ملخص: مع الانتشار الواسع لظاهرة الاغتراب الأسري، يزداد القلق من آثارها في الصحة النفسية، والدور الذي تسهم به الهواتف الذكية والتكنولوجيا الرقمية في ظهور الغربة الأسرية وتأجيج المشكلات.
محتويات المقال
ثمة مَثَل شعبي متأصل في مجتمعاتنا العربية يقول: "الدم لا يصبح ماء"! يعتقد البعض انطلاقاً من هذا المَثَل بأن العلاقات العائلية المرتبطة بالدم يمكن أن تنجو من الصعاب التي لا يمكن التغلب عليها، أو أن العلاقة بين الوالدين والأطفال والأخوة بعمقها، ستستمر مدى الحياة.
ومع ذلك، تتعارض الغربة الأسرية مع هذه التوقعات المجتمعية، فيجد البعض في كسر قواعد الحياة الأسرية والابتعاد عن الوالدين أو الأخوة أمراً ضرورياً للحصول على نوعية حياة أفضل، أو نتيجة لا مفرَّ منها.
مهما كانت أسباب هذه الغربة الأسرية، فإن لها آثاراً في الصحة النفسية قد تتوارثها الأجيال. وفي هذا المقال، نتعرف معاً إلى مفهوم الغربة الأسرية، وآثارها النفسية، وكيف يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تُفاقم هذه الظاهرة.
ما هي الغربة الأسرية؟
تشير الغربة الأسرية إلى حالة انقطاع التواصل أو انعدامه التام بين أفراد الأسرة مثل الوالدين أو الأشقاء؛ بسبب تاريخ طويل من العلاقات السيئة، ويمكن وصفها بأنها حالة يكون فيها أفراد الأسرة غرباء إلى حد ما.
قد تكون الغربة عاطفية؛ مثل أن يكون الفردان في الغرفة نفسها أو يحضران الحدث العائلي ذاته؛ لكنهما لا يتفاعلان، أو قد تكون جسدية، أو كلتيهما، وفي الأحوال كافةً، هي الأساس في انهيار العلاقة الأسرية.
تصوّر الأفلام والمسلسلات الغربة بين أفراد الأسرة بوصفها نتيجة لشجار أو مشكلة كبيرة بين الأطراف؛ لكن في الحياة الواقعية لا يكون الأمر بذلك الوضوح. أظهر بحث نُشر في مجلة التواصل العائلي (Journal of Family Communication)، أن الغربة الأسرية عملية مستمرة، وليست نتيجة حدث معين. بعبارة أخرى: لا يقرر أحد أفراد الأسرة فجأة أنه يريد الابتعاد وقطع علاقته بالآخر؛ بل هي تاريخ طويل من الصراع والعلاقة السلبية بينهما.
اقرأ أيضاً: رسالة من طبيب نفسي: الحب بين الأشقاء أقوى من الخلافات
ما العوامل المؤثرة في الغربة الأسرية؟
تتفاوت الغربة في شدتها، وبناءً على بحث نُشر في دورية بحوث الاتصالات (Communication Research)، حددت فيه شريحة من الأبناء سبب الابتعاد عن الوالدين؛ يمكن تحديد العوامل المؤثرة في الغربة الأسرية بما يلي:
- كمية الاتصال وجودته.
- المسافة الجسدية.
- وجود العاطفة أو غيابها وتأثيرها، سواء أكان سلبياً أم إيجابياً.
- تبادل الأدوار؛ أي مدى اهتمام بعضهم ببعض بالطرائق المتوقعة.
ما أسباب الغربة الأسرية؟
الغربة الأسرية بين الآباء وأبنائهم البالغين، أو بين الأشقاء، عملية معقدة، فلكل فرد أسبابه التي تدفعه إلى قطع التواصل أو الابتعاد. على وجه العموم، ثمة أسباب رئيسة للغربة الأسرية:
المشكلات داخل الأسرة
وفقاً لنظرية نظام الأسرة في علم النفس؛ ينقطع الفرد عن أفراد عائلته ليخلق لنفسه مساحة كافية لمعالجة المشاعر المتراكمة بمرور الوقت. قد تنتج هذه المشاعر من سنوات من سوء المعاملة، خلال مرحلة الطفولة أو بعدها، وهو ما ينطبق ليس فقط على مسبب الأذية؛ وإنما أيضاَ على أفراد الأسرة الآخرين الذين ربما لم يصدقوك، أو كانوا على علم بالإساءة ولكن لم تكن لديهم القدرة على مساعدتك على حل المشكلة.
تفاوُت القيم والمعتقدات
قد يكون السبب الأكثر شيوعاً للغربة الذي غالباً ما نشاهده بين الآباء وأبنائهم البالغين، هو فقدان ما يُسميه علماء النفس بـ "تشابه القيمة"؛ أي تفاوت القيم الشخصية والمعتقدات الأساسية بين أفراد العائلة. يمكن أن تكون الاختلاف في وجهات نظر دينية أو اجتماعية أو ثقافية، أو اختيارات حياة جديدة؛ مثل الزواج من شخص ذي خلفية دينية أو اجتماعية لا تتناسب مع العائلة.
الاضطرابات الشخصية في العائلة
عندما يعاني أحد أفراد الأسرة اضطرابات نفسية تدفعه إلى سلوكيات غير مقبولة أو مفهومة بالنسبة إلى الآخرين؛ لأنه غالباً ما ينظر إلى نفسه وللآخرين بطريقة مختلفة. قد يكون من الصعب التعامل معه، وبخاصة إذا لم يستطع فهم تأثير سلوكه في صحة الآخرين النفسية والجسدية. على سبيل المثال:
- يقل اهتمام المصاب باضطراب الشخصية الفصامية بالعلاقات.
- يعرّض المصاب باضطراب الشخصية المعادية للمجتمع أفراد أسرته إلى الخطر والأذى الجسدي.
- يسيء المصاب باضطراب الشخصية النرجسية أو اضطراب الشخصية الحدية إلى الآخرين نفسياً أو عاطفياً.
التفكك الأسري
يؤكد الاستشاري الأسري، الدكتور خليل الزيود، إن الغربة الأسرية تحدث نتيجة التفكك الأسري؛ أي عندما تفقد الأسرة التواصل فيما بينها بحيث يلجأ الابن أو الأم أو الأب أو الأخ إلى وسائل التواصل الاجتماعي أو شخص آخر ليس من ضمن العائلة، وليس إلى أحد أفراد الأسرة، للتعبير عن مشكلته. يخلق هذا شرخاً كبيراً بين أفراد الأسرة، ويزيد فرص الغربة الاجتماعية.
اقرأ أيضاً: 5 روابط تحمي الأسر من التفكك
كيف أسهمت الأجهزة الذكية في زيادة الغربة الأسرية؟
منذ أن أصبح بإمكاننا مشاهدة شخص ما في الجزء الآخر من الكرة الأرضية والحديث معه مباشرة عبر جهازه الذكي، زادت فرص التواصل والاندماج والتشارك وتقديم الدعم بين الناس. ومع ذلك، توفر الاتصال ليس دائماً بتلك الفائدة، وعلى العكس من ذلك، قد يكون له تأثير سلبي فيما يخص الغربة الأسرية. حدد عالم النفس جوشوا كولمان (Joshua Coleman) بعض النقاط التي تؤثر من خلالها وسائل التواصل الاجتماعي وأجهزتنا الذكية في ديناميكيات الأسرة:
- الإعلان عن الغربة الأسرية: سابقاً كان من المعتاد أن تبقى المشاحنات الأسرية محدودة الخصوصية في بعض أفراد العائلة وربما بعض المقربين. أما اليوم، تسمح منصات وسائل التواصل الاجتماعي للأفراد بنشر تفاصيل الغربة الأسرية إلى الآخرين المقربين والغرباء، والتأثر بتعليقاتهم وردود أفعالهم.
- الأذى والإهانة: أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة للتعبير عن المقاطعة بأسلوب مهين للآخر، عن قصد أو غير قصد؛ كما في إلغاء الصداقة، أو نشر صورة تجمع أفراد العائلة باستثناء الفرد المقاطَع.
- العزلة: قد تسهم وسائل التواصل الاجتماعي في عزلة الفرد عن عائلته؛ مثلما يحدث حينما يتشارك أفراد الأسرة حدثاً عائلياً مثل الزفاف أو الولادات مع عدم السماح له بمعرفة ذلك مباشرة، دون أن يُدعى إليه.
- قلة التعاطف أو التفاعل: غالباً ما لا نتمكن من نقل مشاعرنا بحقيقتها أو عمقها عبر المنشورات والتعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي؛ ما قد ينقل رسالة خاطئة عن عدم التعاطف مع معاناة الآخر، أو ربما يكون بالفعل وسيلة للتعبير عن عدم التعاطف المقصود. في الأحوال كافةً، يسهم ذلك في زيادة الغربة الأسرية.
- المقارنة: تخلق وسائل التواصل الاجتماعي باستمرار فرصاً للمقارنة مع الأقران أو أفراد الأسرة؛ ما قد يشكل ضغطاً أو سبباً في الشعور بالإهانة أو الأذية.
اقرأ أيضاً: كيف تضر الهواتف الذكية بصحة أبنائك النفسية؟ وماذا تفعل لتقيهم منها؟
ما الآثار النفسية للغربة الأسرية؟
تتفاوت الآثار النفسية للغربة الأسرية وفقاُ لأسبابها وخصوصية كل فرد؛ فبينما قد ينتهي الأمر بالبعض بالشعور بألم الوحدة، قد تكون ثمة أوقات أخرى حيث تحقق المقاطعة شعوراً بالسلام والحرية.
الآثار النفسية السلبية للغربة الأسرية
عندما تكون الغربة الأسرية نتيجة علاقة سلبية طويلة الأمد، فإنها قد تحمل آثاراً نفسية سلبية معقدة، تطول كلا الطرفين. على وجه العموم، ينظر علماء النفس إلى الغربة الأسرية على أنها خسارة عاطفية لفرد مقرب، على الرغم من أنه ما زال على قيد الحياة، فإذا كنت تعتمد على عائلتك للحصول على الدعم والحب، قد تترك الغربة الأسرية شعوراً بالحزن والخزي والوحدة أو العزلة الاجتماعية، وقد تؤدي إلى تدني الثقة بالنفس، والانسحاب العاطفي، والقلق بشأن استدامة علاقات الحب والصداقة الأخرى. وفي حالات أكثر خطورة، قد تقود إلى سلوكيات عنيفة واضطرابات في الصحة النفسية مثل الاكتئاب.
قد تؤثر الغربة في الأجيال القادمة أيضاً، فقد يفقد الطفل اتصاله مع جدَّيه أو أبناء عمومته، ووفقاُ للطبيب النفسي موراي بوين؛ قد يكون هؤلاء الأطفال أكثر عرضة إلى تكرار السلوك ذاته في العلاقات المستقبلية.
اقرأ أيضاً: 3 علامات تؤكد معاناة طفلك القلقَ، فكيف تساعده؟
الآثار الإيجابية للغربة الأسرية
بالنسبة إلى أولئك الذين كانت الغربة خيارهم للتحرر من العلاقات السامة والأذى النفسي أو الجسدي، قد تكون الوسيلة لاستعادة السيطرة على حيواتهم الشخصية، والتمتع بالحرية في اتخاذ القرارات التي تصب في مصلحتهم بدلاً من الحد من خياراتهم، أو إخفاء ذواتهم الحقيقية، أو العيش وفقاً لشروط الآخرين.
علاوة على ذلك، تمنح الغربة الأسرية الوقت والمساحة اللازمَين للشفاء من الجروح والأذى العاطفي الناجم عن سوء المعاملة. ومن ناحية أخرى، قد يكون الانفصال فرصة لتهدئة الأطراف المتوترة؛ ما قد يكون مفيداً لأولئك الذين يأملون بمصالحة، أو إجراء تغيير في ديناميكيات العلاقة الأسرية.
كيف يمكن علاج الغربة الأسرية؟
على الرغم من صعوبة التجربة التي مررت بها، فإنك عندما تنظر إليها كمراقب خارجي تبدو مفيدة، وربما مساعِدة على النمو والنضج. حسناً، لن يكون مسار المعاناة والصراع، فيما لو خُيّرت، هو خيارك، ومع ذلك، تُمكنك الاستفادة من التجربة عندما تعالجها على نحو صحيح:
- ابدأ بقرار ذاتي بالرغبة في الشفاء واستعادة سيطرتك على حياتك وصحتك.
- كُن صبوراً، واتبع خطوات بسيطة للتغلب على الألم.
- اعتنِ بنفسك، وحاول التخطيط مسبقاً للفترات التي يزداد فيها شعورك بالوحدة؛ كما في الأعياد أو المناسبات العائلية، ومارس أنشطة مثل الانغماس في هواية أو مشاهدة فيلمك المفضل.
- المصالحة، فقد تكون ممكنة بشرط أن يكون الأطراف كلهم مستعدين لها؛ وإلا فقد تتعرض إلى خطر الرفض للمرة الثانية.
- ابحث عن دعم مهني لمساعدتك على اكتشاف جراحك القديمة والتعامل معها بطريقة صحيحة.
اقرأ أيضاً: ما هو العلاج الأسري؟
إذاً؛ لا توجد طريقة واحدة صحيحة أو خاطئة للتعامل مع الغربة الأسرية، فلكل حالة خصوصيتها وفرديتها، فما يهم حقاً هو احترام احتياجات كل فرد وحدوده. في الأحوال جميعها، لا ينبغي للغربة الأسرية أن تحدد هوية الفرد أو مصيره؛ أي يمكنها أن تكون جزءاً من القصة ولكنها ليست الحكاية كلها.