ملخص: يُعدّ إيجاد أرضية مشتركة مع الوالدين واحدة من الاستراتيجيات الفعّالة للتعامل مع المشكلات المرتبطة باختلاف الأفكار وصراع الأجيال بين الآباء والأبناء. ويتعمّق هذا المقال في ظاهرة الفجوة بين الأجيال، ويقدّم استراتيجيات ينصح بها الخبراء لتقريب وجهات النظر والتأقلم مع التباعد الذي يمكن أن ينشأ بسببها.
محتويات المقال
التغيير سمة الوقت، فكل شيء يتغيّر بمروره. فمع تقدّمنا في السن، تحدث تحوّلات مختلفة لا تشمل مظهرنا فحسب؛ بل تشمل أيضاً شخصياتنا ووجهات نظرنا. تنطبق تلك التغييرات في كلّ مكان، وتؤثّر في كلّ من الشباب وكبار السن؛ ومن ثَمَّ تخلق فجوة بين الأجيال المختلفة.
على سبيل المثال؛ ما قد يكون سلوكاً مقبولاً لدى الشباب اليافع مثل الاحتفال في وقت متأخّر من الليل، يمكن أن يكون مصدر قلق لآبائهم. وكذلك، قد تتعارض أعراف المعيشة التقليدية للجيل الأكبر مع قيم الأشخاص الأصغر سناً. ويمكن أن يكون لهذا الاختلاف في الأفكار والمعتقدات بين كلٍ من الآباء والأبناء تأثير كبير في علاقتهما مع مرور الوقت؛ إذ يمكن أن يؤدّي إلى تسامح أقلّ وتحديّات في التواصل.
وتوضّح الكاتبة الإماراتية والقائدة في مجال الطفولة المبكرة، عائشة الجناحي: "إن الاختلاف بين الأجيال أصبح اختلافاً وارداً في الآراء والثقافات بين جيل وآخر، وهذا الاختلاف يشير إلى الفجوة التي قد تفصل بين الأفكار ووجهات النظر التي يعبّر عنها جيلان مختلفان في الأفعال والأذواق والمعرفة".
وتضيف، مشيرة إلى أسباب تلك الفروقات الواسعة، إنها نتيجة للتطور التكنولوجي والعلمي السريع. لكن على الجيل الجديد، بحسب رأيها، أن يقدّر الحكمة المتراكمة عند الجيل القديم الذي يتقن فن التعامل مع الحالات المعقّدة والأمور الطارئة.
ما أشكال الفجوة بين الأجيال ومظاهرها؟
يشير مفهوم الفجوة بين الأجيال إلى الصراع أو صعوبات التواصل بين مختلف الفئات العمرية، فطالما كانت الاختلافات بين الأجيال موجودة لكنها لم تكن واضحة كما كانت في القرن العشرين. ففي العصور السابقة، كانت المجتمعات أقلّ حركةً وتنقّلاً، وكان الأفراد الأصغر سناً يعيشون في كثير من الأحيان بالقرب من عائلاتهم الممتدة، ويشتركون في الممارسات الدينية نفسها، ويعملون في الشركات العائلية أو المزارع؛ لكن القرن العشرين جلب تغييرات كبيرة مع ظهور التلفزيون والأفلام؛ حيث تعرّض الشباب لتأثيرات ثقافية جديدة وأجنبية تختلف عن عادات أُسرهم ونهُج تربيتهم.
وترتبط أهم مجالات الاختلاف بين الأجيال باستخدام التكنولوجيا والتفضيلات الموسيقية، وتشمل مجالات الاختلاف الأخرى المواقف تجاه الأعراق والجماعات المختلفة، والقيم الأخلاقية، والمعتقدات الدينية، واحترام الآخرين، والآراء السياسية، وأخلاقيات العمل.
اقرأ أيضاً: الاكتئاب لدى كبار السن حقيقي، فكيف يمكن مساعدتهم؟
ما أسباب الفجوة بين جيلَيّ الآباء والأبناء في المجتمعات الخليجية؟
توضّح الباحثة والمعالجة النفسية السعودية، هبة حريري، إن الطفرة النفطية التي أسهمت في النمو الاقتصادي، إضافة إلى التطور التكنولوجي الذي سهّل التواصل والوصول إلى مصادر المعرفة، كلّها عوامل أسست للتفرّد في الشخصية والانفتاح على الثقافات اللذين يميّزان الجيل الجديد، وهي سمات لا تتوفّر في الأجيال السابقة، وقد تكون مؤلمة لهم أحياناً لأنها تجعلهم يشعرون وكأنهم أقلّ كفاءة.
وتلك معادلة غير منصفة بحقهم؛ لأن جيل الأبناء ينظر إليهم نظرة ضيّقة تتسم بإطلاق الأحكام، فالأشخاص الذين ينتمون إلى الأجيال السابقة لم يتعرّضوا إلى الانفجار المعلوماتي والانفتاح الثقافي نفسيهما. لذلك؛ لا يمكن توقّع خروجهم من منطقة الراحة والأمان التي تشكّل هوياتهم؛ وهذا ما قد يخلق صراع الأجيال أحياناً.
كيف تتأثّر العلاقة بين الآباء والأبناء بسبب الفجوة بين الأجيال؟
يمكن للآباء أن يسهموا في سد الفجوة بين الأجيال من خلال إظهار اهتمام حقيقي بكلّ ما هو جديد؛ ما يمكن أن يقلّل الآثار البعيدة المحتملة لهذه الفجوة على نحو كبير وفق المتخصص الأميركي في علم النفس، كارل بيكهارت (Carl Pickhardt).
فعندما يفشل الآباء في سد الاختلافات الثقافية والجيلية باهتمام حقيقي، ويتجاهلونها أو ينتقدونها، يخاطرون بالسماح لهذه الاختلافات بإحداث شرخٍ في علاقاتهم بأبنائهم؛ الأمر الذي يمكن أن يؤدّي إلى رفض مراعاة مصالح الأبناء وخبراتهم، أو عدم دعمها، وأحياناً إلى القطيعة معهم.
وفي أحيانٍ كثيرة، قد تتحوّل تلك القطيعة إلى ما يُعرف بـ "الاغتراب الأسري" (Family Estrangement)؛ وهي ظاهرة أضحت أكثر شيوعاً في مناطق كثيرة من العالم؛ حيث يحدث تباعد وفقدان للمودة على مدى سنوات أو حتى عقود من الزمن داخل الأسرة الواحدة. وتشير نتائج أبحاث أجرتها مؤسسة ستاند ألون (Stand Alone) في المملكة المتحدة، إلى أن الاغتراب الأسري يؤثّر في واحدة من كل 5 أسر بريطانية على الأقلّ.
وكذلك، وجدت دراسة أميركية أجرتها الباحثة المتخصصة في التنمية البشرية والدراسات الأسرية من جامعة ولاية آيوا (Iowa State University)، ميغان جيليغان (Megan Gilligan) مع زملائها، أن العامل الأكثر أهمية في القطيعة هو عدم تطابق القيم التي يؤمن بها كلٌّ من جيلَيّ الأبناء والآباء؛ مثل القيم التي تشمل الدين أو المبادئ العامة مثل الصدق ومفاهيم الواجب والتضحية بالنفس.
كيف يمكن أن نتعامل مع اختلاف وجهات النظر بين الآباء والأبناء؟
تحدّثت الباحثة والمعالجة النفسية السعودية هبة حريري، عن مفهوم تجسير الفجوة بين الأجيال، موضّحة إنه من الصعب تغيير جيل الآباء أو الأبناء، فالحلّ يكمن في بناء الجسر الفكري والعاطفي والاجتماعي.
فأبناء الجيل الحالي يحتاجون إلى الوقوف على جسر ليشاهدوا عالم والديهم بأكمله، بنفسية ملؤها الاهتمام والاحترام. ومع كثيرٍ من الصبر والمحاولة، يمكنهم أن يكتشفوا المنطق المشترك مع آبائهم وأمهاتهم، ويصلوا إلى قدر من التعايش الذي يخلق السلام، ويحتاج الآباء إلى الاستراتيجية نفسها في تجسير الفجوة.
أما الاختصاصية في علم النفس العيادي، سامانثا رودمان (Samantha Rodman)، فتقترح 5 استراتيجيات للتأقلم مع التباعد والحزن الذي يمكن أن يخلقه اختلاف الأفكار مع الوالدين، ونلخّصها كالتالي:
- مارس التقبّل: محاولة تغيير شيء خارج عن إرادتك؛ مثل سلوك والديك أو أفكارهم، يمكن أن يؤدي إلى خيبة الأمل. لذلك؛ يمكن أن تجعل من تقبّل الواقع ممارسة مستمرّة لكي تحقّق السلام لنفسك.
- ركّز على الصفات الجيّدة التي يتمتّع بها والداك: إذا كان تواصلك مع والدَيك محدوداً بسبب اختلاف الأفكار بينكما أو أيّ مشكلاتٍ مرتبطة، فركّز على الصفات الإيجابية التي تتذكّرها عنهما.
- ابحث عن الدعم والتكافل: انتبه إلى الأصدقاء الذين قد يشاركونك الإحباط بخصوص الوالدين، وكُن منفتحاً معهم بشأن معاناتك. يمكن للصعوبات مع الوالدين أن تخلق رابطة قوية بين الأصدقاء، وقد يقدّم الأشقاء الدعم المثالي كذلك.
- أنشئ العائلة التي تريدها: إذا كان وجودك في محيط والديك يُشعرك بعدم الراحة، فانظر إلى ما هو أبعد من المفاهيم التقليدية للعائلة، وابنِ علاقات هادفة مع أشخاص لا تربطهم بك صلة قرابة.
- كُن الوالد الذي تتمنّاه لنفسك: بالنسبة إلى الأفراد الذين تربطهم علاقات متوتّرة بوالديهم، من الضروري عدم إنجاب الأطفال لمجرّد معالجة المشكلات الشخصية مع الوالدين؛ إذ تستغرق رحلة الشفاء من المشكلات النفسية المرتبطة بذلك وقتاً طويلاً، وبخاصة بالنسبة إلى أولئك الذين شعروا بالإهمال أو سوء الفهم من قبل عائلاتهم.
اقرأ أيضاً: هل يحيرك غضب والدك المسن؟ إرشادات عملية لاحتوائه
وأخيراً، يمكن أن يكون التغلّب على الاختلافات مع الوالدين ومحاولة سدّ الفجوة بين الأجيال مهمة صعبة أو شبه مستحيلة. لذلك؛ من المهم تعزيز التعاطف والصبر عند مواجهة وجهات نظر وقيم متضاربة بين جيلَيّ الآباء والأبناء. فبدلاً من السعي إلى تغيير الوالدين أو بناء علاقة مثالية معهما، يمكن أن يؤدي تقبّل الواقع والتركيز على الجانب الإيجابي في العلاقة إلى مزيد من السلام والتفاهم.