لما كانت مرحلة الطفولة هي الأساس الذي يُبنى عليه كل شيء لاحق، فإن المؤثرات التي يتعرّض لها الطفل -سواء أكانت إيجابيةً أو سلبيةً- يمكن أن تؤثّر عليه في مراحل عمره المختلفة.
لذلك، فإن ما يتعرّض له في أثناء طفولته يكون له علامة بارزة في حياته - سواء على المدى القصير أو الطويل، فإذا اكتُنف الطفل بالاحتواء والتعاطف؛ أثّر ذلك إيجابياً على نموه النفسي والعاطفي، بينما يكون لإساءة معاملته -سواء كانت مباشرةً كالضرب، أو غير مباشرة كالعنف النفسي- آثار غير محمودة.
سوء معاملة الأطفال
يُعتَبر سوء معاملة الأطفال واحداً من تلك العوامل ذات الآثار السلبية على المدى القصير والطويل، لما له من دور في إصابة الأطفال باضطرابات نفسية وسلوكية في مرحلة الطفولة والمراهقة وما بعدهما.
يتمثّل سوء معاملة الأطفال في حالات الإيذاء والإهمال التي يتعرّض لها الطفل دون سن 18 سنة، وتشمل جميع أنواع إساءة المعاملة الجسدية و/أو العاطفية، والإهمال؛ والتي تتسبّب في إلحاق أضرار فعلية أو محتملة بصحة الطفل، وتهدّد نموّه أو بقاءه على قيد الحياة.
تُعد تلك المشكلة عالميةً، وتؤدي إلى عواقبَ وخيمة تدوم مدى الحياة؛ حيث أنها تتسبب في حدوث إجهاد يؤدي إلى عرقلة نمو الدماغ في المراحل الأولى.
كيف يؤدي سوء معاملة الأطفال للإصابة باضطرابات نفسية؟
يُعتقد أن سوء معاملة الأطفال يؤثر على طفل من بين كل ثلاثة أطفال حول العالم. وجدت دراسة من جامعة برمنغهام الإنجليزية هدفت لاستكشاف العلاقة بين الإساءة أو الإهمال في الطفولة وتطور المرض النفسي، أن الأطفال الذين تعرضوا لسوء المعاملة أو الإهمال هم أكثر عرضةً بأربع مراتٍ للإصابة بأمراض عقلية خطيرة، فقد وجد الباحثون -بعد مقارنة سجلات 217,758 مريضاً تقل أعمارهم عن 18 عاماً ممن عانوا من سوء معاملة في أثناء مرحلة الطفولة، بسجلات 423,410 مريضاً لم يتعرّضوا لذلك- أن هؤلاء الأطفال كانوا أكثر عرضةً للإصابة بأمراض مثل الذهان، والفصام ، والاضطراب ثنائي القطب، بأكثر من الضعف عن أولئك الذين لم يتعرضوا لتلك الإساءة.
كذلك؛ تؤكد هذه الدراسة على أهمية استكشاف طرق الوقاية والكشف عن اعتلال الصحة العقلية لدى هؤلاء الأطفال، والتدخل المبكر لمنع النتائج السلبية.
هل سوء معاملة الأطفال يؤثر على ذكائهم العاطفي؟
أبرزت نتائج دراسة أُجريت على 811 طالباً جامعياً في الصين، لتحديد ما إذا كان هناك ارتباط بين سوء معاملة الطفل، وذكائه العاطفي، وكذلك الدعم الاجتماعي الذي قد يلقاه، أن هناك ارتباطاً غير مباشراً بينهم يؤدي إلى احتمالية الإصابة بالأمراض النفسية مستقبلاً.
تتجلّى هذه العلاقة في تأثير سوء المعاملة على الحصول على الدعم الاجتماعي، ومن ثم التأثير سلباً على الذكاء العاطفي للطفل؛ وبالتالي يزيد ذلك بشكل غير مباشر من احتمالية الإصابة وتطور المرض النفسي.
يلقي الباحثون الضوء في هذه الدراسة على كيفية تأثير سوء معاملة الأطفال على الإدراك والعواطف والسلوكيات؛ ما يؤدي إلى انخفاض التعاطف مع الذات، والمزيد من الضيق النفسي، وفي حين أن الذكاء العاطفي يلعب دوراً في تحسين الرضا عن الحياة، والتقليل من التوتر؛ إلا أن هؤلاء الأطفال قد لا يتمتعون به نتيجةً لنقص الدعم الاجتماعي منذ البداية.
تشير هذه الدراسة لإمكانية تخفيف الآثار السلبية لسوء معاملة الأطفال على الأعراض العقلية؛ من خلال تعزيز الدعم الاجتماعي لحمايتهم من الوقوع ضحايا للمرض النفسي لاحقاً.
سوء معاملة الأطفال والتأثير على فاعلية العلاج
تتشعّب الآثار السلبية لسوء المعاملة تلك لأكثر من الإصابة باضطرابات وأمراض نفسية وعقلية فقط، فقد أشارت نتائج دراسة من معهد الطب النفسي بكلية كينغز في لندن؛ والتي عملت على تحليل نتائج 16 دراسة في هذا السياق، إلى أن سوء معاملة الأطفال قد لا يؤثر سلباً على خطر الإصابة بالاكتئاب فحسب؛ بل ويؤثر أيضاً على تطور المرض ونتائج وفاعلية العلاج.
أظهرت الدراسة أن سوء معاملة الأطفال كان مرتبطاً بخطر متزايد لتطوير نوبات اكتئاب متكررة ومستمرة، وكذلك نقص الاستجابة للعلاج، مقارنةً بالأفراد الذين لم يتعرضوا لسوء المعاملة.
هل هناك فترات من زيادة الحساسية لسوء المعاملة؟
تتعدد الأدلة على أن سوء معاملة الطفل يمكن أن يؤثر على صحته النفسية؛ لكن ماذا عن توقيت التعرُّض لهذه الإساءة؟ وهل له علاقة بتطور اضطراب نفسي معيّن أكثر من آخر؟
في دراسة هدفت للبحث في هذا الأمر، وجد الباحثون أنه على الرغم من أن سوء معاملة الأطفال -جسدياً أو عاطفياً- في أي عمر يمكن أن يؤدي إلى عواقبَ وخيمة طويلة الأمد؛ إلا أن هناك أدلةً على أن توقيت ومدة وشدة سوء المعاملة لهم دور أيضاً، فسوء المعاملة الذي يحدث في وقت مبكر من الحياة ويستمر لمدة أطول، يرتبط بأسوأ النتائج.
أشارت الدراسة إلى أن سوء المعاملة في مرحلة الطفولة المبكرة (بين الولادة وسن الرابعة) ينبئ بمزيد من أعراض القلق، وذلك الذي يحدث في أواخر الطفولة أو المراهقة المبكرة (بين سن 10 و12) ينبئ بمزيد من أعراض الاكتئاب في مرحلة المراهقة.
أيضاً، فإن سوء معاملة الأطفال الذي يحدث في وقت مبكر من النمو وكذلك المراهقة المتأخرة، قد يزيد من خطر الإصابة باضطرابات المزاج والسلوكيات المرتبطة بها في مرحلة البلوغ.
ليس بأمر هيّن
أخيراً؛ إن سوء معاملة الأطفال ليس بأمر هيّن يمكن التغاضي عنه أو علاجه بسهولة، وذلك لأن بنية الطفل النفسية والجسدية الغضّة تمتص كثيراً مما يتعرّض له، ومن ثم تتشكّل نفسيته وأفكاره وتصوّره لنفسه وحياته الحالية والمستقبلية، فبمزيد من الدعم والتعاطف يمكن خلق بيئة صحية أكثر للأطفال، تساعدهم على النمو الصحي نفسياً وجسدياً وسلوكياً.