون. وقد أبدى ملاحظات مهينة للغاية بخصوص النساء المسّنات اللاتي لم يعدن مثيرات جنسياً للذكور، ورأى أنهن يصبحن عدوانيات كثيرات التشاحن، ويتحولن إلى كائنات مزعجة، شحيحة وبخيلة، على حد وصفه عام 1913 في مقالة بعنوان: "الاستعداد لمرض العصاب الوسواسي" (La prédisposition à la névrose obsessionnelle)، وهي الملاحظات التي قوبلت بعاصفة من الاستنكار من قبل الناشطات النسويات في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته. ولا تتردد نظرية فرويد في ربط الأنوثة بالسلبية والاعتماد على الآخر والمازوخية (أو المازوشية)، وتذهب إلى حد اعتبار أن النساء، نظراً لعدم وجود عضو ذكري يحميهن، يفتقرن إلى القوة الداخلية والأنا العليا؛ أي المُثُل الأخلاقية الداخلية التي تسمح لنا بالتفكير في الأشياء العظيمة في الحياة كالخير والشر والعدالة والثقافة والفن، وبالتالي فإنهن مخلوقات فاشلة لا تصلح لإدارة بلد بطريقة تضمن تحقيق المصلحة العامة. بيد أن فرويد يرى في المرأة صفة مميزة، ألا وهي التواضع؛ لكن هذا التواضع لا يرجع، حسب قوله، إلى تصورها الصحيح للخير والشر بل حاجتها إلى إخفاء أعضائها التناسلية المعيبة.
أول مَن استمع إلى معاناتهن
لا تتوقف أطروحات فرويد عند فكرة الأنوثة السلبية، الشريرة وغير الناضجة والغبية بعض الشيء؛ بل ترى أن معاناة المرأة في عدم الاكتمال تجعلها تحسد الذكر وتحلم بافتراسه، لذا فإن الأمر يتعلق بتوجيه هذه الضراوة المحتملة من خلال مطالبة المرأة بالطاعة والاحترام. ومن هنا يبرر فرويد العادات والتقاليد الشائعة في عصره؛ حيث يجب على سيدة المجتمع الصالحة أن تطيع زوجها الذي يجب أن يوفر لها الحماية والتعليم في المقابل، فقد كتب إلى تلميذه كارل أبراهم (Karl Abraham) عام 1925 أن النساء خُلقن لأداء الأعمال المنزلية. وقد وجَّه انتقادات لاذعة إلى أولئك اللاتي تم وصفهن بأنهن "خفيفات" للغاية (حتى إنه كان قد منع خطيبته مارثا من رؤيتهن)؛ إذ كان يرى أن النساء السيئات فقط هنّ من يمكن أن يسمحن لأنفسهن بسلوك أكثر جرأةً. إذا افترض فرويد في استكشافه أسرار النفس البشرية أن الإحباط والبرود الجنسي مسؤولان عن الاضطراب العصبي لدى المرأة، فهو لم يستخلص التبعات، لأنه في المقابل يرى المتعة غير المقيدة أمراً غير مقبول على الإطلاق.
وعلى الرغم من ذلك، فإنه يُظهر عمق البصيرة كما تشير الباحثة في العلوم الإنسانية والاجتماعية ماريز باربانس (Maryse Barbance)، في مقال بعنوان "صورة المرأة لدى فرويد" (Des Représentations de la femmes chez Freud): "إذا لم يعترف بأن المرأة تقف على قدم المساواة مع الرجل، وإذا لم يكن من مؤيدي المساواة بين الجنسين، فلديه أيضاً حدس مفاده أن الدونية الفكرية الأنثوية المزعومة مرتبطة بالقمع الذي تتعرض له المرأة، وانخفاض حضورها في المؤسسات التعليمية. علاوة على ذلك، فإن هؤلاء النساء المحرومات من التعليم، المحكوم عليهن في الواقع بالزواج والأمومة، ربما كنَّ أطفالاً من الناحية الفكرية. كلا، لم يكن فرويد كارهاً للمرأة كما تصر المحللة النفسية ومؤرخة التحليل النفسي إليزابيت رودينسكو (Élisabeth Roudinesco)، في كتابها "سيغموند فرويد في زمانه وفي زماننا" (Sigmund Freud en son temps et dans le nôtre) الصادر عن مؤسسة إيسيه (Essais). "سواءً اعتبرناه نسوياً أو ثورياً، فقد كان بلا شك مُحرِّراً برجوازياً يؤمن بأن المرأة ستقتحم ميدان العمل ذات يوم وستكون في خدمة العلم". وتضيف ماريز باربانس: "علينا أن نتذكر أنه كان أول من استمع إلى هؤلاء النساء اللاتي يعانين الاضطراب النفسي، وكن حتى ذلك الحين يلذن بالصمت التام لأنهن لم يكن يجدن أحداً يريد أن ينصت إليهن أو يعرف كيف يسمع شكاواهن".