كيف تحوّل محنة الانفصال إلى منحة؟

محنة الانفصال
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: يستخدم المراهقون كلمات ذات وقع صعب على النفس لوصف محنة الانفصال؛ مثل: “لقد أدار لي ظهره” أو “لقد فارقني” أو “لقد قرر التخلي عني”، وغيرها الكثير من العبارات والكلمات المخيفة. يرى المحلل النفسي سيرج تيسيرون (Serge Tisseron) أن حقبة التسعينيات تميزت بظهور الأمراض التي تم تصنيفها تحت مظلة “قلق الانفصال”، لكن هل يمكن للانفصال أن يعيد تشكيل حياتنا نحو الأفضل؟
نربط في أغلب الأحيان بين الانفصال من ناحية والفشل أو الشعور بالحسرة من ناحية أخرى؛ لكننا قد ندرك لاحقاً أنه كان سبباً في تغييرنا بل وربما تحريرنا. في الواقع، قد تعيد محنة الانفصال تشكيل حياتنا نحو الأفضل.

يستخدم المراهقون كلمات ذات وقع صعب على النفس لوصف محنة الانفصال؛ مثل: “لقد أدار لي ظهره” أو “لقد فارقني” أو “لقد قرر التخلي عني”، وغيرها الكثير من العبارات والكلمات المخيفة. ومَن منا لم يحلم يوماً بمحوها من قاموس مفرداته؟ فنحن نفضّل العلاقات “الدائمة” و”المستمرة” ونأمل أن تستمر علاقتنا مع شركاء حياتنا إلى الأبد.

من الشعور بالفشل إلى حاجة الاستقلالية

يستدعي تمزق العلاقات شعور الإنسان بالفشل ما قد يجعله يقول لنفسه: “لقد انفصلنا بعد 20 عاماً من العيش معاً”، “لقد أخلصتُ له من كل قلبي، وفي النهاية طردني من حياته بين عشية وضحاها”. حتى عندما تكون أنت مَن يقرر الانفصال، فإنك تشبّه الأمر في الغالب بغصن شجرة قديم انكسر أو حبل بالٍ انقطع، وتقول لنفسك: “لقد بذلتُ كل ما في وسعي لإصلاح الوضع لكنني لم أستطع”. لكنك قد تدرك بعد سنوات أن هذا الانفصال قد أسهم بنصيب وافر في رسم مسار حياتك وجعلها تصل إلى هذا القدر من النجاح، سواء كنتَ أنت أو الطرف الآخر صاحب قرار الانفصال.

علاوة على ذلك، فإننا نشهد حالات انفصال بمعدلات غير مسبوقة، ما بين زيادة حالات الطلاق والانتقالات والتطورات المهنية. ويرى عالم الاجتماع جاك برايتا (Jacques Praïta) في كتابه الصادر تحت عنوان: “مجتمع الاستقلالية” (La Société de l’autonomie) أن هذه الظاهرة تدل إلى تنامي الرغبة في الاستقلالية بين أفراد المجتمع؛ إذ يقول: “لقد تغيّرت قيم المجتمع التي كانت تقوم على أخلاق الواجب وباتت تنادي بقيم مذهب اللذة الذي يرى أن المتعة هي القيمة الجوهرية؛ لذا يجب أن نتعلم أن نضع مسافة كافية بيننا وبين الآخرين تسمح لنا بعدم الانهيار في حال حدوث الانفصال”.

هل هو نوع من التفكير بالتمني؟ تقول عالمة النفس كلود ميسماه (Claude Mesmin) الأقل تفاؤلاً في كتابها “الرعاية العرقية السريرية للأطفال المهاجرين” (La Prise en charge ethnoclinique de l’enfant de migrants)، إن الضغط الأيديولوجي يجبر أي شخص على التفكير في نفسه كشخص منقطع الصلة بجذوره. ويرجع ذلك في الأساس إلى إنكار المقاومة الداخلية اللاواعية التي تنشأ في الوقت نفسه لدى كل واحد منا عندما تبدأ الحاجة إلى الانفصال.

قلق الانفصال

يرى المحلل النفسي سيرج تيسيرون (Serge Tisseron) أن حقبة التسعينيات تميزت بظهور هذه الأمراض التي تم تصنيفها تحت مظلة “قلق الانفصال”، وهو المصطلح الذي يعني ضمنياً أننا نود أن نتصرف كأفراد يمتلكون كامل الحرية لكن شيئاً ما فينا يحثنا على البقاء “ملتصقين” بالآخر.

ويوضح سيرج تيسيرون إن: “الاستخدام التعسفي للتكنولوجيا الحديثة يكشف عن هذا الاضطراب العصبي الجماعي من خلال أدوات مثل الإنترنت أو الهاتف المحمول التي تخلق مسافات بيننا وبين الآخر؛ ولكنها تتيح لنا وهم التواصل الوثيق في أي وقت وتجعل محاولات الانفصال النفسي أقل أهمية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك الآباء الذين يطالبون بتثبيت كاميرات المراقبة المتصلة بالإنترنت في الحضانات، وهو ما يدل إلى أنهم يستخدمون التكنولوجيا الحديثة لمحاربة قلق الانفصال لديهم”.

الخوف من الرفض

هناك أيضاً أولئك الذين يشعرون في اللاوعي بحالة من الرعب خشية أن يتخلى الآخرون عنهم ويهجروهم، ومن ثم تجدهم دائماً ينتقلون من وظيفة إلى أخرى أو من حب إلى آخر، ثم يعودون إلى الانفصال في كل مرة لتجنب التعرُّض لمحنة الرفض. ويشدّد اختصاصي علم الجنس ويلي باسيني (Willy Pasini) في كتاب “شجاعة التغيير” (Le Courage de changer)، على عواقب “الانفصال السطحي” إذ يقول: “سيكون التغيير وهمياً إذا كان مضمونه مجرد وسيلة للإلهاء أو محاولة لإعطاء مغزىً لحياة يُنظر إليها على أنها دون معنى”. وعند حدوث قطيعة دون وعي ودون الوقوف على التفاصيل أو إدراك حقيقة القضايا النفسية، فإن ذلك لن يؤدي إلى أي تحول إيجابي يُذكَر.

ودعونا نقُلها صريحة: “الانفصال ليس سهلاً أبداً”؛ إذ يستلزم الانفصال بذل جهد نفسي قد يستمر لفترة طويلة من الزمن ولا يتناسب دائماً مع الوتيرة المحمومة للحياة الاجتماعية. ولا يقتصر الانفصال على تغيير عنوان السكن أو الحالة المهنية فقط؛ ولكنه ينطوي أيضاً على قبول المرء موت أجزاء من نفسه كان يعتقد أنها ستظل حية إلى الأبد، إضافة إلى تحمُّل حالة من الانزعاج وتوتر الأوضاع بينه وبين الطرف الآخر، مع تحمُّل نصيبه من الشكوك والتساؤلات، ومن ثم فإن الانفصال يتطلّب التفكير ملياً قبل الإقدام عليه. وينطوي الانفصال في أغلب الأحيان أيضاً على إحياء المشاعر التي كانت دفينة في نفوسنا. تنهار ليلى عند إقدامها على اتخاذ خطوة بسيطة، ويجتاحها الرعب الذي عانته أُسرتها خلال المنفى الذي عاشت فيه قبل 20 عاماً، ويستعيد جمال خلال فترة تسريحه من العمل شعوره بالغضب الذي لم يستطع التعبير عنه لوالده حينما تركه إلى الأبد وهو في السابعة من عمره.

قد يكون الانفصال في مرحلة مبكرة جداً من الطفولة أو الانفصال المتكرر بكثرة صدمة نفسية حقيقية، ولن يستطيع أولئك الذين عانوا هذه الصدمات في سن الطفولة تحمُّل الفراغ والوحدة اللذين تنطوي عليهما عملية الانفصال في مرحلة البلوغ، ولن يتورعوا عن بذل كل ما في وسعهم حتى لا يتغير شيء أبداً في المستقبل، ولن يجرؤوا منذ تلك اللحظة على ترك أي شخص، ولن يحاولوا تغيير مساراتهم المهنية، وسيحكمون على أنفسهم بعيش حياة مملة وغير نابضة بأيٍّ من أشكال الحياة.

قد يكون التفكير في أن الأموال أو القوة ستحررنا من واجب التغيير أحد أهم المعتقدات التي يجب أن نتخلص منها لأن كل إنسان ما هو إلا نتيجة لحالات الانفصال المتتابعة، فقد أطلق كل منا أول صرخة له في الحياة بعد انفصاله عن رحم أمه، وفي سن 5 أشهر نشهد بداية “الولادة النفسية” عندما نحرك جسدنا بعيداً عن أجساد أمهاتنا ونبدأ فهم أن وجودها منفصل عن وجودنا، وفي أول يوم لنا في المدرسة وفي كل صباح نودّع سريرنا المريح، وهكذا دواليك إلى أن نُصاب بأول أزمة قلبية، ويستمر الأمر إلى أن يحين موعد الفراق النهائي بالموت.

ميّز نفسك عن الآخر

تسهم القدرة على الانفصال أيضاً في مساعدة المرء على تحديد معالم شخصيته المستقلة، وذلك من خلال التمييز بين الذات والآخر. ونجد أنفسنا في كل مرة مدعوين لحشد أكثر جوانب شخصياتنا نبضاً بالحياة من أجل المضي قدماً. ولو أن ملك إيثاكا الأسطوري، أوديسيوس لم يغادر مملكته، فهل كان بإمكانه تحقيق هذه الشهرة التاريخية في حرب طروادة؟

وفي كتاب بول أوستر (Paul Auster) الذي صدر بعنوان “كنت أحسب والدي عملاقاً لا يُهزَم” (Je pensais que mon père était Dieu)، نتعرّف إلى شخصية أميني روزا التي توشك على التعرُّض مجدداً لتحطم علاقة حب أخرى في حياتها”، فتستغل وحدتها لإعادة النظر في تمزق علاقاتها التي لطالما عانت خيباتها: “قد يكون الهجران فرصة ثمينة في بعض الأحيان، فبينما نبحث عما فقدناه يمكننا أن نؤوب مجدداً إلى أنفسنا، وقد يشكّل هذا المسلك مورداً أساسياً للتحرك نحو الحياة التي يريدها الإنسان حقاً”.

كيف تعرف أن عليك الانفصال عن شريك حياتك؟

يقول عالم النفس جيرار بوسان (Gérard Poussin)، مؤلّف كتاب “التخلُّص من العلاقات التي تكبّلنا” (Rompre ces liens qui nous étouffent) ضمن مجموعة “لم يفت الأوان أبداً على كذا” (Il n’est jamais trop tard pour): “تختلف الإجابة الصحيحة من شخص لآخر، فلحظة الانفصال تذكّر الجميع بأزماتهم التي عانوا ويلاتها في علاقاتهم السابقة لذا لا يلتمس أحد الأعذار للآخر. من ناحية أخرى، يمكننا الحصول على المساعدة من خلال مطالبة شخص عزيز علينا بالاستماع إلى مشكلاتنا. يمكننا أن نقول له: “لديّ مشكلة ولا أريدك أن تعطيني أي نصائح. كل ما أريده منك أن تستمع إلى الأسباب التي تدعوني إلى الفراق وتلك التي تشجعني على البقاء”. ومن خلال سماع قصتك التي تحكيها، ستجد الإجابة بشكل عام. ولا يمكن تحقيق هذه العملية من خلال الحوار الذاتي الذي يدور بينك وبين نفسك، فعندما تتحدث إلى إنسان آخر وتُفضي له بما في نفسك، فإن هذا يسهم في اتضاح أحد جوانب حياتك التي كنت تجهلها. ويصعب شرح هذه الظاهرة ولكن يمكن القول إنها أشبه بالفارق بين استحضار الحلم في الذهن وإخبار الآخرين به، فحينما نصوغ مشكلاتنا في عبارات وكلمات محددة فإننا بهذا نضعها في حجمها الحقيقي، لذا يقول فرويد معبراً عن هذا المعنى: “لا يمكن كشف النقاب عن اللاوعي إلا في حضور شخص آخر”.