كيف يمكن لطفل في الخامسة أن يفكر في إنهاء حياته؟ وما الذي يجعله يقدِم على هذا الفعل؟ وما سبل حماية الأطفال من الأفكار والسلوكيات الانتحارية؟ يتحدث مختص المرونة النفسية بوريس سيرولنيك في كتابه "عندما يقدِم الطفل على الانتحار" (Quand un enfant se donne la mort)، عن إحدى كوارث العصر التي يتجنب الناس الحديث عنها وهي "انتحار الأطفال".
صبي يبلغ من العمر 12 عاماً يخنق نفسه بحزام الجودو الخاص به، وفتاة في التاسعة من عمرها، مريضة سكري، ترمي نفسها من النافذة، وآخر عُثر عليه مشنوقاً في غرفته. وفق إحصائية صادرة عن المعهد الوطني للبحوث الصحية والطبية (Inserm)، فقد انتحر 37 طفلاً في عام 2009 تتراوح أعمارهم بين 5-14 عاماً. وتثير حالات انتحار الأطفال المأساوية هذه؛ التي لا يمكن للعقل تصورها، الكثير من الخوف والقلق، ووفقاً لبوريس سايرولنيك فإن عدد الأطفال الذين يقدمون على الانتحار ممن هم دون سن 15، أكبر مما تشير إليه التقديرات، وهذا ما جعله يسلط الضوء على هذه المأساة ويقدم طرقاً لمنعها في كتابه الأخير.
حادث أم انتحار؟
كانت مشكلة التقليل من أهمية انتحار الأطفال أولى النقاط التي أشار إليها الطبيب النفسي بوريس سايرولنيك في تقريره إلى الحكومة الفرنسية، فعندما يعبر طفل ما الطريق دون أن ينتبه إلى السيارات، أو يمد نفسه خارج النافذة أكثر من اللازم نتجاهل أن سلوكيات كهذه هي سلوكيات انتحارية يحاول من خلالها الاقتراب من الموت، لذا فإن الكثير من المآسي التي تقع وتصنف على أنها حوادث هي ليست كذلك في حقيقة الأمر. ومن ثم فإن 20% فقط من حالات انتحار الأطفال تكون مع سبق الإصرار، بينما يتخذ آخرون قراراً لحظياً بالانتحار، ويمكن أن يكون ذلك نتيجة تعرضهم لموقف مزعج أو وقوع نزاع ما. ويوضح الطبيب النفسي أكثر فيقول: "قد يُقدِم الطفل على الانتحار دون أن يكون راغباً في الموت فهو لا ينوي من خلال هذا السلوك إنهاء حياته بل تغييرها. لذلك من الضروري التمييز بين "الانتحار" و "قتل النفس".
دافع الموت ورغبة الموت
يوضح بوريس سايرولنيك أن ثمة اختلافاً في مفهوم الانتحار بين الأطفال والبالغين. لا يدرك الطفل قبل سن الثامنة الطبيعة الحتمية للموت؛ إذ يظن أنه مجرد حالة غياب مؤقت، وحتى عندما يكبر أكثر فإن ما يوجهه نحو الانتحار هو دافع الموت وليس الرغبة فيه ولذلك فإنه يمكن لدافع بسيط أن يوجهه نحو السلوك الانتحاري، ويمكن لدافع بسيط في الوقت ذاته أن يحميه من هذا السلوك. ومع ذلك إذا كان الدافع وراء هذا السلوك المأساوي صغيراً في بعض الأحيان، فإن ثمة أسباباً جوهريةً قد أدت إلى معاناة نفسية لدى الطفل، ووفقاً للمختص فإن هذه المعاناة ترجع إلى عدة عوامل.
تعرُّض الطفل للإهمال وإساءة المعاملة
بالنسبة إلى بوريس سيرولنيك فإن السلوك الانتحاري عند الأطفال هو ذو منشأ بيولوجي ونفسي واجتماعي أيضاً. أما من الناحية البيولوجية فهناك ما يُسمى وفقاً للطبيب "علم الوراثة المرتبط بالانتحار" إذ يوضح أن بعض الأطفال يكون إنتاج هرمون السيروتونين لديهم (وهو ناقل عصبي له علاقة باضطرابات القلق بصورة خاصة) أقل من غيرهم، ويتسمون بسبب ذلك بحساسيتهم وعاطفتهم الزائدة عن الحد وحتى أنهم قد يصابون باضطراب الشخصية الحدية. ومع ذلك يوضح الطبيب النفسي أن الوليد المحاط ببيئة حسية مضطربة (مثل معاناة الأم من اكتئاب ما بعد الولادة أو وجود مشكلات أسرية، وغيرها) سيعاني غالباً من ضعف نمو مستشعرات السيروتونين لديه. بالنسبة إلى الناحية النفسية للسلوك الانتحاري، فإن الأرقام تشير إلى أن أكثر من نصف الأطفال ذوي السلوك الانتحاري قد عانوا من العنف التربوي مثل التعرض للهجر (31%)، أوالاعتداء الجسدي (21%)، أوالاعتداء الجنسي (8%) أو سفاح القربى (5%). وأخيراً العوامل الاجتماعية: يوضح الطبيب النفسي أن تعزيز العلاقات الاجتماعية للطفل التي أصبحت تختفي شيئاً فشيئاً اليوم يمكن أن يحميه من الأفكار والسلوكيات الانتحارية، فمن خلال مضاعفة روابط الطفل مع من حوله من أفراد العائلة والجيران والمعلمين وغيرهم، سيتمكن من إيجاد شخصية تمنحه الطمأنينة ويرتبط بها.
كيف نحمي الأطفال من الانتحار؟
بناءً على كل هذه الملاحظات، تمحورت ملاحظات الطبيب النفسي حول ثلاثة أهداف رئيسية وهي: تعزيز الاستقرار العاطفي للأطفال، ومشاركتهم عملية التعلم، وتنمية علاقاتهم الاجتماعية.
ومن الناحية العملية يقترح المختص تمديد فترة إجازة الأمومة أو الأبوة تجنباً للنقص الحسي المحتمل الذي قد يتعرض له الوليد نتيجة غياب الأبوين، ومن الضروري أن يتدرب الأبوان على التعامل مع مرحلة الطفولة المبكرة بحيث يتمكنان من ملاحظة أي أعراض نفسية تظهر على الطفل. كما يصر المختص على ضرورة التعامل مع المشكلات التي تواجه الأطفال في المدرسة؛ إذ إنها تؤثر في أكثر من طفل من بين كل عشرة أطفال، ويشير في هذا السياق إلى أهمية عدم الضغط على الطفل بشأن درجاته المدرسية لأن الموضوع قد يصبح وصمة عار بالنسبة إليه، وعدم إهمال مشكلات التنمر التي قد يتعرض لها في المدرسة، إضافة إلى ضرورة إشراكه في الأنشطة الرياضية والثقافية والاجتماعية.
ويختتم الطبيب قائلاً: "لنهتم بنفسية أطفالنا قبل فوات الأوان".