خبيرة نفسية تؤكد: في عصر منصات التواصل الاجتماعي، جميعنا ضحايا للتلاعب

التلاعب
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: تنتشر تقنيات تلاعب جديدة في المجتمع لتجرّد ضحاياها من استقلاليتهم. ما الأسس التي يرتكز عليها التلاعب؟ ولماذا ينتشر على أوسع نطاق؟ وهل هناك أشخاص أكثر عرضة له من غيرهم؟ هذه إجابات الطبيبة النفسية ماري فرانس هيريغويين.

ما المقصود بالتلاعب على وجه التحديد؟ وما الفرق بينه وبين الانحراف؟

ماري فرانس هيريغويين (Marie-France Hirigoyen): التلاعب نمط من العلاقات أما الانحراف فهو مرض ونمط سلوك. لا علاقة لأحدهما بالآخر. التلاعب بشخص ما هو دفعه إلى ممارسة سلوك لم يكن من الممكن أن يصدر عنه بمحض إرادته لو لم يتعرض إلى التأثير. بصراحة نحن نمارس التلاعب جميعاً. على سبيل المثال نحن نتلاعب بالطفل عندما نقنعه بالنوم أو التصرف بهدوء أو طاعة الأوامر حيث نوظف العاطفة والإغراء والملاطفة بدلاً من الاعتماد على المنطق والحجج. نكيّف كلامنا لحث الآخر على قبول ما نريده منه. بعض الناس بارع للغاية في ذلك مثل المنحرفين والمحتالين وغيرهم. وبعضهم أقل براعة مثل الأشخاص العقلانيين جداً الذين يكونون عموماً أقل قدرة على الإقناع ولا يحصلون بسهولة على التجاوب الذي يريدونه.

كثيراً ما يتساءل ضحايا التلاعب عن سبب تعرّضهم له دون غيرهم. هل هناك فعلاً أشخاص أكثر عرضة للتلاعب من غيرهم؟

ماري فرانس هيريغويين: لدينا جميعاً مواطن ضعف لكن البعض أكثر عرضة للتلاعب مقارنة بالآخرين بسبب افتقاره إلى الثقة بالنفس وحاجته إلى الحبّ وسعيه لتلبية توقعات الناس. والأشخاص الأكثر عرضة للتلاعب هم الذين يرغبون في الاستجابة لتوقعات المجتمع المعيارية وقيم البيئة التي يعيشون فيها. ولكن من منّا بمنأى عن ذلك اليوم؟ في هذا العصر الذي يسوده التقليد وفرض المعايير والنرجسية في الوقت نفسه أصبحت الصورة والمظهر وتأييد المجموعة التي ينتمي إليها الفرد أهم من أي شيء آخر، لذا أصبحنا جميعاً عرضة للتلاعب لا سيّما في مواقع التواصل الاجتماعي.

لماذا نقع في فخ التلاعب؟

ماري فرانس هيريغويين: أنا أفضل دائماً تجنب التعميمات لكن تقنيات التلاعب المعاصرة فعّالة للغاية. يوظّف المتلاعبون التحايل لجذب انتباهك ثم يفرضون عليك حقائق مزعومة باعتبارها مسلّمات لا مهرب منها. انتشرت هذه التقنيات وشاع استخدامها في المجالات كلها: العمل والسياسة ووسائل الإعلام إلى غير ذلك. وما ألاحظه هو تزايد أعداد المرشدين الذين يهتمون بقضايا التغذية والنشاط البدني والعناية بالجسم والحدّ من الشيخوخة والمظهر الخارجي والتعليم لمساعدتنا على “التحسّن” من خلال تقديم نصائح وإرشادات.

كما ينتشر المتلاعبون بكثرة في مجالات الرفاهية وتطوير الذات وتعزيز الثقة بالنفس. هؤلاء المدرّبون والمعالجون المزيفون كلهم يبيعون لنا وهْم بلوغ الكمال دون جهد. إنهم يسلبونك حريتك الشخصية من خلال استهدافك بترديد الأفكار نفسها دون توقف، وكثيراً ما يقدمونها لك أيضاً بوصفها معطيات علمية (مثل الدراسات المتعلقة بمفهوم الإدراك التي تكشف لنا أساليب التصرف المختلفة). وإذا لم تقبل ما يقولونه فهذا يعني أنك شخص غبي.

هل يمكن أن تقدمي لنا مثالاً؟

ماري فرانس هيريغويين: يُطلب منا باستمرار أن نتخذ مواقف من القضايا المطروحة. لنأخذ النقاش الدائر حول مفهوم التربية الإيجابية على سبيل المثال. إنه يفرض عليك أن تكون مع هذا الفريق أو ذاك وتختار المعسكر الذي تنتمي إليه. وفي الواقع يعرف الآباء الصالحون بالطبع ما يناسب أبناءهم. يعرفون متى يتعين عليهم معانقة أطفالهم أو متى ينبغي لأبنائهم الذهاب إلى النوم.

ومع ذلك يظهر خبراء أدعياء يقدمون النصائح حول هذا النوع من التربية، وأؤكد أنهم “أدعياء”، لأننا عندما ندقق في التفاصيل نكتشف أنهم لا يمتلكون خبرة طويلة أو معرفة متعمقة في القضايا التي يتحدثون عنها، بل تقتصر خبراتهم في أحسن الأحوال على نشر مقال واحد يكفيهم للظهور وتصدّر الواجهة. نحن نطالب بالمزيد من الحرية لكننا أصبحنا جميعاً موجّهين في الواقع ونتلقى قيماً لا تمتّ إلينا بصلة من أشخاص يبدون واثقين جداً بأنفسهم. عندما يُقال لنا: “هكذا ينبغي لكم أن تفكروا” نجد أنفسنا غارقين في توجه فكري لا يمتّ لنا بأيّ صلة. وهذا يجرّدنا من استقلاليتنا ويفقدنا حسّنا النقدي. ينطوي التلاعب إذاً على هذه السلوكيات وطرائق التسلط على الآخرين.

ما الذي يدفعنا إلى تصديق هذه “الحقائق المزعومة”؟ هل هي توقعاتنا وإسقاطاتنا أم حبّنا للآخرين؟

ماري فرانس هيريغويين: في الماضي كنا نعيش في مجتمعات مصابة بالعُصاب ولكن منذ بداية الألفية الثالثة حدث تحول معين، فأصبحنا نحن، المختصون النفسيون، نستقبل في المقام الأول شخصيات نرجسية مرهَقة بسبب الشعور بالذنب والنقص. هذه الشخصيات التي تعاني تستشيرنا بغرض العلاج لتحسين مستوى الأداء. عادة ما أقول لمرضاي: “يجب أن تقبلوا نقصكم وتعترفوا أنكم أشخاص متوسطو المستوى”. فعملية العلاج النفسي ترتكز على معرفة الذات وقبول العيوب وتعلّم الاستقلالية. لكن هذا أصبح صعباً لأننا لم نعد نتحمّل عيوبنا. كثيرون منّا بنوا ذوات زائفة تعكس ما يريده المجتمع. وهم مقتنعون أن شخصياتهم ليست متوافقة مع ما ينبغي لهم أن يجسدوه.

ما المقصود بالذات الزائفة؟

ماري فرانس هيريغويين: الذات الزائفة هي الفراغ الداخلي والعجز عن فهم المشاعر وتقليد البيئة الاجتماعية في محاولة للتكيف معها على نحو مبالغ فيه. الأفراد الذين يبنون ذوات زائفة يدركون نقصهم لكنهم لا يريدون رؤيته. إنهم يطمحون إلى استرجاع قوة الطفولة المبكرة كأنهم لم يمروا بمراحل التربية اللازمة لبناء الشخصية. في بداية حياته يرى الطفل نفسه قادراً على كل شيء ويعيش على هذا الأساس، محاطاً برعاية من حوله، ثم يكتشف أنه لا يمكن لهؤلاء منحه كل ما يريد وأن عليه تدبير شؤونه بنفسه.

ما عليك إلا النظر إلى الأطفال وستلاحظ رغبتهم في أخذ كل شيء وكيف يتشاجرون معاً لينتزع كل منهم لُعَب الآخر. مع التقدم في العمر يتعلمون التعامل مع الآخرين والبيئة المحيطة بهم. ثم يكتشفون شعور الإحباط ومعه يكتشفون أيضاً الاستقلالية وطبيعة العلاقات والمتعة والقيود التي تصاحبها.

لم يحظَ أصحاب “الذوات الزائفة” بالأمان الداخلي الكافي لبناء شخصياتهم وتحمّل نقائصهم ومظاهر الضيق التي يمكن أن تنشأ عنها. كما أن الحدود بين الأنا التي يحملونها والعالم الخارجي غير محددة بوضوح أو مفتوحة جداً. يسمحون للآخرين باقتحام حيواتهم الشخصية إما لأن هؤلاء يبدون أكثر ثقة بالنفس أو لأنهم يدّعون معرفة أفضل بأساليب تحقيق “التفوق”.

ولكن لسنا جميعاً أصحاب ذوات زائفة، فلماذا أصبح الضعف والشيخوخة والهشاشة مظاهر لا تُحتمل بالنسبة إلينا تدفعنا للوقوع في شراك هؤلاء المتلاعبين؟

ماري فرانس هيريغويين: صحيح أننا لم نبنِ جميعاً ذوات زائفة لكن رغبتنا في الاهتمام بأنفسنا والتركيز عليها تتزايد، بينما يتراجع اهتمامنا بالآخرين. نحتاج إلى الظهور وتقدير أنفسنا وهذا ما يفتح المجال الواسع لظاهرة التلاعب. علاوة على ذلك تُوهمنا الحياة المعاصرة أن كل شيء ممكن بينما يتزايد في الوقت نفسه شعورنا بالقلق. لقد تحقّق تقدم كبير في مجال العلوم والطب. ومع ذلك تتراكم التهديدات وتتزايد الفوارق الاجتماعية والاقتصادية وتجتاح موجات الهجرة قارات العالم. إنها قضايا معقدة وصعبة. فترة جائحة كوفيد 19 والحجر الصحي ثم الحرب والصعوبات الاقتصادية والاحتباس الحراري كلّها ظواهر تزيد القلق حيال المستقبل. كل شيء يتغير بسرعة مرعبة.

تتعرض مرجعياتنا وقيمنا لاضطراب كامل فيتعين علينا ابتكار طريقة أخرى للعيش، وفي هذه الفترات التي تتميز بعدم اليقين يظهر المرشدون الروحيون الذين يدّعون القدرة على تقديم الحلول. لأننا عندما نكون ضعفاء أو فقط نشعر بالضعف تنتابنا الرغبة في أن يرشدنا شخص ما وأن نحصل على إجابات مطمئنة وجاهزة وسريعة. فيتسلل المتلاعبون من خلال ثغرات الضعف التي تعترينا. لست متأكدة من إدراك الشباب هذه المسألة بوضوح لكنهم بالتأكيد تائهون تماماً.

من أين يستمد “المؤثرون” قوتهم في مواقع التواصل الاجتماعي؟

ماري فرانس هيريغويين: ما أغرب اسم هذه المهنة! إنها مفارقة: التأثير يجب ألّا يكون مهنة، فهو يحدث في إطار علاقة.
يتعلق الأمر هنا باستخدام تقنيات تعتمد على الكذب وتزييف الواقع لتحقيق فائدة ما، وقد وجد المؤثرون فرصة لاستغلال الآخرين لصالحهم. التأثير شكل حديث من أشكال الاحتيال بدرجات متفاوتة. ولكن إذا كنا فعلاً بحاجة شديدة إلى المؤثرين فهذا يعود إلى عدم قدرتنا على التفكير بمفردنا. من المهم معرفة كيفية اتخاذ المواقف ووضع الحدود بيننا وبين محاولات المتلاعبين التدخل في خصوصياتنا من خلال محاولة تغيير أشكالنا وعاداتنا الغذائية بهذه الوصفة السحرية أو تلك.

من الطبيعي أن نتأثر بالآخرين، ففي صغرنا نتخذ قدوات، لكن في مرحلة معينة يجب أن نبني وجهة نظر شخصية، وأن نعرف ما يناسبنا وما لا يناسبنا. لكننا لا ندرك في الواقع بما فيه الكفاية ما يحدد هوياتنا ومواقفنا ولا نعرف كيف نوجّه أنفسنا لأن عصرنا هذا الذي نعيش فيه يفتقر إلى الدقة في التمييز بين الوقائع، ويفرض علينا مسلّمات تعتبر في الواقع من نتائج من التلاعب.

هل يجب علينا أن نسعى باستمرار إلى التحرر من التلاعب؟ هل يمكن أحياناً التأقلم معه؟

ماري فرانس هيريغويين: قد تكون عمليات التلاعب “حسنة” عندما يكون الهدف منها هو مساعدة الآخر. تابعت حالات العديد من الأشخاص الذين كانوا يعيشون تحت سيطرة شريك عنيف. في مثل هذه الحالات نعلم جيداً أن الحجج المنطقية لن تنجح ولن تفيد شيئاً، لذا يمكننا التلاعب بالجانب العاطفي، إنه نوع من العلاج المضاد للتلاعب. والأمر المهم في هذا الإطار هو النية لأن التلاعب في حد ذاته ليس سوى استراتيجية.

المحتوى محمي !!