هل سبق لك أن دخلت مكاناً مألوفاً، أو شممت رائحة عابرة، أو سمعت لحناً معيناً، وشعرت فجأة بتقلصات في معدتك أو تسارع في دقات قلبك؟ الحقيقة أن أحد أسباب حدوث هذه الأعراض الجسدية هو التعرض للصدمة النفسية في الماضي، ومن ثم فالمكان المألوف والرائحة العابرة هي محفزات لتلك الصدمة؛ وحين تمر بحدث مؤلم قد يحاول العقل نسيانه، ولكن الجسم لا ينسى.
محتويات المقال
وفي سياق متصل، أكدت دراسة بحثية أجرتها جامعة أوكلاهوما بالولايات المتحدة (University of Oklahoma) ونشرتها مؤسسة كامبريدج يونيفرسيتي برس (Cambridge University Press) في يناير/كانون الثاني 2025، أن الناجين من تفجير مدينة أوكلاهوما عام 1995 يحملون آثاراً فيزيولوجية للصدمة على الرغم من أن المشاركين في الدراسة عاشوا حياة صحية ومرنة. فكيف يخزن الجسم الصدمات النفسية؟ وما هي الطرق الممكنة للتعامل مع التخزين البيولوجي للصدمات؟ الإجابة عبر هذا المقال.
العلم يقول: جسدك لا ينسى الصدمات النفسية التي تعرض لها في الماضي
كشفت الدراسة البحثية السابق ذكرها عن الآثار طويلة المدى للصدمات النفسية التي عانى منها الناجون من تفجير مدينة أوكلاهوما عام 1995، إذ يحملون علامات جسدية للصدمة تعكس تجاربهم المُروعة، على الرغم من عيشهم حياة صحية بعد حادث التفجير.
وشارك في هذه الدراسة 60 شخصاً من الناجين المتأثرين بشدة من تفجير مدينة أوكلاهوما، وخضعوا للمقارنة بمجموعة من السكان المحليين الذين لم يتأثروا بالتفجير، وتجدر الإشارة إلى أن المشاركين في الدراسة جميعهم كانوا يمارسون حياتهم اليومية على نحو طبيعي، وتبين من نتائج الدراسة أن الناجين من التفجير يعانون ارتفاعاً في مستويات هرمون الكورتيزول وفي ضغط الدم، علاوة على ارتفاع مؤشرات الالتهاب.
وقد أكدت المؤلفة الأساسية للدراسة، وأستاذة الطب النفسي في كلية الطب بجامعة أوكلاهوما، فيبي تاكر (Phebe Tucker) أن الخلاصة الرئيسة من الدراسة هي أن العقل قد يكون مرناً وقادراً على تجاوز الأحداث الصادمة، لكن الجسم لا ينسى؛ بل يبقى متيقظاً ينتظر الحدث التالي. وفي سياق متصل، تشرح الباحثة المشاركة في الدراسة وأستاذة الطب النفسي بجامعة أوكلاهوما، ريتشيل زيتل (Rachel Zettl) أن التعرض لصدمة شديدة يؤثر بشدة في أنظمتك البيولوجية، وقد تغير الصدمة كيانك الجسدي بالكامل.
اقرأ أيضاً: كيف تغير الصدمات النفسية بنية دماغك وردود فعلك؟
كيف يُخزّن جسمك الصدمات النفسية ويتذكرها؟
يمكن تعريف الصدمة النفسية (Trauma) على أنها الأحداث المؤلمة التي تمر بها، مثل التعرّض إلى الاعتداء أو سوء المعاملة أو حادث سيارة، وغالباً ما تؤثر هذه الأحداث في صحتك النفسية والجسدية. وتوضح المختصة النفسية، ليا أغيري (Leah Aguirre) أن الصدمات النفسية غير المعالجة تؤدي إلى تحفيز مفرط في اللوزة الدماغية، وهي الجزء من الدماغ المسؤول عن الاستجابة للقتال أو الهروب أو التجميد، ما يسبب زيادة مستوى هرمونات التوتر في الجسم، مثل الكورتيزول، ويولّد شعوراً كامناً بالتوتر معظم الوقت.
وهذا يعني ببساطة، أنك ستكون غير قادر على الاسترخاء، مهما حاولت، حتى لو كنت تعلم أنك بأمان فجسمك يقنعك بخلاف ذلك، وفي هذه الحالة سوف تجد صعوبة بالغة في إقناع نفسك بالهدوء لأن الجزء المسؤول في دماغك عن التفكير العقلاني والتنظيم الذاتي يكون مُعطّلاً عن العمل. تشرح أغيري أنه في حالة التعرض للصدمات النفسية تنشط اللوزة الدماغية، ما يعني أن الوصول إلى الفص الجبهي المسؤول عن الوظائف التنفيذية في الدماغ يكون محدوداً؛ فأنت تركز فقط على بقائك وسلامتك ما قد يُصعّب عليك التفاعل مع العالم بوعي وأسلوب مدروس.
ويمكن القول إن الصدمة النفسية تُخلّ بتوازن الجسم، لأن التوتر يُحفّز الجهاز العصبي بشدة، ما يُشوّه استجابة القتال أو الهروب الطبيعية ويترك الفرد في حالة من اليقظة المفرطة الدائمة، ومع مرور الوقت، يُمكن أن يتداخل هذا مع التنظيم الهرموني ويُعيق الهضم ويُضعف جهاز المناعة.
ويعتقد الطبيب النفسي، ومؤلف كتاب "جسمك يتذكر كل شيء" (The Body Keeps The Score) بيسل فان دير كولك (Bessel van der Kolk) أن الخوف المزمن جراء التعرض للصدمات قد يُؤدي إلى توتر العضلات المُستمر الذي يسبب بدوره تشنجات وآلاماً في الظهر وصداعاً نصفياً وألماً عضلياً ليفياً وأشكالاً أخرى من الألم المُزمن، وما لم تعالج الصدمة فسيستمر دوران هرمونات التوتر التي يفرزها الجسم لحماية نفسه من الخطر، وتتكرر الحركات الدفاعية والاستجابات العاطفية التي تنتمي إلى الحدث الصادم الماضي.
كيف يربط الجسم الصدمة النفسية بالمدخلات الحسية؟
تشبه اللوزة الدماغية مركز الخوف في الدماغ، ويمكن اعتبارها مؤرشف الصدمات، إذ تُخزّن المدخلات الحسية مثل الروائح والأصوات والتواريخ المرتبطة بأحداث الماضي. وحتى مع مرور الكثير من السنوات، يمكن لهذه المحفزات أن تُسبب ردود فعل جسدية لا إرادية، مثل التعرق وتسارع نبضات القلب والشعور بالغثيان. وبالنسبة لشخص يعاني صدمة نفسية لم تُعالَج، فإن دخول غرفة أو سماع صوت معين قد يُشعره بالعودة إلى الخطر بغض النظر عن مدى أمان المكان.
على سبيل المثال، يمكن لتاريخ معين أن يُذكّرك بفقدان أحد أفراد أسرتك، أو رائحة معينة تجعلك تتذكر والدك الذي كان يعاملك بقسوة، وفي هذه الحالة قد تصاب بالذعر أو الحزن الشديد وكأن الصدمة حدثت للتو؛ فهذه المُحفزات الحسية تتجاوز عقلك المنطقي وتُنشّط الجهاز الحوفي، وهو الجزء المسؤول عن العواطف وغرائز البقاء في الدماغ.
اقرأ أيضاً: دليلك لتعزيز مرونتك النفسية ضد الصدمات
9 علامات تخبرك أن جسمك يُخزّن صدمة نفسية
يمكن أن تُغيّر الصدمة طريقة عمل دماغك، وحتى لو حجب عقلك تجربة صادمة فجسمك يتذكرها. ولكن كيف تعرف إذا ما كانت لديك صدمة مُخزّنة في جسمك؟ انتبه للأحاسيس والأعراض الجسدية، التي تشمل ما يلي:
- ألم مزمن في العضلات
- مشاكل هضمية مثل متلازمة القولون العصبي أو ارتجاع المريء
- الإحساس بالإرهاق الدائم وانخفاض الطاقة
- الشعور بالصداع
- نزلات البرد والتهابات متكررة
- الأرق
- العصبية والارتعاش
- برودة اليدين أو القدمين أو تعرقهما
- صرير الأسنان
وفي الغالب، تكون هذه الأعراض الجسدية طريقة جسمك لإخبارك أن "هناك بعض الأمور التي لم تُحل بعد". تضيف المختصة النفسية، خلود محمد، بعض العلامات الأخرى التي تؤكد أنك ما زالت عالقاً في آثار الصدمة، ومن أهمها نقص الدافعية والكسل أو الثقل النفسي تجاه المهام اليومية، بالإضافة إلى تكرار سلوكيات الإرضاء المفرط للآخرين على حساب الذات واضطرابات النوم أو رؤية الكوابيس.
6 إرشادات تساعدك على تحرير جسمك من آثار الصدمات النفسية
يمكن أن تُخزَّن الصدمة في مناطق مختلفة من الجسم، وخاصةً في العضلات والأنسجة، بالإضافة إلى القلب والرئتين والجهاز الهضمي، علاوة على الدماغ. وإليك أهم الإرشادات التي تساعدك على تحرير جسمك من الصدمات النفسية:
1. اعترف بمشاعرك
تجنب المشاعر السلبية والمؤلمة لا يُزيلها، بل يُبعدها مؤقتاً وقد يؤدي إلى تفاقمها، لذلك حاول الاعتراف بمشاعرك والتعبير عنها للتخلص من الصدمات النفسية. وتذكر أن تُصدّق مشاعرك وتعترف بها، حتى التي لا تُحبها، وكن فضولياً تجاهها واستكشف طرقاً صحية للتعبير عن نفسك.
اقرأ أيضاً: الطفل الذي عانى الصدمات قد يكون أكثر إبداعاً!
2. مارس تمارين اليقظة الذهنية
اليقظة الذهنية هي أن تعيش اللحظة الحالية، وأن تلاحظ الأفكار التي تخطر ببالك، ثم تسمح لها بالرحيل. يوضح الطبيب النفسي ومؤلف كتاب "جسمك يتذكر كل شيء" بيسل فان دير كولك، أن ممارسة اليقظة الذهنية تساعد على تخفيف الأعراض النفسية والجسدية المُرتبطة بالتوتر والاكتئاب والألم المُزمن، ما يؤدي إلى تحسين الصحة الجسدية، بما فيها الاستجابة المناعية وضغط الدم ومستويات الكورتيزول.
3. اعتنِ بنفسك جيداً
إذا كنت تعاني أعراضاً مرتبطة بالصدمة، فإن العناية بالنفس بالغة الأهمية؛ لأنها تساعدك على تقليل الأعراض المزعجة وتهدئة العقل والجسم. على سبيل المثال، جرب التنفس العميق وتناول الطعام بوعي، واحرص على الحصول على قسط كاف من الراحة. ومع مرور الوقت، ستعزز كل هذه الخطوات عملية تنظيم جسمك وجهازك العصبي.
4. دوّن يومياتك
يُمكن أن يكون تدوين اليوميات، أو حتى استخدام مُذكّرات صوتية، وسيلةً للتعبير عن مشاعر لم تكن قادراً على التعبير عنها لحظة تعرضك للصدمة النفسية، ومن المهم مُلاحظة أن تدوين اليوميات قد يكون مُسبباً للضيق العاطفي، لذلك حدد وقتاً معيناً من أجل التدوين والتواصل مع جسدك ومشاعرك، ثم خذ استراحة قصيرة إذا شعرت بالضيق. وحاول قدر الإمكان تدوين اليوميات مع محفزات إيجابية مثل صوت الموسيقا.
5. مارس الأنشطة الإبداعية
تتيح لك ممارسة الأنشطة الإبداعية والفنية، مثل الرسم والنحت، التعبير عن مشاعرك. على سبيل المثال، تساعدك الموسيقا على التخلص من التوتر، بينما يشجع الرقص والحركة على التعبير عن مشاعرك، ويمكن القول إن هذه الأنشطة الإبداعية توفر وسيلة غير لفظية لمعالجة الصدمات، وهو أمر مفيد خصوصاً لمن يجدون صعوبة في التعبير عن مشاعرهم تجاه تجربة مؤلمة.
6. اطلب المساعدة من الطبيب النفسي
على الرغم من أن هناك العديد من الطرق التي يمكن من خلالها التخلص من الصدمة والتعافي منها، فطلب المساعدة من الطبيب النفسي المتخصص مهم جداً في كثير من الأوقات. قد يلجأ طبيبك النفسي إلى:
- العلاج السلوكي المعرفي (CBT): نهج من العلاج بالكلام يهدف إلى تحديد أنماط التفكير السلبية وتغييرها إلى أخرى إيجابية، ما يُعزز استجابات وآليات تكيف صحية.
- إزالة حساسية حركة العين وإعادة المعالجة (EMDR): هو علاج للصدمات النفسية يتضمن استرجاع حدث مرهق في الماضي، وإعادة برمجة الذاكرة في ضوء اعتقاد إيجابي جديد، باستخدام حركات العين السريعة.