إذا كان تأويل الأحلام هو مفتاح أغوار النفس والسبيل لفهم رغباتنا الدفينة، فكيف نفسِّر ما يحصل لعدد لا يستهان به من الأشخاص بعدم رؤية الأحلام أو نسيانهم أحلامهم فور استيقاظهم؟
قد تبدو عوالم الأحلام ضبابية بلا حدود واضحة، غير أنها بمثابة رموز مفتاحية كاشفة للنفس، وقد صار تأويل الأحلام بسبب مؤسس مدرسة التحليل النفسي فرويد (Freud) أداة لا غنى لها لاستكشاف اللاوعي وفهمه. حين يعمد الدماغ في اللحظة التي يستسلم فيها الجسد للنوم إلى تشييد عالم افتراضي أساسه الصور والأحاسيس، لا يسعنا ونحنُ ندخله إلا اعتباره واقعاً معاشاً لا مجرد أضغاث أحلام، غير أن ثمة أنواعاً متباينة للحالمين؛ فبينما نجدُ من "يعيشُ حلمَه" إلى آخر رمق، فيتكلم ويتحرك بل وقد يصرخ ويبكي في أثناء حلمه، نجد آخرين يقفون على طرف النقيض من ذلك ويدّعون أنهم لا يحلمون البتة! وهذه الظاهرة التي تلمس ما يقارب 3% من ساكني العالم، ما هي في حقيقة الأمر سوى اعتقاد شائع! ذلك أننا جميعاً نغرق في عالم الأحلام بلا استثناء. وللتمكن من شرح هذه الفكرة الشائعة، قامت طبيبة الأعصاب ورئيسة قسم النوم في مستشفى لا بيتيي-سالبيتريير؛ إيزابيل أرمولف (Isabelle Arnulf) بدراسة اضطرابات النوم. إذ قادت في معهد الدماغ (ICM) دراسة لتحديد موطن الخلل في حالة "عدم الحلم" هذه؛ مستعرضةً بالتفصيل الفرضيات التي تدحض وفقاً لها ادعاء البعض أنهم لا يرون أحلاماً في أثناء نومهم.
اضطرابات في الذاكرة
ولتفسير هذه الظاهرة؛ ارتكزت أولى الفرضيات على احتمالية وجود مشاكل متعلقة بالذاكرة نفسها. وللتحقق من هذه النظرية، عمدَ الباحثون في معهد الدماغ لإخضاع المرضى إلى بطارية اختبارات إدراكية لفحص عمل الذاكرة. غير أن النتائج التي حصلوا عليها أفادت بـ "تمتّع المشاركين بالمستوى نفسه من حيوية الذاكرة التي لدى الأشخاص الذين يتذكرون أحلامهم وكذلك يتوفر لديهم النمط الإدراكي نفسه". ما قاد إلى إسقاط فرضية اضطرابات الذاكرة.
ضعف في المخيلة
وبعد استبعاد عامل الاضطرابات الإدراكية، عمد فريق الدكتورة إيزابيل أرمولف إلى استعراض وظائف الدماغ المرتبطة بالتصور الذهني (التخيّل). وعطفاً على ذلك؛ جاء في معرض البيان الذي أصدره معهد الدماغ :"تحقق الباحثون من قدرة هؤلاء الأشخاص على التخيل الذهني، إذ نجحوا في تخيل شكل برج إيفل أمامهم وهم مغمضو الأعين". وبالتالي فقد تم استبعاد هذه الفرضية بدورها. إذ ساق التقرير تشخيصاً واضحاً مفاده: "لا أثر لوجود أي نوع من العمَه البصري "أفانتزيا" (Aphantasia)". والأفانتازيا عبارة عن حالة اضطراب عصبي نادر يتمثل في عدم القدرة على تخيّل صورة ذهنية لأي شيء.
عدم القدرة على رؤية الأحلام أم عدم القدرة على تذكرها؟
وقف الباحثون بعد ملاحظة سريرية لنوم المشاركين؛ على وجود تصرفاتٍ ومحاكاة تخيلية تؤكد بوضوح أن هؤلاء الأشخاص الذين يدّعون عدم رؤيتهم أيّ حلم في أثناء النوم، هم في واقع الأمر يحلمون كغيرهم من الناس. وقد ذكر التقرير أن: "بعضهم يحلم أنه في خضم عراك دامٍ فيما بعضهم الآخر يرى أنه يتناول طعاماً، وقد كانت هذه الأحلام مجسدة عن طريق حركاتٍ وتصرفات يسهل على الرائي أن يلاحظها عليهم، ومع ذلك فقد خابت مساعي هؤلاء الأشخاص جميعهم في استرجاع وتذكر هذه الأحلام بعد الاستيقاظ على الرغم من أنها حصلت في فترة نوم الحركة السريعة".
أحلام غير محفوظة
وقد خلص الباحثون بعد تمحيص طويل إلى وضع الأصبع على السبب الحقيقي الذي يقف خلف هذا النسيان، والذي يكمن في عدم تثبيت وتسجيل الحلم في الذاكرة خلال رؤيته. إذ أكد معهد الدماغ بأنه: " تقتضي الخطوة المقبلة لهذه الدراسة؛ مقارنة أنشطة الدماغ عند "غير الحالمين" بأنشطة دماغ "الحالمين" وذلك بمساعدة التصوير الوظيفي للدماغ. إذ من شأن هذه الخطوة أن تساعد على فهم ما يجري داخل الدماغ في أثناء الحلم وتقديم صورة مقربة حول عملية تثبيته وتسجيله في الذاكرة. بالإضافة إلى إنجاز دراسة أخرى تنطلق من فرضية أن المشكلة ليست في تسجيل الحلم بل في عملية تذكّره نفسها، وذلك من خلال تقديم مجموعة من العلامات والإشارات للأشخاص الذين يدّعون عدم رؤيتهم للأحلام، مقتطعةً من مقاطع فيديو مسجلة لهم في أثناء نومهم وهم يتفوهون بكلمة معينة أو يُقدِمون على فعل أو حركةٍ ما، ورؤية إلى أي مدى باستطاعة ذلك أن يساعدهم على التذكّر". كما ختم معهد الدماغ تقريره بالقول إن البشر جميعهم سواء حين يتعلق الأمر بالقدرة على رؤية الأحلام؛ غير أن الاختلاف أو ربما التعقيد يكمن في طريقة تجميع دماغنا للأحلام وتخزينها وقدرته على عدم إشراك الذاكرة في هذه العملية.