إن تأثير إخوتك وأخواتك في حياتك اليوم من خلال ما تشاركتموه معاً في مرحلة الطفولة هو أكبر وأعمق بكثير مما تتخيل؛ إذ إن هذه العلاقة التي تقوم على التنافس والتآلف في آن معاً هي المسؤولة عن بناء هويتك.
في حديث معها مؤخراً، قالت الفيلسوفة ومختصة العلاج الأسري نيكول بريور إن تأثير أشقائنا في بناء شخصياتنا أكبر بكثير من تأثير آبائنا. وكانت ملاحظتها هذه مفاجئة لنا في البداية؛ إذ إننا اعتدنا في التحليل النفسي دراسة حالة الفرد عبر البحث في تاريخ عائلته ضمن مسار رأسي؛ أي تتبع أصوله (الأب والأم والأجيال السابقة)، وتحديد ما انتقل إليه منهم أو حُجب عنه . لكن المختصة أوضحت لنا هذه الفكرة أكثر في النقاش التالي، فهي ترى أن هوية الفرد تُبنى أيضاً من خلال المسار العائلي الأفقي؛ أي علاقته بأشقائه بصرف النظر عن ظروف هذه العلاقة. هنالك قواسم مشتركة بين الأشقاء ويحمل كل منهم في نفسه جزءاً من الآخر، وحتى لو فرقتهم الحياة فإنهم يستمدون نظرتهم إلى العالم من حولهم من "الرابطة الأخوية".
تقول لبنى ذات الـ 41 عاماً: "أنا وأختي لا ننسجم مطلقاً فأذواقنا ورغباتنا مختلفة. وكلما تحدثنا معاً تحول حديثنا إلى جدال؛ ولكن رغم ذلك فأنا هي وهي أنا وكأننا وجهان لعملة واحدة". يوضح سالم ذو الـ 34 عاماً أنه لا يحب الاجتماعات العائلية كثيراً ويقول: "أنا لا أحب الاجتماعات العائلية حيث يجد المرء نفسه مضطراً لمراقبة سلوكه في حضور الآباء، إضافةً إلى المواقف المحرجة التي قد تتخللها ونعجز عن التعامل معها، والأطفال الذين يركضون هنا وهناك، أجد كل ذلك مزعجاً حقاً. أفضّل أن أجلس مع إخوتي وأخواتي تماماً كما كان الحال عندما كنا صغاراً؛ حيث كنا نحن الخمسة معاً فقط". تصف العائلة سالم بأنه شخص ذو كيان مستقل، وكان أشقاؤه يولونه رعايةً واهتماماً كبيرَين في مرحلة الطفولة.
أدى تركيز فرويد على عقدة أوديب التي تتلخص برغبة الطفل في الإطاحة بوالده من الجنس نفسه، والاستحواذ على الوالد من الجنس الآخر، إلى النظر إلى العلاقة الأخوية من زاوية تنافسية فقط. تقول مختصة التحليل النفسي اليونغي ماري لوري كولونا: "بخلاف التنافس؛ تمثل علاقة الأشقاء هوية جمعية كما أنهم يتشاركون اللاوعي ذاته". ويرى الأخوة علاقتهم قبل الانفصال عن بعضهم بعضاً، ككل واحد لا تمايز فيه.
الرابطة الأخوية تنشأ من رحم الأم
ينظر كارل يونغ إلى العلاقة بين الأخ والأخت على أنها اقتران الأضداد، والنموذج الأصلي لاتحاد الذكر والأنثى. تقول كارول فيف في كتابها "حيواتنا التي تبدو كفيلم مثالي" (Que nos vies aient l’air d’un film parfait): "نحن مثل تلك الكائنات الهجينة التي تكلم الفلاسفة عنها؛ والتي يكون نصفها ذكراً ونصفها الآخر أنثى، ولحظة أن تجرأت على مهاجمة الآلهة فُصلت إلى نصفين". وتصف الكاتبة شقيقها الذي حُرمت منه بعد طلاق والديها بأنه الجزء المفقود منها، فتقول: "أبحث عنك في أفلام السينما والكتب وابتسامات أصدقائي وأعين أحبائي يا أخي الصغير"
لكن ما الذي يجعل هذه العلاقة قويةً إلى هذا الحد؟ تجيب عن هذا السؤال مختصة علم النفس الإكلينيكي ومؤلفة كتاب "إخوة وأخوات، الكل يبحث عن مكانه في الحياة" (Frères et Sœurs, chacun cherche sa place)، فرانسواز باي فتقول: "لأن هذه العلاقة تعود إلى فترة زمنية غابرة؛ حيث خاض الأشقاء هذه التجربة الأولية المتمثلة في الخروج من الرحم ذاته، وهو أول "مكان" نشأت فيه الرابطة الأخوية. يصور الإخوة والأخوات أجسادهم بطريقة خيالية على أنها نسخ مكررة من الجسد ذاته، ويعزز هذه الفكرة التشابه في الصفات الجسدية بينهم، وهو الأمر الذي يعتزون وآباؤهم به. يقول مجدي عن علاقته بأشقائه: "نحن فخورون بأننا أشقاء ومتشابهون. أتذكر كيف كنا نجلس نحن الستة في سيارة أبي العائلية في الخلف، صبيّان وأربع فتيات؛ لقد كان أمراً رائعاً".
على الرغم من تأثير الأشقاء الكبير في عمق هوية الفرد؛ بما في ذلك تأسيس النرجسية الصحية لديه، فإن الرابطة الأخوية لا تعني بالضرورة الانسجام بين الإخوة والأخوات. يقول فرويد في كتابه تفسير الأحلام (The Interpretation of Dreams) :"لا أعلم لمَ نفترض مسبقاً أن علاقتهم يجب أن تتسم بالمودة". نسمع جميعاً عن "الإخوة الأعداء"، وفي أغلب الأحيان نجد أن هذا العداء قد بدأ بينهم في مرحلة الطفولة، وقد يستمر إلى الأبد أيضاً. علاوةً على ذلك فإن الكثير من الراشدين الذين يحبون إخوتهم وأخواتهم اليوم، كانت علاقتهم بهم في مرحلة الطفولة عبارة عن نزاعات مستمرة.
غيرة لا بد منها
تبدأ المشكلة مع قدوم طفل ثانٍ؛ الحدث الذي يعد مصدر حزن لأخيه الأكبر الذي فقد تفرّده، وكما يقول فرويد: "فهو يقدّر الضرر الذي سيسببه هذا الدخيل الصغير له". وبسبب الحب الذي يبديه الوالدان تجاه المولود الجديد؛ يشعر الولد الأكبر بالغيرة والكراهية تجاهه حتى أنه قد يعبر صراحةً أحياناً عن رغبته في موته. يتمحور التنافس بين الأشقاء حول الظفر بحب الوالدين ومع ذلك؛ توضح ماري لوري كولونا أن حالة التنافس هذه قد لا تستمر بالضرورة. وفي كل الأحوال لا يمكن تجنب هذه التجربة غير المرغوبة لأن الغيرة هي العملية التي يتعلم الطفل من خلالها تمييز نفسه عن إخوته وأخواته من خلال مقارنة نفسه بهم؛ ما يسمح له بتحديد هويته. وجدير بالذكر أن هذه المهمة ستكون أكثر صعوبة عندما يكون الأشقاء من الجنس ذاته وثمة تقارب عمري بينهم .
صاغ عالم النفس الفرنسي جاك لاكان عبارةً مزج فيها بين الحب (Amour) والكراهية (Haine) وهي (Hainamoration)، ويشير هذا التمازج إلى رفض الفرد الاندماج مع من يحبه. تقول نجوى عن علاقتها بشقيقتها: "تنشب بيننا نزاعات في بعض الأحيان لكننا نحب بعضنا بعضاً كثيراً رغم ذلك". ولكن إذا اتسمت العلاقة بين بعض الإخوة بحب كبير، فإن العلاقة بين آخرين قد يشوبها الكثير من الأحقاد، فتتسم بالفتور في أحسن الأحوال بينما قد تنطوي على عنف كبير في حالات أخرى، وتخبرنا قصة قابيل وهابيل كيف يمكن للفرد أن يشعر بفقدان تفرده وهويته أحياناً في ظل وجود شقيقه.
يوضح نادر ذو الـ 33 عاماً وهو الأكبر بين 3 أولاد، صبيّان وفتاة، أنه يأسف لعدم تدخل والديه في الخلافات التي كانت تنشب بينه وبين إخوته عندما كانوا صغاراً، ويقول: "لطالما تعاركنا بالأيدي وكنا في حالة تنافس دائم، وكان والدانا يعتقدان أن ذلك يزيد من صلابتنا. سيطرت على أخي الأصغر رغبة دائمة في التغلب عليّ؛ ما حدا به إلى تكرار هذا السلوك بصورة مستمرة في علاقاته مع الآخرين".
العلاقات الاجتماعية انعكاس للعلاقات الأخوية
تقول كوثر ذات الـ 39 عاماً: "لطالما افتخر والدانا بالمساواة تماماً بيننا، فقد كانا يحضران لكل منا الهدية ذاتها كما كان لكل منا أيضاً الحقوق ذاتها. وفي الحقيقة كانت هذه المساواة بالنسبة إلينا شكلاً من أشكال الظلم بسبب اختلافنا في العمر والأذواق أيضاً. وبسبب حاجتنا إلى تمييز أنفسنا عن بعضنا بعضاً انتهى بنا الأمر إلى الافتراق". أما سمر فتوضح أنه رغم حبها الكبير لشقيقتها فإن والديها كانا يتعاملان معهما بطريقة مختلفة، وتقول: "كان والدانا يتعاملان معنا على أساس شكلنا فأنا كنت الفتاة الجميلة التي لم تحظَ باهتمام كبير، بينما كانت شقيقتي في نظرهما الفتاة المسكينة التي تحتاج إلى اهتمام أكبر. ومع استمرار هذا الحال كانت كل واحدة منا تشعر بأن الأخرى تحرمها من شيء ما. وقد امتد هذا الأمر ليطال علاقاتي الاجتماعية فأصبحت أخاف على الدوام من أن أحرم أحداً شيئاً ما حتى دون أن أعي ماهية هذا الشيء".
وتؤكد ماري لوري كولونا قائلةً: "تمثل علاقاتنا الاجتماعية إسقاطات غير واعية لما مررنا به في علاقاتنا بأشقائنا". تبنى العلاقات الاجتماعية على العلاقة الأخوية لا سيما من خلال اللعب. وتوضح فرانسواز باي قائلةً: "يعيش الطفل من خلال اللعب أعظم أفراحه وأكبر صراعاته في الوقت ذاته".
ويقوده كل نجاح أو فشل في أثناء اللعب إلى مراجعة موقفه واستراتيجياته التي سيستخدمها أيضاً كراشد في حياته الاجتماعية والمهنية. تقول سارة ذات الـ 40 عاماً، وترتيبها الثانية بين شقيقاتها الأربع أنها تجد صعوبة في التعامل مع زملائها في العمل، بينما تبني علاقات قوية مع زميلاتها وتتلاحم معهن في "مواجهة الإدارة".
كيف يؤثر ترتيب الفرد بين أشقائه في حياته؟
تقول فرانسواز باي: "في المستشفى كنت دائماً أستمتع بمحاولة تخمين ترتيب زملائي بين أشقائهم". كذلك يرى مختص العلاج التجانسي، السويسري إنغو شنايدر أن النهج الذي نتبناه في علاقاتنا يتوقف على ترتيبنا بين أشقائنا، ويوضح أنه لاحظ خلال مسيرته الطويلة كطبيب أسرة أوجه التشابه الكبيرة، ليس فقط في المفردات التي يستخدمها الآباء لوصف الأطفال ذوي الترتيب ذاته؛ ولكن أيضاً في الأمراض التي تظهر لديهم في مرحلتيّ الطفولة والبلوغ. قبله بفترة طويلة، أسس مختص التحليل النفسي النمساوي، المنشق عن فرويد، ألفريد أدلر نظريته عن "التعويض" من خلال ملاحظة الديناميكيات الأخوية. افترض أدلر أن "غريزة الهيمنة" هي غريزة أساسية مثل الرغبة الجنسية في النظرية الفرويدية، وأكد أن الأفراد الذين عانوا من الشعور بالدونية بسبب تنحية أشقائهم لهم قد ظهرت لديهم سلوكيات مزمنة مثل جنون العظمة، والنزعة الانتصارية أو الميل إلى تشويه سمعة الآخرين أو حتى البحث الدائم عن أعذار للتعويض عن ضعفهم سواء كان هذا الضعف حقيقياً أو متخيلاً .
تقول ماري لوري كولونا: "من الممتع أيضاً معرفة ترتيب الزوجين بين أشقائهم". توضح سمية ذات الـ 44 عاماً أن علاقتها بزوجها تستند إلى حد كبير إلى حقيقة تعلق أخته الصغيرة الشديد به، وتقول: "نحن نفهم بعضنا بعضاً. من النادر أن أرى شخصاً ترتيبه الأكبر بين أشقائه يرتبط بمن هو أصغر أشقائه". وتوضح مختصة التحليل النفسي أن ذلك يرجع إلى عدم الرغبة في تكرار "العلاقة ذاتها". .
يمثل كل واحد من أشقائنا قصة مختلفةً بالنسبة إلينا، وعلى الرغم من المِحن التي قد تتخلل علاقتنا بهم فإن هذه الرابطة تعرفنا إلى الحياة بأحزانها وأفراحها وتقلباتها والهِبات التي تمنحنا إياها، وتساعدنا على إيجاد مكاننا في هذا العالم وتشجعنا على الانفتاح على الآخرين. يقدم لنا أطفالنا الفرصة لنعيش مشكلاتنا الأخوية مجدداً، وأتمنى أن نتمكن من مساعدتهم على عَيش مشكلاتهم الأخوية كتجارب مثرية.