نعرض لكم في هذا المقال تفاصيل جلسة علاج نفسي من عيادة مختص العلاج والتحليل النفسي روبرت نيوبورجيه، سجلنا مجرياتها بعد الحصول على موافقة المريضة، لنعرفكم أكثر إلى ما يحدث خلال الجلسات العلاجية.
تبلغ سارة من العمر 38 عاماً وهي تعمل مدربة موارد بشرية، وقد استبدلنا اسمها الحقيقي وغيّرنا بعض التفاصيل حفاظاً على الخصوصية.
الجلسة الأولى
سارة: مشكلتي هي أنه لم يعد بمقدوري قيادة السيارة على الرغم من أنني لطالما أحببت ذلك منذ كنت في الثامنة عشرة من عمري ولم تكن لديّ أي مشكلة سابقاً في هذا الشأن، أما اليوم فحالما أجد نفسي على طريق سريع أو دائري، وبمجرد أن أزيد سرعة السيارة قليلاً، ولا سيما عندما أسير في المسلك الأوسط من الطريق، فإنني أصاب بالهلع والخوف وأشعر بالدوار وأُبقي قدمي مثبتةً على الفرامل وأحاول العودة على الفور إلى جانب الطريق.
روبرت نيوبورجيه: هل تتخيلين سيناريوهات معينة في تلك اللحظات؟
سارة: أقول في نفسي أنني لن أتمكن من إيقاف السيارة إن لزم الأمر وأشعر أن حركتي شُلت، ونتيجةً لذلك فقد تخليت عن قيادة السيارة ما أدى إلى عرقلة حياتي اليومية، وأفقدني استقلاليتي لأنني لم أعد أفعل أي شيء بمفردي. كما تنتابني حالة شبيهة عندما أكون في المسبح فأنا أفضّل البقاء عند حافة حوض السباحة خشية أن أفقد وعيي أو يُغمى عليّ في الماء دون أن أفهم سبب خوفي هذا، وكانت هذه الحالة قد حصلت معي لأول مرة عندما كنت حاملاً.
روبرت نيوبورجيه: هل لديكِ طفل؟
سارة: طفلان؛ سنتان ونصف وأربع سنوات، وكان وجودهما معي في أثناء قيادة السيارة يُشعرني بمزيد من الخوف.
روبرت نيوبورجيه: منذ متى وأنتِ متزوجة؟ وهل تسير حياتك مع زوجك على ما يرام؟
سارة: منذ 5 سنوات، ولا مشكلات في حياتي الزوجية.
روبرت نويبورجيه: هل عانيتِ أي اضطرابات في السابق؛ مثل اضطرابات الأكل أو غيرها؟
سارة: كلا؛ لكن أختي التي تكبرني بعامين عانت فقدان الشهية العصبي. بدأ الأمر معها عندما كانت في سن 12-13 عاماً، ولم تتعافَ حتى الآن وأصبح وضعها هذا مصدر قلق كبير للعائلة بأكملها.
روبرت نويبورجيه: هل اهتم والداكِ بها؟
سارة: إنها محور اهتمامهما وهي تعتمد عليهما اعتماداً كبيراً حتى أنها لا تعمل. نرى بعضنا بعضاً عندما أزور والديّ ولكنني أجد صعوبةً في التواصل معها فهي غارقة في مشكلاتها ولا تتحدث معي إلا حول طفولتنا المبكرة.
روبرت نويبورجيه: ما الذي حدث آنذاك؟
سارة: لا أعلم ولكنها تلوم والديّ على كل ما يحدث لها بصورة مستمرة، وأنا أكره سماعها تقول أشياء سيئةً عنهما فأنا أرى أنها تظلمهما ولا أظن أنهما مسؤولان عن حالتها.
روبرت نيوبورجيه: علامَ كانت تلومهما؟
سارة: ربما على وصمها أحياناً؛ لكن هذه القسوة كان سببها سلوكها العنيف في الأساس ففي إحدى المرات دفعت أبي كما أنها ضربتني وضربت أمي أيضاً.
روبرت نيوبروجيه: فارق السن بينكما ضئيل، ألم يكن لكِ تأثير في أختك؟
سارة: في الحقيقة كنتُ أتنحى جانباً دائماً لأحمي نفسي، فتوزعت حياتي بين أصدقائي والدراسة. كنتُ أحاول قدر الإمكان تجنب التورط في هذا النزاع لأنني شعرتُ أن الموضوع لا يعنيني.
روبرت نيوبورجيه: هل فهمتِ لمَ كانت شقيقتك مصابةً باضطراب فقدان الشهية العصبي؟
سارة: لا؛ لكن الأمر بدأ عندما اتبعتْ حميةً غذائيةً لم تتمكن من تركها.
روبرت نيوبورجيه: هل لديكِ أي مشكلات أخرى بخلاف الخوف من قيادة السيارة؟
سارة: نعم أظن أنني أعاني مشكلةً في العلاقات ولا سيما في مجال العمل؛ إذ أجد صعوبةً في التواصل مع الآخرين، فأنا عدائية نوعاً ما وأتحدث بطريقة مباشرة للغاية، وقد أهين محاوِري دون أن أدرك أنني تماديت في الكلام، وأنا أعلم أن سلوكياتي هذه تمثل عائقاً في حياتي على المدى الطويل، يمنعني من المضيّ قدماً.
روبرت نيو بورجيه: هل يصبر زوجك على سلوكيات كهذه؟
سارة: نعم إنه إنسان صبور ويعرف طباعي، وعلى الرغم من ذلك فأنا قد أتمادى معه أيضاً في بعض الأحيان؛ إذ أنتقده كثيراً بطريقة سلبية.
روبرت نيوبورجيه: وأطفالك، كيف تتعاملين معهم؟
سارة: لقد بدأت المشكلات مع طفلي ذي الأربع سنوات مؤخراً فهو لا يطيعني كما أنه منفعل دائماً ولا يعرف كيف يهدأ ويصعب عليه أن يغط في النوم.
روبرت نيوبورجيه: كيف نظرتْ شقيقتكِ إلى فكرة أنه أصبح لديكِ زوج وأطفال؟
سارة: كان الأمر صعباً حتى أنها لم تحضر حفل زفافي؛ ولكن الأمور تغيرت قليلاً عندما أنجبت أطفالي لأنها أحبتهم، وكان ذلك فرصةً لخلق روابط جديدة بيني وبينها والتحدث عن مواضيع أخرى خلاف تلك التي تتمحور حولها و حول شكواها المستمرة من الماضي.
روبرت نيوبورجيه: هل غادرتِ منزل عائلتكِ مبكراً؟
سارة: في سن العشرين بمجرد أن وجدتُ وظيفةً وأصبحتُ إنسانةً مستقلةً. وتزوجتُ في البداية من رجل مكثتُ معه سبع سنوات لكن علاقتنا وصلت إلى طريق مسدود، وبعد أن انفصلتُ عنه تعرفتُ إلى زوجي الحالي وأدركتُ على الفور أننا نتشارك الآمال والأحلام ذاتها في الاستقرار وإنشاء عائلة فهو ذو تفكير تقليدي مثلي تماماً ونحن منسجمان جداً.
روبرت نويبورجيه: على ما يبدو أنك لم تعاني من تقلبات مرحلة المراهقة على عكس شقيقتكِ.
سارة: هذا صحيح، فلطالما كان تفكيري عقلانياً وجلّ ما شغلني هو تحقيق الاستقرار في حياتي؛ ولكن ما يقلقني اليوم هو شعوري بأنني غير قادرة على التحكم في نفسي، فحياتي تهرب من بين يديّ وكأنني أراقبها بدلاً عن أن أعيشها.
روبرت نويبورجيه: هل ثمة تخيلات معينة في ذهنك؟ مثلاً هل تشعرين برغبة في حزم حقائبك والابتعاد عن كل ما حولك؟ هل تطلقين العنان لأحلامك؟
سارة: "أحلمُ كثيراً في أثناء النوم وأكون دائماً سعيدةً في أحلامي هذه إلى درجة أن ذلك يدفعني لأخلد إلى الفراش أبكر كل يوم، وأحب النوم بعمق فهذه مساحتي الخاصة التي تسمح لي بالهرب من أفكاري، والشعور بالهدوء.
روبرت نويبورجيه: هل سبق لكِ أن كنتِ في علاقة تتسم بالشغف؟
سارة: لا، باستثناء عندما كنت في سن مراهقة ربما فأنا تقليدية جداً وأفضل أن أكون مع شخص يتسم بالجديةوالصفات الحسنة.
روبرت نويبورجيه: يبدو لي من كلامك أن لديك مستويَين من التفكير فخلف رغبتك في أنت تكوني عقلانيةً تختفي أفكار أخرى تطفو على السطح وتعبر عن نفسها خلال هذه المرحلة من حياتك وتتجلى هذه الأفكار في التقلبات المزاجية البسيطة والرؤية المكثفة للأحلام التي تدل على الصراعات الدائرة في اللاوعي، إضافةً إلى ما تشعرين به عندما تحاولين قيادة السيارة. إن الأعراض النفسية التي تظهر على المرء هي وسيلة يحاول من خلالها التوفيق بين رغباته، وفي حالتكِ كانت أعراضكِ وسيلتك لتجنب الخروج من المنزل، وهي أشبه بحالة صراع بين دوافعك الداخلية ورغبتك في التحلي بالتفكير العقلاني، فمن جهة أنتِ ترغبين في الخروج واستنشاق بعض الهواء ولكنكِ خلقتِ في الوقت ذاته أعراضاً تتيح لكِ البقاء في المنزل.
سارة: نعم، إنه تفكير متصلب.
روبرت نويبورجيه: لا ليس تفكيراً متصلباً لكنه نوع من فرض العوائق على نفسك. في داخلك كيان ربما لا تريدين التعرف إليه، وهذا هو سبب ترددك في الخضوع للعلاج كما كنتِ تقولين لي. وشعورك بأنك تقفين على مفترق طرق هو ما سبب لك الخوف من قيادة السيارة.
سارة: نعم أنا أتفق مع هذا الرأي.
روبرت نويبورجيه: كما أنني لا أظن أنك تتعاملين مع مشكلاتكِ بطريقة خاطئة، على عكس شقيقتك. في داخلك صوت يحاول التحدث إليكِ وليس خطأً أن تستمعي إليه لذا أفسحي المجال لفضولك وحاولي استكشاف نفسك أكثر.
بعد مضي شهر
سارة: لقد أصبح قلقي أقل كثيراً منذ تلك الجلسة. كانت هذه الزيارة التي أردتُ القيام بها منذ أشهر مصدر سعادة لي، فلم أتخيل أن استماع أحد ما إليّ سيجعلني مرتاحةً إلى هذه الدرجة؛ كما فوجئت في الحقيقة بمدى السلاسة التي تمكنت من التحدث بها. من ناحية أخرى فإن الحديث عن فترة مؤلمة من طفولتي أعاد لي الذكريات. أعتقد أنني سأبدأ العلاج النفسي لأنني أريد التخلص من مشكلتي؛ لكني سأمنح نفسي بعض الوقت لأنني أخاف من الضيق الذي ستثيره استعادة الماضي في نفسي.
روبرت نيوبورجيه: تمنحنا حالة سارة الفرصة لتذكر قاعدة مهمة في العلاج النفسي، وهي عدم محاولة علاج أحد الأعراض دون فهم دوره. قد يُنصح شخص مصاب برهاب القيادة على الطرق السريعة كما سارة، باستشارة مختص في العلاج السلوكي لكن نظرة فاحصة تبين لنا أن هذا العرَض الذي تعاني منه هو محاولة للتوفيق بين حاجتها إلى تحفيز نفسها والتخلص من الشعور بالذنب والأفكار الأخرى التي تسيطر عليها من جهة، والحاجة إلى الاستقرار والأمن التي تمثلت بخوفها من مغادرة المنزل من جهة أخرى. إن محاولة السيطرة على أعراض رهابها تعني المخاطرة بظهور أعراض أخرى جديدة بدلاً عنها، لذا من الأفضل مساعدتها من خلال العلاج النفسي لفهم تناقضاتها الداخلية، وعندما ينتهي دور هذه الأعراض ستختفي تلقائياً.