التحديق في أعين الآخرين وحل المسائل الرياضية: 10 خرافات عن التوحد وتصحيحها

5 دقيقة
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: يشكل اضطراب طيف التوحّد لغزاً من ألغاز الاضطرابات العصبية التي تحيط بها الكثير من الأفكار المسبقة والصور النمطية والمغالطات. فعلى الرغم من انتشار الوعي وتزايد الحملات التحسيسية، ثمة تضليل مؤثر يربك المجتمع ويعوّق تقبّل هذا الاضطراب ومتابعته بما يلزم من الرعاية الاجتماعية أو العناية الإنسانية اللازمة. فما أهم هذه المغالطات والصور النمطية؟ إليك الإجابة في المقال التالي.

يصادف يوم 2 أبريل/نيسان اليوم العالمي للتوعية باضطراب التوحّد. ويشكّل هذا اليوم فرصة لدحض بعض الصور النمطية والتّذكير بالحقائق والمغالطات المحيطة به. تفترض هذه الصور النمطية على سبيل المثال أنّ الفرد لا يمكن أن يكون مصاباً بالتوحّد إذا كان يتميّز بالسمات التالية:

  • “إذا كان يستطيع النظر إلى عيون الآخرين فلا يمكن أن يكون مصاباً بالتوحّد”
  • “إذا لم يكن عبقرياً في الرياضيات”
  • “إذا لم تكن لديه مشكلات في التواصل”
  • “إذا كان يتمتّع بحياة اجتماعية”
  • “إذا كان يتمتّع بروح الدعابة”
  • “إذا كان يتعاطف مع الآخرين”
  • “إذا كان سعيداً وناجحاً في عمله”
  • “إذا كان مستقلاً”
  • “إذا كان امرأة”
  • “إذا لم يكن يبدو عليه التوحّد”.

ترتكز هذه المقولات (مثل أخرى) على نظرة جزئية إلى التوحّد، لا تأخذ بعين الاعتبار مدى اتساع أنماطه؛ ومن ثمّ يجب دحضها. وتسهم هذه المغالطات الشائعة في التضليل بشأن التوحّد لدى البالغين (ولا سيّما أولئك الذين لا يعانون عجزاً ذهنياً أو تأخراً في قدرة الكلام) ووصم المصابين وإقصائهم اجتماعياً. وقد تؤدي هذه الأفكار إلى نتائج وخيمة ومضرّة بهم، علاوة على أن نقص المعرفة بالتوحّد وعدم الاعتراف به يمكن أن يعوّقا توفير التشخيص والدعم والموارد الملائمة للأشخاص الذين يعانون التوحّد هم وأقاربهم. لمكافحة هذه المغالطات، من الضروري إذاً تفكيك هذه الأحكام المسبقة والعمل على توعية الناس وتعزيز ثقافتهم حول مشكلة التوحّد بأنواعها كافّة.

ما التّوحد؟

وفقاً للمرجعَين الأساسيين في عالم الطبّ وهما الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية في إصداره الخامس (DSM-5)، والتصنيف الإحصائي الدولي للأمراض والمشكلات الصحية ذات الصلة في إصداره الحادي عشر (CIM-11)؛ فإنّ اضطراب طيف التوحد يدخل في نطاق اضطرابات النمو العصبي (TND) التي تشمل اضطرابات النمو الذهني (TDI) واضطرابات الخلل الوظيفي واضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط (اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط أو دونه).

ويعاني عدد كبير من الأشخاص المصابين بالتوحد أمراضاً مصاحبة مثل الاضطرابات الأخرى (اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة ونقص الانتباه، وعسر القراءة وعسر التعلم وما إلى ذلك)، والاضطرابات الجسدية والنفسية المرَضية إلى غير ذلك. لذا؛ نوضّح فيما يلي المعايير التي يجب أخذها بعين الاعتبار عند إجراء تشخيص التّوحد. نظراً إلى تعقيد عملية التشخيص فإنّ الأطباء المختصّين والمدرَّبين هم المسؤولون عن إجرائه. وفقاً للدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية في إصداره الخامس؛ فإن تشخيص اضطراب طيف التوحد يجري على أساس معيار “ازدواجية التوحّد” الذي يشمل مظهرين: العجز المستمر عن التواصل والتفاعل الاجتماعي الملحوظ في مجموعة متنوعة من السياقات، والطبيعة المحدودة والمتكررة للسلوكيات أو الاهتمامات أو الأنشطة. ويجب ألّا يكون هناك تفسير آخر أوضح لهذه الاضطرابات مثل الإعاقة الذهنية أو التأخر الشامل للنموّ. من الأفضل إذاً التأكد إن كانت الاضطرابات مصحوبة بعجز ذهني أو إعاقة لغوية أو أمراض طبية أو وراثية معروفة أو عامل بيئي أو اضطراب نمائي أو عقلي أو سلوكي آخر أو تخشّب. وتحدَّد درجة حدّة المرض وفقاً للعجز الملاحظ في كلّ فئة من هذه الفئات ومستوى الدعم الذي يحتاج إليه المصاب.

تظهر الاضطرابات المرتبطة بالتوحد منذ الطفولة المبكرة (يمكن ملاحظتها قبل سنّ 3 سنوات) لكن من الممكن أن يشخَّص لاحقاً بعد بلوغ الطفل سنّ الرشد. إنّ كشف الإصابة في مرحلة متأخرة لا يعني أنها حدثت في هذه السنّ، بل يعني فقط أن التشخيص لم يحدث خلال مرحلة الطفولة (يمكن إجراء التشخيص ابتداء من سنّ 18 شهراً).

لذا هناك حاجة ماسّة إلى إجراء التشخيص المبكّر لاضطرابات طيف التوحد. وخلافاً للاعتقادات الشائعة، يمكننا أن نجد بين المصابين باضطراب طيف التوحدّ أنماطاً معرفية متنوعة وواسعة على غرار الأشخاص العاديين، بدءاً بالإعاقة الذهنية وصولاً إلى معدّل الذكاء العالي (أعلى من 130 نقطة). لكنّ السبب المحدّد لمرض التوحد لم يُعرف بعد، وما تزال جذوره معقّدة ومتعدّدة العوامل. وتتفق عدّة دراسات على أنّ العوامل الوراثية والبيئية تسهم في ظهور التوحّد. وإذا كان التوحد غير مصنّف في نطاق الأمراض، فقد صُنّف في فرنسا باعتباره إعاقة سنة 1996؛ بينما ينظر إليه بعض الأشخاص المصابين به باعتباره إعاقة غير مرئية.

كيف يرهق “التمويه الاجتماعي” المصاب بالتوحد؟

تظهر خصائص التوحّد وأعراضه وتستمرّ طوال الحياة مع نوع من التذبذب في شدّتها؛ غير أن وضوحها بالنسبة إلى الأقارب أو المختصّين يظل مسألة نسبية. وعادة ما يحاول الشخص الذي يعاني التوحد إخفاء “سماته التوحدّية” أو حجبها، وقد ينجح في ذلك بدرجات متفاوتة “للاندماج وسط الناس” والاستجابة إلى الانتظارات المجتمعية.

هذا ما يُسمّى “التمويه الاجتماعي” الذي يعدّ سلوكاً مرهقاً للشخص المصاب بالتوحد. إذا أضفنا إلى هذا الأمر استمرار الأفكار النمطية والتصورات الشائعة حول صورة الشخص المصاب بالتوحّد، فقد تشكّل هذه العناصر تفسيراً لقلة التشخيص من ناحية، وانتشار التشخيص المتأخر (جدّاً) من ناحية أخرى. ألاحظ مثلاً أن المصابين الذين أستقبلهم في عيادتي بانتظام يعانون نتائج هذا الجهل وعدم الاعتراف بواقعهم المرضي بل إنكاره.

ويفضّل بعضهم إخفاء إصابته خوفاً من الانتقاد أو الإنكار وهذا ما يدفعه إلى التمويه و”التظاهر” بأنه إنسان طبيعي في إطار ذلك التكيّف الزائد والمرهق. وقد يحرمه هذا الوضع من تفهّم من حوله، وهو الأمر الذي قد يمثل مصدر ارتياح بالنسبة إليه. كما يَحول دون تمكّنه من تكييف بيئته (العائلية أو الودية أو المهنية أو المؤسّسية) وفقاً لاحتياجاته التي تنشأ من الوظائف المحددة المرتبطة بالتوحد.

هل نحن جميعاً مصابون إلى حدّ ما بالتوحّد؟

الادعاء القائل: إننا جميعاً “مصابون إلى حدّ ما بالتوحد” غير صحيح، علاوة على أنّه يستهين بأهمية الصعوبات اليومية والتحديات الخاصة التي يعيشها المصابون. تذكّر أنّ التّوحد ليس مرضاً، ولا “علاج” له. لا يعني امتلاك الفرد سمات شخصية “غير نمطية” أو شخصية غريبة الأطوار أو الادعاء أنه “يتصرف أحياناً مثل مصاب بالتوحد” أنّه مصاب به فعلاً. إنّه ليس “حالة” مشتركة بين الجميع. يجب أن نكون حذرين من هذه الاستهانة المضرّة بالمصابين والمنكِرة لواقع معاناتهم.

ينطوي هذا النوع من المواقف على التشكيك في التشخيص، والتقليل من مصداقية الاضطراب النمائي العصبي الحقيقي الذي يمثّله التوحّد وتأثيره في جودة الحياة، ولا يشجع الأشخاص المصابين على كشف أنفسهم. وهذا ما قد يؤدي إلى إقصائهم على الرغم من حاجتهم إلى الدعم والتفهّم، ويمكن أن يعزّز الوصم والعزلة الاجتماعية من خلال إنكار خصوصيات حياة المصاب بالتوحّد وتحدياتها.

هذا التشكيك في المصداقية يمكن أن يمنع المصابين أيضاً من الاستفادة من الرعاية أو المساعدة الاجتماعية التي يمكن أن يحصلوا عليها نظراً إلى الاعتراف بالتوحد باعتباره نوعاً من الإعاقة. إنّ التوحد اضطراب نمائي عصبي وليس تقليداً اجتماعياً أو توجّها جديداً أو موضة، ولا يمثّل اختياراً شخصياً، وليس في التظاهر به أيّ صورة من صور “المرح” أو المتعة، فالفرد يولد به ولا يتظاهر به.

التوحّد أنواع عديدة

التّوحد عبارة عن طيف، وهذا يعني أنّ هناك أنماطاً عديدة تتميّز بخصائص وأعراض تتفاوت حدّتها، وتتّسم بالتذبذب طوال الحياة. على سبيل المثال؛ يصعب اكتشاف التوحد عندما يكون غير مصحوب بإعاقة ذهنية أو تأخّر لغوي (TSA SDI) ولا سيّما لدى النساء. لكنّ عدم ظهور خصائص الاضطراب لدى الشخص “المصاب بالتوحد” وفقاً لمنظور اللاوعي الجماعي لا يعني أنه غير مصاب به.

لذلك؛ لا يوجد نمط واحد بل أنماط من التوحد. تؤكد هذه الحقيقة الحاجة الماسّة إلى نشر وعي أفضل يأخذ بعين الاعتبار تعقيد هذه المشكلة، فحالات المصابين فريدة ولكلّ مصاب تجربته الشخصية. ويختلف هذا الاضطراب من شخص إلى آخر ومن ثمّ فإنه يشمل مجموعة واسعة من الحالات المتنوعة. كما يشكل هذا الأمر تحدّياً يواجه المجتمع على مستوى تحديد الاضطراب وتقبّله واستيعابه. ومع ذلك فإنّ التشخيص ليس غاية في حدّ ذاته؛ إذ يجب ألّا نختزل الأشخاص المصابين بالتوحد في تعميمات تبسيطية، وأن نتجنّب حصرهم في صور نمطية، بل يجب أن ننظر إليهم وفقاً لمواطن قوتهم وضعفهم والقيمة المضافة التي يمثّلها وجودهم في هذا العالم.

اقرأ أيضاً: