كيف توقعنا شبكات التواصل الاجتماعي في فخ الاكتئاب؟

4 دقائق
شبكات التواصل الاجتماعي
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)

إن ارتباطنا الوثيق هذا الزمن بهواتفنا الذكية بجعلنا إياها جزءاً أساسياً لا تكتمل بدونه أيّامنا، لم يَخْلُ من جانب مُضِر على الرغم من الخدمات اللانهائية التي تقدمها لنا؛ إذ وقفت مجموعة من الأبحاث الحديثة على الخطر الذي يُحدق بمستخدميها كما دقت ناقوس الخطر ودعت إلى وضع هذه المساوئ نصب العين وأخذ الحيطة والحذر اللازمَين. إذ يمثل الأشخاص الذين يواظبون على استعمال هواتفهم وتصفح شبكات التواصل الاجتماعي -سواء كانوا مراهقين أو راشدين- الفئة الأكثر عرضة للوقوع فريسة القلق والاكتئاب فضلاً عن الإصابة بـ "الإدمان".

كتب هذا المقال كلّ من الأستاذ الجامعي والباحث في علوم الاتصال ديديه كوربيه (Didier Courbet) والأستاذة الجامعية في علوم الاتصال بجامعة إكس-مرسيليا ماري-بيير فوركيه-كوربيه (Marie-Pierre Fourquet-Courbet) ونشره موقع ذا كونفرزيشن (The Conversation).

صارت الهواتف الذكية اليوم حاضرة في كل مكان؛ إذ تشير الإحصائيات إلى أن 58% من الفرنسيين أكدوا أنهم يحملون معهم هواتفهم على مدار الـ 24 ساعة، فيما صرَّح 41% منهم أنهم يتفقدونها بين الفينة والأخرى في أثناء الليل، بينما وصل الأمر بـ 7% إلى الرد على الرسائل التي تصلهم حتى في غمرة الليل.

في موجز تجميعي لبحوث تناولت كبار مستخدمي الهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي، أكَّد الباحثون فرضية ارتباط الاستعمال المُفرط لهذه الأخيرة بظهور بعض المشكلات النفسية كالقلق والاكتئاب والإدمان؛

ما يجعل من شبكات التواصل الاجتماعي مكاناً مُتناقضاً بشكل سافر حيث إن المفترض بها أن تضمن التسلية والرضا لمُستخدميها. وقد أكدَّ ما يقرب من 48% من مستخدميها البالغين من العمر بين 18-34 سنة أن تفقدها يُعدّ أول فعلٍ يقومون به حين يستيقظون، فيما ثَبُت في المقابل أن زيادة نشاط الأشخاص على فيسبوك أو إنستغرام يتناسب طرداً مع تَرَدِّي أمزجتهم.

بل الأدهى من ذلك أن رابطاً كُشِف بين استعمال هذه الشبكات وبين ظهور أعراض اكتئاب، وتُعَدّ فئة الشباب في مرحلة المراهقة وما قبلها الأكثر عُرضةً لذلك حيث تعزز الأوقات الطويلة التي يقضيها المراهقون على فيسبوك من فرص إصابتهم باضطرابات اكتئاب والرهاب الاجتماعي.

القلق من تفويت شيء ما

ما الذي يُسهم في ظهور هذه الاضطرابات؟ تحولت الشبكات الاجتماعية بسبب الصور المنشورة إلى فضاءات تنتعشُ فيها المقارنة الاجتماعية؛ ما جعل الناس يميلون إلى الاعتقاد بأن الآخرين أكثر سعادةً منهم ويملكون حياة أروع من حياتهم. فمراقبة الحياة "السعيدة" التي ينعم بها الآخرون على شبكات التواصل الاجتماعي تدفع بالمرء إلى الاعتقاد بأنه أقل شأناً ووجوده في هذا العالم أقلّ قيمة.

كما صار يتملّكنا توجّس حين نغيب عن الشبكات الاجتماعية مُولِّداً في أعماقنا شعوراً بأن شيئا ما مهماً سيفوتنا إثرَ ذلك، ويطلَق على هذه الظاهرة باللغة الإنجليزية: (fear of missing out) أو باختصار (FOMO). وتتجلّى ظاهرة الفومو (FOMO) في الخوف من استمتاع الآخرين بتجارب غنية ومثيرة في غيابنا؛ ما يدفع بمستعمل الإنترنت إلى أن يرابط بهذه الفضاءات ليظل على علمٍ بما يحصل داخلها أولاً بأول. لكن حين تتنامي ظاهرة الفومو فإن الحالة النفسية للمصاب بها تسوء ليرافقها سخط على الحياة الشخصية بشكل عام والمزيد من أعراض الاكتئاب.

تُستشعر هذه المشكلات النفسية بشكل جَليّ عند من يلجأ إلى استخدام الإنترنت لإشباع حاجة ملحة لديه في أن يحوز شعبية ساحقة واعترافاً اجتماعياً لم ينجح في تحقيقهما في الواقع.

كما تُمثل الإعجابات (اللايكات) والتغريدات (التويتات) والمشاركات (الشير) بالنسبة إلى هذه الفئة من الناس مؤشرات على الاعتراف الاجتماعي، وتصير عُملة حقيقية تؤطر المعاملات الإنسانية والعاطفية في تلك الفضاءات.

الشعور بالذنب لتبديد الوقت

لا تظل هذه الآثار السلبية حصراً على كبار مُستخدمي على هذه الفضاءات بل إن كثيراً من الأشخاص يميلون إلى الاعتقاد بأنهم لم يحققوا أي شيء ذي بال وأنهم يبددون وقتهم دون جدوى على هذه الشبكات. فإذا كان الناس يجدونها مُسليّة على المدى القصير، فإنهم يميلون إلى الإحساس في النهاية بشعور بالذنب مرّده إما إهمالهم لمهام أخرى أكثر أهمية تنتظر الإنجاز، أو إضمار مشاعر سلبية كالتسويف.

ومَع دأب بعض متصفحي الإنترنت على التردد النشِط على الشبكات الاجتماعية فإنهم يقعون في خطأ انحياز التأثر؛ أي أنهم يطمحون دائماً إلى أن ينتابهم شعور أفضل بعد تفقد هذه الفضاءات فيما العكس تماماً هو ما يحصل.

هلوسات سمعية

أكد زهاء نصف الأشخاص الذين تناولتهم هذه الدراسة بأن قلقاً انتابَهم عند ضياع هواتفهم منهم، أو حين تدفع بهم الإكراهات إلى إطفائه، أو حين لا يتأتّى لهم استعمالها سواء بسبب سوء التغطية أو نفاذ شحن البطارية. فيما أكّد 42% من المراهقين انهيارهم في حال اضطروا إلى ترك منازلهم لبضع أيام دون أن يأخذوا هواتفهم معهم. وبسبب هذا القلق ظهر اضطراب جديد يخص الهواتف الذكية أُطلِق عليه اسم النوموفوبيا (Nomophobie)، وهو توليفة لغوية للعبارة الإنجليزية (No-Mobile Phobia) التي تصفُ رهاباً يتملك المرء من ألا يكون هاتفه مشغلاً وفي متناول يده.

في المقابل يُسهم الاستخدام المفرط للهاتف الذكي في ظهور هلوسات سَمعية وكذا التقاط إشارات زائفة يُعتقَد أنها صادرة عن الهاتف؛ إذ يظن البعض أنهم سمعوا ما يدل على اتصال واردٍ أو رسالة أو إشعار مع أن لا شيء أُرْسِل إليهم في واقع الأمر. تتكرر هذه الظاهرة المسببة للتوتر عند نحو نصف الأشخاص الذين خضعوا لهذه الدراسة بمعدل مرة كل أسبوع؛ كما أنها لُوحِظت بشكل أخصّ عند الأشخاص الرّاغبين في الشهرة إذ يعتبرون أدنى إشعار من هاتفهم الذكي مؤشراً على درجة شعبيتهم.

ترشيد الوجود الإلكتروني

بسبب ظهورها الحديث فمن المُبكر الحديث عن تصنيف هذه الإشكاليات ضمن الاضطرابات النفسية بشكلٍ رسمي؛ إذ لا تزال هذه الظواهر في حاجة إلى إشباعها تحليلاً ودراسة ومنحها الوقت الكافي للوقوف على أبعادها ومدى خطورتها. وإلى ذلك الحين، فإن الوعي بالمشكلات التي تسببها وترشيد وجودنا الإلكتروني يُعدان أولى الخطوات التي من شأنها أن تَقينا من الوقوع في فخ "الإدمان" والقلق اللذين تولدهما الهواتف الذكية والشبكات الاجتماعية.

يسمح التواصل الرقمي بإشباع العديد من الاحتياجات الوجودية والذاتية والاجتماعية التي لا تتأتى تلبيتها بسهولة في "الحياة الواقعية"، وهي احتياجات تأتي نتيجةً للنزعة الفردانية للمجتمع الذي يخلق مجموعة من الاحتياجات الجديدة النرجسية التي يعد الشباب والمراهقون أكثر عرضةً لها كسعيهم وراء الشهرة والشعبية؛ كما يُلحق بهم من جهة أخرى العديد من الإحباطات.

فكما يجد الطفل الصغير المُنفصِل عن أمه الأمانَ الضائع في دُميتَه التي يتعلق بها؛ ألا يُعد الهاتف الذكي بدوره بمثابة وسيلة تسمح بالتغلب على الإحباطات والآثار السلبية التي يخلفها المجتمع؟ ألا يُسهم وجود المرء متصلاً باستمرار مع أصدقائه، وحريته المطلقة في اختيار من يريد التواصل معهم على فضاءاتٍ كفيسبوك أو تويتر أو سناب شات، في استشعاره المزيد من الأمان العاطفي كما يحصل حين يكون في بيته؟ فمداومته على الاتصال، ولا سيما على الشبكات الاجتماعية، تُطمئنه بأن له قدماً راسخةً في المكان وتوهمه بأنه فاعل اجتماعياً بشكل رئيسي ومؤثر.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الاتصال الرقمي يمكّن المرء من الحصول على اعتراف الآخرين بوجوده عن طريق الإعجاب (لايك) وإعادة التغريد (ريتويت) والتي تُعد جميعها مؤشرات تُسهم في تلبية احتياجات شخصية واجتماعية ترتبط ببناء صورة قَيّمةٍ عن الذات. على الجهة المقابلة، يملأ هذا التواصل الدؤوب عند كبار مستخدمي هذه المنصات "فراغاً وجودياً" ويُعوض حياة اجتماعية واقعية غير مُرضية، فالاتصال الدائم يوفر للأشخاص الذين طفح بهم الكيل من حياتهم الواقعية مُحفزاً وتسلية؛ لكن مفعول ذلك يسري على المدى القصير فحسب.

ختاماً؛ تنبغي الإشارة إلى أنّ تمَتُّع المرء بحياة اجتماعية "حقيقية" يُفضي إلى قضاء وقتٍ أقل على شبكات التواصل الاجتماعي والذي بدوره يعني استثمار وقت أكثر في تطوير حياة اجتماعية "أفضل" في الواقع.

المحتوى محمي