يشهد العاملون في المجال البحثي على أهمية أثر العديد من السياسات التي تساهم في إحداث نقلة نوعية تطوّره وتحسّن مستقبله؛ ومنها ما ظهر مؤخراً بعد التبنّي المحدود لـ "سياسة العلم المفتوح" (Open Science).
وبالمجمل؛ يتضاعف دور وأثر بعض هذه السياسات بكل وضوح عندما تخوض البشرية جمعاء حالة من الترنّح أمام أحد التحديات الإنسانية الضخمة، أيّاً كانت؛ كأثر الجائحة الأخيرة على الخدمات الصحية، وعلى وجه الخصوص النفسية والعقلية.
فخلال السنتين الماضيتَين؛ استطاع العلماء النهوض بأبحاث فيروس "كوفيد-19" المستجد في وقت قصير في ظل تبنّي العديد من المراكز البحثية بمختلف مرجعياتها العلمية ومن مختلف أنحاء العالم لسياسة العلم المفتوح.
وحتى تتضح الصورة أكثر عمّا تعنيه سياسة العلم المفتوح، فهنا مثالان حقيقيان من الفترة الماضية نفسها يصفان لنا كيف قفز العلم الحديث سنوات ضوئية بشكل ملحوظ:
- تبنى العديد من الناشرين العلميين سياسة العلم المفتوح؛ ما ساعد في تحسين إدارة المرض والمرضى وتقليل الوفيات ومنع الإصابات الجديدة، حسب تعبير فريق بحثي من دول عديدة نَشَر دراسته في منصة "بايو ميد سنترال" (BMC) منتصف عام 2021.
- نُشِرَت أكثر من 125 ألف مقالة علمية متعلقة بـ "كوفيد-19" خلال 10 أشهر فقط من أول حالة مؤكدة؛ منها نحو 30 ألف مقالة كانت قد استضافتها خوادم ما قبل الطباعة النهائية (Preprint Servers)، حسب وصف دراسة حديثة نشرتها منظمة "پي إل أو أس" (PLOS) في عام 2021.
دعونا نتعمّق معاً أكثر في معنى العلم المفتوح ومن ثم نناقش أثره في الصحة النفسية.
ماذا نعني بمصطلح العلم المفتوح؟
يصف مصطلح العلم المفتوح إمكانية الوصول الكامل -دون عوائق- إلى المنشورات العلمية والبيانات من الأبحاث العامة والأبحاث التعاونية؛ حيث تعتمد بشكل كبير على تمكين تقنية المعلومات والاتصالات لذلك سواءً بالحوافز أو الأدوات، بحسب تعريف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).
وبحسب منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونيسكو" (UNESCO)؛ تستهدف تلك السياسة الإيجابية جعل العملية العلمية أكثر شفافية وشمولية ومتاحة للجميع، إلى جانب أنها مُمكِّن حاسم لتحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة ومُغيِّر حقيقي يساهم في سد فجوات العلم والتكنولوجيا والابتكار وتفعيل حق الإنسان في العلم.
الفوائد العامة لتبنّي العلم المفتوح
كما يخبرنا خبراء منظمة "اليونيسكو"، ففي البيئة العلمية والسياسية الحالية المجزأة، تزيد الحاجة إلى فهم عالميّ لمعنى العلوم المفتوحة وفرصها وتحدياتها من أجل تفعيلها بشكل عادل ومنصف على المستويات الفردية والمؤسسية والوطنية والإقليمية والدولية.
وبلا شك؛ تُعتبر زيادة إمكانية الوصول إلى المنشورات والبيانات العلمية الركيزة الأساسية في صميم سياسة العلم المفتوح؛ حيث تؤدي إلى توفير نتائج الأبحاث لأكبر عدد ممكن من الباحثين والمهتمين، كما يصف خبراء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).
وبذلك، فمن الممكن أن تظهر الفوائد العامة لتبنّي العلم المفتوح على أوسع نطاق؛ ومنها ما يلي:
- يُعزِّز استخدام عمليات أكثر دقة للتحقق من النتائج العلمية المنشورة؛ وذلك من خلال الجمع بين أدوات العلم وتقنية المعلومات. حيث يمكن تسريع عمليات البحث والاكتشاف العلمي لصالح الجميع، ومثال ذلك المتابعة المستمرة للتسلسل الجينومي لكوفيد-19.
- يُقلِّل من الازدواجية في جمع وإنشاء ونقل وإعادة استخدام المواد العلمية.
- يزيد الإنتاجية في ظل اتجاه العالم أجمع لتخصيص ميزانيات محدودة للبحوث العلمية.
- يُنتِج إمكانات ابتكارية ضخمة؛ ما يزيد من الاختيارات المتاحة للباحثين الآخرين والمهتمين بالأبحاث العامة.
- يعزز ثقة العامة في العلوم؛ ما يؤدي إلى زيادة مشاركتهم النشطة في التجارب العلمية المُحكَمة وعمليات جمع البيانات.
تبنّي سياسة العلم المفتوح في الصحة النفسية
بحسب هيلين سانتورو في مقالها لصالح الجمعية الأميركية لعلم النفس (APA) المنشور مطلع العام الحالي 2022، في علم النفس، لطالما كان العلم المفتوح محوراً ساخناً للنقاش لسنوات عديدة، حتى أتى "كوفيد-19" وجعلنا أكثر وعياً بأهميته.
فعلى سبيل المثال؛ برزت أدوات علمية مهمة مثل منصة "أو إس إف" (Open Science Framework) التي تعمل بشكل مجاني ومفتوح، لتوفِّر للباحثين والمجلات والمؤسسات القدرة على تقديم منشوراتهم العلمية حتى ما قبل الطباعة النهائية.
بالإضافة إلى ما سبق، فيستطيع جميع من سبق ذكرهم مشاركة ملصقاتهم العلمية البحثية؛ ما يُعزِّز من عمليات البحث العلمي من خلال السماح للعلماء جميعاً بإعادة تحليل تلك البيانات المنشورة والتحقق مما إذا كانت الدراسات السابقة تحمل نتائج قابلة للتكرار.
وفي ضوء ما سبق، فلا يؤدي هذا إلى زيادة شفافية البحث فحسب؛ بل يؤدي أيضاً إلى زيادة التعاون بين جميع أطياف المجتمع العلمي. ويؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى زيادة قوة البيانات وتعزيز دورها في تسريع الابتكار.
هل كل شيء إيجابي في العلم المفتوح؟
بطبيعة الحال لا. تخبرنا سانتورو في مقالها أن سوء السلوك العلمي الذي يحدث في مجال الطب النفسي لا يمكن تجاهله، كما لا يمكن تضخيمه.
فعلى سبيل المثال؛ وجدت إحدى الدراسات أن ما بين 0.6% و2.3% من علماء النفس قد اعترفوا بتزوير البيانات، وبين 9.3% و18.7% شَهدوا قيام باحث آخر بذلك.
في المقابل، يتحدث الدكتور بريان نوسيك؛ مؤسس ومدير تنفيذي لمركز العلوم المفتوحة في شارلوتسفيل بولاية فرجينيا، من المقال ذاته عن العلم المفتوح، ويخبرنا أن تبنّيه يجعل بعض السلوكيات الاحتيالية متعبة أكثر ويُسهِّل من عملية اكتشافها.
وفي حالة حديثة نُشرت فيها بيانات خاطئة؛ كان العلم المفتوح سبباً في تمكين باحثين آخرين من تحديد تلك المشاكل في مجموعة البيانات بعد نَشرِها على منصة (OSF).
وبالمثل؛ لاحظ الباحثون في المعاهد الوطنية الأميركية للصحة في دراسة نُشِرَت عام 2018 زيادة معدلات مشاركة البيانات في الدراسات المنشورة من 2014 إلى 2016 في مجلة (PLOS ONE).
وفي عام 2019، في تقرير علمي حمل عنوان "صعود العلم المفتوح في علم النفس، تقرير أولي"، وجد الباحثون أن أكثر من ثُلث عينة بحثية بلغت نحو 1,987 شخصاً من أعضاء هيئة التدريس المختصين في أبحاث المسار الوظيفي، وقد درسوا في قسم علم نفس واحد كان لديهم حسابات بمنصة (OSF).
في الختام، من المهم جداً أن يعي الجميع أهمية هذه السياسات ومدى الإمكانيات التي توفّرها لجميع أصحاب المصلحة، ولا ينسوا أثر الفوائد العامة لتبنّي العلم المفتوح التي بلا شك سوف تنعكس بوضوح على مستوى الصحة العامة، والأهم؛ النفسية والعقلية.
إضافة إلى ما سبق؛ تشمل الفوائد العامة لتبنّي العلم المفتوح تحسين تجربة ونتائج المهتمين بالمجال العلمي البحثية، وخصوصاً المختصين في الصحة النفسية؛ ما يعجُّل بضرورة تبنيها من خلال البدء بالاستثمار في منصاتها وكتابة سياساتها التشريعية ليزدهر العلم.