هل قيل لك أنك تفكر كثيراً؟ هل تشعر أن أفكارك تدور في عقلك مثل الزوبعة؟ إذاً من الممكن أن تكون من الأشخاص الذين يعانون من الإفراط في التفكير أو ما يعرف باجترار الأفكار. إنها ظاهرة معقدة يمكن أن تأخذ أوجهاً مختلفة؛ ولكنها قبل كل شيء تصبح عائقاً حقيقياً في الحياة اليومية.
تقول ياسمين، وهي شابة تبلغ من العمر 22 عاماً: "اجترار الأفكار بالنسبة لي بمثابة الجحيم الذي أعيش فيه، فأنا أجد صعوبة بالغة في التوقف عن التفكير، والعيش في الوقت الحاضر، لأشعُر بالهدوء والاسترخاء". يُشار إلى ما تشعر به عادة باسم الإفراط في التفكير أو اجترار الأفكار. في هذا السياق؛ يُعرّف برنارد أنسيلم؛ طبيب خبير في علم النفس العصبي ومؤلف كتاب "أنا اجتر، أنت تجتر، نحن نجتر" (Je rumine, tu rumines, nous ruminons)، هذه المصطلحات على أنها "أفكار سلبية تتكرر باستمرار". إضافة إلى ذلك، فهي "تولد مشاعر سلبية وغير سارة". يؤكد الطبيب أيضاً على نقطة غير معروفة وهي أن "هذه الأفكار لا تولد إجراءات للتعديل أو التغيير؛ بل على العكس من ذلك، فنحن نفكر مراراً وتكراراً، لأننا لا نريد تعديل الوضع أو نعتقد أننا لا نستطيع فعل ذلك، وعلى هذا النحو تتكرر الأفكار دون القيام بتصرف مناسب".
1. الاجترار ظاهرة شائعة
اجترار الأفكار يمكن أن يطغى على عقل أي شخص. وبحسب برنارد أنسيلم: "هذه الظاهرة تحدث للجميع بدرجات مختلفة. على سبيل المثال؛ يخلق المثاليون فجوة كبيرة بين ما يتوقعونه من موقف ما وما يحدث بالفعل؛ ما يؤدي إلى اجترار الأفكار. لاحظت سلمى البالغة من العمر 21 عاماً وطالبة في مجال إدارة الأعمال الدولية، أن سيلاً من الأفكار يغزو دماغها عندما يقترب حدث معين، وتقول في هذا السياق: "عندما أفكر كثيراً، غالباً ما يكون لدي حدث كبير في اليوم التالي، يمكن أن يكون سنة دراسية جديدة أو مواصلة الدراسة في الخارج أو حتى رحلة. وبهذه الطريقة؛ أبدأ في التفكير في جميع السيناريوهات المحتملة، خاصة السلبية منها، وهذا يخيفني". في كل مرة يحدث معها هذا، يسيطر خيالها عليها، وتقول: "إذا ذهبت إلى مدرسة جديدة، أقول أشياء في نفسي مثل: الناس منافقون أو غير متعاطفين. وأبدَأ بالضغط على نفسي، وسرعان ما أتحوّل إلى إنسانة عصبية، وهكذا أُمضي بقية اليوم بمفردي".
وبحسب الطبيب: "تغمرنا عادة الأفكار السلبية عندما نمر بوقت عصيب، أو هناك شيء ما نلاحقه، يصاحبه شعور غير سار. ومع ذلك، فإن القلق أمر طبيعي طالما أنه لا يتجاوز الحد المعقول، أما إذا أصبح ثابتاً عندها يثير القلق".
2. الاجترار أكثر حضوراً في الأشخاص القلقين
حتى لو قلنا أن أي شخص يمكن أن يكون ضحية اجترار الأفكار، فإن الأشخاص القلقين أو مُفرطي الحساسية أو من يعانون الاكتئاب يتأثرون بشكل خاص. على سبيل المثال؛ تقول ياسمين التي تشعر بالقلق: "أنا إنسانة قلقة بطبعي. قلقي واجترَاري للأفكَار مرتبطان تماماً بالنسبة لي، لأن أدنى حدث أو ملاحظة سلبية يثير العديد من التساؤلات والأفكار في نفسي. القلق هو بالفعل "بوابة اجترار الأفكار" وفق ما أكده برنارد أنسيلم. كما يوضح: "الاجترار شكل من أشكال الخوف من المستقبل. عندما يجد الشخص القلِق نفسه في وضع غير مؤكد، فسوف يفكر في الخيارات حتماً، وهذا هو المجال الخصب الذي يسمح بتخيّل أسوأ السيناريوهات، ومن هنا تبدأ مرحلة اجترار الأفكار.
من المألوف أن أي شخص قلق مثل ياسمين يريد حماية نفسه والتفكير في كل المواقف غير السارة الممكنة لمنعها؛ لكن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد، فهذه الأفكار السلبية هي نفسها تغذي مشاعر أخرى غير سارة؛ والتي بدورها ستغذّي أفكاراً أخرى. إنها عبارة عن حلقة دائرية مفرغة. تؤكد ياسمين: "أشعر وكأن دوامة من الأفكار تتشكل ويأبى عقلي أن يتوقف عن التفكير. تحاصرني الأفكار وتُرافقني طوال اليوم. أتمنى للحظة أن يكون هناك زر لإيقاف التشغيل".
3. حلقة مفرغة من الأفكار والمشاعر السلبية
هذه الزوبعة من الأفكار تشبه "إثارة المشاعر الذاتية". يوضح الطبيب في هذا الصدد: "إنها بمثابة عدوى عصبية تقوم بتنشيط شبكة عاطفية متصلة بمشاعر الخوف أو القلق، تنشط مناطق أخرى من الدماغ؛ والتي بدورها تولد أفكاراً سلبية. إنها حلقة لا تؤدي إلا إلى تفاقم الأفكار".
النتائج واضحة، فبالإضافة إلى هذا الغزو للأفكار؛ يعاني الشخص من عدم الراحة تصاحبه مشاعر غير سارة على غرار الحزن، الخوف، الغضب، الإحباط أو حتى الغيرة والاستياء. وربما يعاني على المدى الطويل من الاكتئاب. وفي الواقع؛ يقلل الاجترار من القدرة على التصرف، لأنه عندما تكون لدينا مشاعر سلبية، نظل حبيسي أفكارنا؛ ما يمنعنا من إيجاد الحل المناسب.
في بعض الأحيان؛ يمكن أن يكون للاجترار عواقب وخيمة تؤدي إلى القلق أو نوبة من الهلع. تصف ياسمين قائلة: "أحياناً لا أستطيع السيطرة على هذا السيل العارم من الأفكار وسرعان ما تتحول إلى نوبة هلع، أعراضها حادة نوعاً ما، فهي تثير فرط التنفس والرغبة المفاجئة في الهروب من الموقف، بالإضافة إلى الإغماء أو حتى الشعور بالموت الوشيك.
كانت أماني البالغة من العمر 21 عاماً والطالبة في مجال التواصل، قلقة أيضاً منذ صغرها. بالنسبة لها كانت عملية الاجترار تختفي تدرجياً لبعض الوقت، واليوم تحدث بشكل أقل؛ ولكنها تكون حاضرة بقوة في ذروة قلقه. وتقول واصفة بداية نوبة القلق: "لقد كان ذلك يجهدني، لم أستطع التفكير في شيء آخر ومن هنا بدأت الأزمة؛ شعرت بصعوبة في التنفس، ما جعلني أرغب في أن أبقى وحدي لأهدأ وأتنفس بعمق. مثلها مثل ياسمين؛ كلاهما يشعران بقلق لا ينتهي.
4. العواقب الاجتماعية للحلقة المفرغة
على الرغم من أن اجترار الأفكار يتسبب في إزعاج داخلي، فإن الشعور به يؤثر أيضاً على محيطنا الخارجي، فالإفرَاط في التفكير يغيّر من علاقاتنا. عندما نكون في حالة مزاجية سلبية، نكون أقل انفتاحاً على الآخرين وهكذا يسيطر المزاج السلبي على تعاملاتنا مع الآخر. كما تتداخل العناصر السلبية مع بعضها البعض؛ ما يُؤثر في الحالة المزاجية والإبداع والتواصل الاجتماعي والتحفيز.
ليس من السهل دائماً إدارة ظاهرة الإفراط في التفكير من قبل المجتمع، لأنه لا يفهمها دائماً، وفي معظم الأحيان يُطلق على الشخص الذي يعاني من اجترار الأفكار أنه شخص حساس للغاية. في هذا السياق؛ تم تشخيص ياسمين بأنها موهوبة، ولطالما كانت لديها حساسية مختلفة مصحوبة بتأملات؛ ولكنها مسألة لم يتمكن الجميع من فهمها وتوضح في هذا الشأن: "غالباً ما يُقال لي إنني شديدة الحساسية ولكني لا املك الحساسية ذاتها التي يملكها الاخرون. والأسوأ من كل هذا أنني عندما أواجه نوبات القلق في الأماكن العامة، فالبعض يساعدني والبعض الآخر لا يفهم ما يحدث ويظل مصدوماً دون أن يحاول معرفة ماذا يحدث لي، والبعض الآخر يضحك. غالباً ما تؤدي نظرة الآخر إلى تفاقم الموقف؛ ما يساهم في الشعور بمزيد من القلق وانعدام الأمن.
5. الإفراط في التفسير على صلة مباشرة في الإفراط في التفكير
تجدر الإشارة إلى أن هناك تأثيراً آخر للإفراط في التفكير؛ وهو الإفراط في التفسير. في الواقع؛ عندما نواجه موقفاً ما لا نفهمه، فإننا نميل إلى اختلاق سيناريو لمحاولة الحصول على تفسير معين. وفقاً لبرنارد أنسيلم: "يميل الدماغ إلى معالجة المعلومات السلبية كأولوية، وكأنها مسألة مصيرية للبقاء على قيد الحياة. وهذا يعني، كلما كان التركيز أفضل، يمكن تصحيح العيوب. على سبيل المثال؛ إذا تلقى شخص ما 9 مجاملات وعتاباً واحداً فقط، فسيفكّر تلقائياً في العتاب لتحليل أسبابه وربما تصحيح العيب. بالنسبة للأشخاص القلقين، فإن هذا يجعلهم يفكّرون أكثر، وبالتالي تبدأ عملية الاجترار.
تشرح أماني أنها كانت تبالغ في تحليل ما يُقال لها، وما يمكن أن نفكر فيه عنها. وتستدرك قائلة: "أعتقد أن هذا بسبب تدني احترام الذات". فبوجود صورة ذاتية سيئة، يزداد الخوف من أن يُنظر إليك بشكل سيئ في المجتمع. يستحضر برنارد أنسيلم سيناريو لقاء رومانسي، كمثال متكرر على الإفراط في التفسير يصف فيه: "شاباً التقى بامرأة في موعد غرامي، بمجرد عودته إلى المنزل، تفطن أنه لم يخبرها أشياء أخرى عن نفسه". لكن في هذه الحالة، فلديه ثلاثة أساليب لإيجاد حل لهذه المشكلة اعتماداً على تقديره لذاته وهي كالآتي:
- تدني احترام الذات: يقول في نفسه "لم أقل ما أردت قوله لها، لا بد أنها وجدتني خجولاً ومنطوياً. ربما لن ترد رؤيتي مرة أخرى". ثم يتخيل الشاب سيناريو كارثياً ويبدأ عقله في الانغماس في عملية اجترار كاملة.
- احترام الذات المقبول: اعتماداً على ما تجيب عليه المرأة أثناء الموعد، ستُحَدد درجة الاجترار الفكري. في الواقع؛ إذا سمح مسار المحادثة مع الأسئلة التي يمكن أن تطرحها عليه، فسيكون قد توقع مخاوفه بالفعل من خلال إعطائه المعلومات التي يريدها، بالنظر إلى إجاباته المدروسة جيداً.
- التعاطف مع الذات، احترام الذات العالي غير المشروط: في هذه الحالة يقبل الشخص بأنه لا يستطيع البوح بما يريد قوله لهذه الشابة. وينساب مع الوضع دون تعقيده ويقدر حقيقة أنه كان قادراً على التحدث معها. إنه يفهم جيداً أنه إذا تطور التواصل بينهما، فستكلّمه مرة أخرى وستنجح العلاقة. بخلاف ذلك؛ إذا لم ينجح الأمر، فقد أخبر نفسه أنه سيحاول مع أشخاص آخرين. وهذا ما يفيد أن قبول عواطفه السلبية وعيوبه يجعله أكثر انفتاحاً على الآخرين واسترخاءً وجاذبية. سيكون أكثر واقعية إذا توقف عن الحكم على نفسه أو القلق بشأن حكم الآخرين عليه. من خلال رد الفعل بهذه الطريقة؛ يتوقف الرجل عن إثارة القلق بشأن مستقبل العلاقة.
بينما يعيش الجميع على وقع اجترار الأفكار؛ إلا أنها تخرج عن الحدود المعقولة بالنسبة للأشخاص القلقين. إن الإفراط في التفسير يزج بنا في دائرة مفرغة من الأفكار والعواطف السلبية ونوبات القلق، ولذلك ينبغي ألا يُستَخفّ في الإفراط في التفكير، خاصة بالنسبة للأشخاص الذين يعانون منه بدرجة عالية جداً.
6. كيف نتوقف عن اجترار الأفكار؟
إن عبارات على غرار "كان ينبغي ألا أفعل ذلك"، "أنا غير قادر على"، "لن تنجح أبداً"، "لن ينجح الأمر"، تفاقم المشاعر التي تغزونا وتطلق العنان لعمليّة الاجترار، وغالباً ما يكون ذلك إمّا في المساء أو وقت الخلود إلى النوم. لكن من الممكن وضع حد لها دون أن تكون مطمئناً كثيراً لفعاليتها. علاوة على ذلك، فإن الرغبة في درء هذه المشكلة عن أطفالنا أمر غير مُجد،ٍ بحسب المحلل النفسي كلود هالموس، الذي يرى أن "المسألة لا تتعلق بمحو المعاناة بل بتجاوزها". ولتجنب عواقبه الضارة؛ اختار الكاتب ليونيل دوروي، الكتابة لإشباع أفكاره القاتمة.