ملخص: نتعمّق في هذا المقال في تفكيك تعقيدات الصدمات النفسية، ونستكشف العوامل التي تسهم في تعريض البعض إلى الندوب غير المرئية والتحديّات المصاحبة لها، أو حتى في حمايته منها.
محتويات المقال
من النادر أن يعيش الأفراد حياتهم دون أن يواجهوا إحدى صور الصدمات النفسية؛ ولكن ثمة صدمات يمكن أن تترك ندوباً لا تبرأ في النفس. إنها تجربة مؤلمة قد تغيّر مسار الحياة، وفي حين أن العديد من الأفراد يُظهرون مرونةً واضحة، ويتعافون في نهاية المطاف من الجروح التي سبّبتها الأحداث المؤلمة، فإن ثمّة حقيقة أخرى مؤسفة مفادها أن البعض الآخر لا يستطيع الشفاء تماماً؛ إذ تطرأ تغييرات نفسية عميقة في علاقة الشخص مع نفسه والآخرين، وتتغيّر نظرته نحو العالم الخارجي. ولكن ما الذي يجعل بعض الناجين من الأحداث الصادمة محصّنين أكثر من غيرهم من تأثيرات الصدمات وندوبها النفسية؟ هذا ما سنتعرّف إليه في هذا المقال.
ما هي الصدمة النفسية؟ وما الأسباب الكامنة وراءها؟
الصدمة النفسية (Trauma) هي استجابة عاطفية لحدث فظيع مثل حادث أو اغتصاب أو كارثة طبيعية. وعلى عكس التحديّات العادية للحياة، تميل الأحداث الصادمة إلى الحدوث فجأة وعلى نحو غير متوقّع؛ مثل فقدان أحد الوالدين خلال الطفولة، وحوادث السيارات، والعنف الجسدي، والاعتداء الجنسي، والوفاة غير المتوقّعة لأحد أفراد الأسرة؛ ما يشكّل تهديداً خطراً على حياة الفرد أو صحته النفسية؛ إذ قد يتعرّض للأذى الجسدي أو يفقد حياته، أو يتجرّع ألماً نفسياً كبيراً يُضعف إحساسه العام بالأمان في محيطه.
وتشمل الاستجابات الطويلة المدى مشاعرَ غير متوقّعة، واسترجاع ذكريات الماضي، والعلاقات المتوتّرة، وحتى الإصابة بأعراضٍ جسدية مثل الصداع أو الغثيان. وفي حين أن هذه الأعراض تمثّل ردود أفعالٍ طبيعية تجاه الأحداث الصادمة، فقد يواجه بعض الناس صعوباتٍ في تجاوز ضوائقهم النفسية، والمضيّ قدماً في حيواتهم.
ثمّة عدة مفاهيم خاطئة حول الصدمات النفسية؛ ومن بينها نجد الاعتقاد بأن تجارب الطفولة جميعها صادمة؛ ما يدفع الناس إلى الخلط بين الصعوبات العادية التي يمكن أن يواجهها أيّ شخصٍ في طفولته والصدمة النفسية الحقيقية. هذا بالإضافة إلى اعتقادٍ آخر حول استحالة النجاة من عواقب الصدمات النفسية أو علاجها؛ وهو الأمر الذي يجعل البعض يتبنّى عقلية الضحية، ويتجاهل إمكاناته للنموّ من خلال الشدائد.
اقرأ أيضاً: ما تأثير الصدمات المالية في صحتك النفسية؟ وكيف تتعامل معها؟
مَن هم الأشخاص الأكثر تعرّضاً إلى الصدمات النفسية؟
حين نتحدّث عن الأشخاص الأكثر تعرّضاً إلى الصدمات النفسية، فإننا نشير إلى عوامل الخطر التي تزيد احتمالية إصابة الأفراد بالصدمات النفسية أو مواجهة صعوباتٍ في تجاوزها؛ وهذه أبرزها:
- حالات الإعاقة أو التأخّر العقلي لدى الأطفال التي قد تزيد الأعباء على الوالدين.
- العزلة الاجتماعية للأسرة.
- عدم فهم الوالدين احتياجات الطفل في أثناء نموّه.
- العنف المنزلي والتفكك الأسري.
- الفقر وما يترتب عليه من حرمان اجتماعي واقتصادي.
- تعاطي المخدرات.
- معاناة أحد الوالدين مشكلات نفسية مثل التوتّر والاكتئاب.
لِمّ يتجاوز البعض صدماته النفسية أكثر من الآخرين؟
يظلّ بعض الناجين من الأحداث الصادمة يحملون ندوباً نفسية عميقة في معظم مراحل حيواتهم؛ بينما يُظهر آخرون مرونةً عالية وتعافياً على نحوٍ أفضل. تؤدّي عوامل مختلفة أدواراً حاسمة في مرحلة ما قبل الصدمة؛ وتشمل تلك العوامل: الظروف الاجتماعية، والعمر، والجنس، والدعم الاجتماعي، والصحة الجسدية والنفسية للفرد وأسرته. وعلى نحوٍ عام، يُعد كلٌّ من التقدّم في السن، والصحة النفسية والجسدية الجيّدة، والأسرة أو العلاقات والروابط العائلية الوثيقة، من بين عوامل الحماية من الصدمات.
أمّا فيما يتعلّق بالصدمة نفسها، فإنّ مدّة التعرّض إليها وشدّته عوامل ذات أهميّة في تحديد قدرة الشخص على التعافي؛ إذ يمكن أن يتعافى معظم الأفراد دون الحاجة إلى العلاج. غير أن ما يحدث بعد الصدمة يمكن أن يؤثّر على نحو كبير في التعافي، فأمور مثل نقص الدعم، أو سوء المعاملة، أو المحن الإضافية؛ مثل انهيار الأسرة وتفكّكها، أو البطالة أو الفقر أو التشرّد، يمكن أن تعوق التعافي.
وفي حين أن أغلب الناجين يتعافون ويعيشون حياة مُرضية، أو يجدون هدفاً جديداً في الحياة، وهو ما يُعرف بـ "نمو ما بعد الصدمة" (Post-traumatic Growth)، يعاني آخرون ندوباً مدى الحياة على الرغم من العلاج بسبب شدّة تجاربهم ووجود تحديّات مستمرّة في حيواتهم.
وفي هذا السياق، يوضّح الكاتب والمعالج النفسي الأميركي، شون غروف (Sean Grover)، إنّ بعض الصدمات تترك بصمة تدوم ويمكن أن تغيّر مسار حياة الأفراد؛ ما قد يقوّض قدرتهم على الشعور بالأمان أو الثقة بالآخرين أو العيش دون خوفٍ ورعب.
ما تأثير الصدمات النفسية في حياة كلٍ منا؟ وكيف نعالجها؟
تشير المعالجة النفسية، سلمى المفتي، إلى تأثير ندبات الحياة التي يسبّبها التعرّض إلى صدمة نفسية عند بعض الأشخاص؛ حيث تكون أبرز التأثيرات التي تلاحظها في ممارستها العلاجية متمثّلة في عدم الرغبة في المواجهة والهروب من الذكريات المؤلمة وعدم الرغبة في التحدّث عنها. وتتمثّل باقي التأثيرات فيما يلي:
- عدم الإقبال على الحياة كما في السابق.
- عدم الرغبة في الدخول في العلاقات.
- التعرّض لصور ذهنية مزعجة من مواقف حياتية سابقة.
- انعدام الثقة في الآخرين.
- انخفاض الشعور بالاستحقاق والقيمة الذاتية.
وتضيف إن صعوبة الاستجابة إلى العلاج النفسي قد تظهر عند الأشخاص الذين بقوا عالقين في مشاعر متعلّقة بالصدمة، وبخاصة صدمات الطفولة. وفي بعض الحالات، يزيد بعض المحفّزات في الحياة الروتينية وطأةَ الصدمة النفسية؛ لكن ذلك لا يعني استحالة التعافي.
وعلى الرغم من التحديّات التي قد تتّسم بها مرحلة العلاج، تعطي أنواعّ عديدة من العلاج النفسي مثل العلاج المعرفي السلوكي (CBT)، والعلاج بالتعرض السرّدي (Narrative Exposure Therapy)، الأمل للمصابين. وبالإضافة إلى العلاج النفسي المتعارف عليه، يمكن أن تكون الفنون التعبيرية مثل الكتابة الإبداعية أو المسرح، ذات تأثير علاجي مُساعد على التعافي و تحسين القدرة على مقاومة الصدمات.
اقرأ أيضاً: دليلك لتعزيز مرونتك النفسية ضد الصدمات
وأخيراً، من الضروري أن ندرك أن الشفاء الكامل قد لا يكون مقدّراً لجميع من عانوا الصدمات النفسية. فالعديد من الأفراد يتّجهون نحو طريق التعافي، ويُظهرون مرونة عالية بل ونموّاً ملحوظاً بعد الصدمة؛ بينما يواجه البعض الآخر ندوباً مدى الحياة بسبب انعدام عوامل الحماية لديهم مثل الروابط العائلية الوثيقة أو الظروف الاجتماعية الملائمة.