ملخص: قد يجري بعض الناس حوارات ذاتية مع أنفسهم في كثير من الأحيان؛ بينما لا يواجه آخرون هذا النوع من الحوارات على الإطلاق. يُدعى هذا الحوار اللغوي الذهني دون كلمات منطوقة باسم "المونولوغ الداخلي"، فما هو بالتحديد؟ وكيف يفكر الأشخاص الذين لا يمتلكونه؟ وما فوائده؟ ومتى يصبح مدعاة للقلق؟ إليك ما تحتاج إلى معرفته عن هذه الظاهرة.
محتويات المقال
إن جلست بهدوء تفكر في أمر ما، فهل تسمع في أغلب الأحيان صوتاً يتحدث داخل رأسك؟ يكشف هذا السؤال الذي يبدو بسيطاً عن جانب معقد ومثير للاهتمام من الإدراك البشري، فإن أجبت بِـنعم، فهذا يعني أنك تمتلك مونولوغاً داخلياً؛ أي أنك تسمع صوتاً؛ صوتك أنت، يتحدث إليك عندما تفكر في أمر ما. يكون هذا الحوار الداخلي عبارة عن دفق مستمر من الأفكار أو الكلمات أو العبارات التي تساعدك على معالجة المعلومات أو اتخاذ القرارات أو تحليل المواقف.
من ناحية أخرى، إن أجبت بِـلا، فهذا يعني أنك لا تمتلك مونولوغاً داخلياً؛ أي أنك تعالج المعلومات والأفكار بطرائق مختلفة هادئة، إن صح التعبير، لا تشمل التعبير اللفظي عنها. يمكن القول إن الأمر محيّر بعض الشيء، فلا بُد لشخص اعتاد تلك الثرثرة كلها في دماغه أن يستغرب كيف لا يسمع بعض الناس أصواتاً داخل عقولهم، وكذلك الأمر على الضفة الأخرى، فلا بدّ من أن يستغرب الناس الذين لا ينخرطون في حوارات داخلية أن يختبر البعض هذه الضجة الذهنية كلها. حسناً، دعونا نتعمق في مفهوم المونولوغ الداخلي، ونكتشف تجارب مَن لا يملكونه، ونناقش الآثار المترتبة على هذا الاختلاف في الإدراك البشري.
اقرأ أيضاً: 7 سلوكيات تؤدي إلى إغراقك في مشاعر الاستياء فاحذرها
ما هو ذلك الصوت الذي يتردد داخل ذهنك؟
يُشار إليه بـ "المونولوغ الداخلي"، ويُعرف أيضاً باسم "الحوار الداخلي" أو التفكير اللفظي"؛ وهو السرد أو الحوار الذي يجريه الفرد مع نفسه دون الحاجة إلى تحريك الفم لتكوين الكلمات الأساسية؛ أي يجري الشخص هذا الحوار داخل ذهنه بلغة مكتملة نغمةً وتصريفاً لكن دون التعبير العلني والمسموع عنها.
ويُعتقد أنه يتطور في مرحلة الطفولة بالتزامن مع تطور المهارات اللغوية التعبيرية؛ وهي القدرة على إيصال الأفكار والرغبات بوساطة الوسائل اللفظية وغير اللفظية. ويُعتقد أيضاً أن آلية التفريغ الطبيعي (Corollary discharge)؛ وهي نوع من الإشارات الدماغية، تتحكم جزئياً بالمونولوغ الداخلي؛ أي أن هذه الإشارات تساعد على التمييز بين التجارب الحسية المختلفة، سواء كانت تجاربَ داخلية أو خارجية.
وكما ذُكر سابقاً؛ لا يمتلك كل شخص مونولوغاً داخلياً، وحتى الذين يفعلون ذلك، فثمة تباين كبير بينهم في عدد المرات التي يختبرون فيها هذا الحوار الداخلي. عموماً، حدد الباحثون 3 جوانب أو أبعاد تصف كيفية انخراط الناس في التفكير اللفظي الداخلي؛ وهي:
- الكثافة: قد تختلف كثافة التفاصيل التي تحدث في الحوار الداخلي من مرة إلى أخرى. على سبيل المثال؛ قد يكون الحوار الداخلي في بعض الحالات مختصراً وفي صلب الموضوع، ويستخدم كلمات قليلة أو جملاً مجزأة؛ في حين يكون في أحيان أخرى أكثر تفصيلاً وحيوية ووصفياً، ويتضمن كلمات واضحة وفقرات كاملة.
- الحوار: أي يتعلق فيما إذا كنت تفكر بصوت واحد أو عدة أصوات. ففي بعض الأحيان، قد تسمع صوتك فقط في رأسك؛ أي تتحدث مع نفسك وتفكر دون إشراك الآخرين على نحو مباشر؛ مثل أن تقول لنفسك أشياء عليك تذكرها، أو تمنح نفسك خطاباً تشجيعياً قبل تنفيذ مهمة ما. في حين يتضمن الكلام الداخلي الحواري في بعض الأحيان التفكير بأصوات أخرى مثل إجراء محادثات خيالية مع الناس؛ أي أن تفكر في عدة وجهات نظر في آنٍ واحد.
- النية: أي هل تستخدم المونولوغ الداخلي عمداً أو دون قصد؟ على سبيل المثال؛ قد تستخدم المونولوغ الداخلي في بعض الأوقات عمداً مثلما يحدث عندما تدرس وتكرر المعلومات في ذهنك بوعي لتتذكرها، أو عندما تتدرب على تكرار جمل ما لإلقائها في العمل أو في لقاء اجتماعي. من جهة أخرى، قد يحدث الكلام الداخلي دون قصد، وذلك عندما تخطر في بالك أفكار دون أن تحاول التفكير فيها. يبدو الأمر كما لو أن ذهنك يتجول، فتأتي الأفكار العشوائية وتذهب دون أن توجهها.
اقرأ أيضاً: لماذا عليك ألا تواجه مشكلاتك بالحلول السريعة؟ وما البديل بحسب الخبراء؟
ما مدى انتشار المونولوغ الداخلي؟
من الصعب جداً دراسة هذه الظاهرة؛ إذ إن التنقيب في عقول الآخرين لتحديد كيف يفكرون أو بماذا يفكرون على نحو دقيق أمر صعب؛ بل حتى الناس أنفسهم قد يستصعبون في بعض الأحيان تحديد فيما إذا كانوا يمارسون هذا الحوار الداخلي مع أنفسهم أو لا. في الواقع، حتى الطرائق المستخدَمة للتحقيق في هذا الموضوع قد أدت إلى نتائج غير متسقة؛ إذ توصل الباحثون إلى إجابات مختلفة حول مدى انتشار هذه الحالة.
على سبيل المثال؛ وجدت دراسة منشورة في دورية الوعي والإدراك (Consciousness and Cognition) أنها ظاهرة شائعة يختبرها الناس جميعهم في كثير من الأحيان، على الرغم من أنها تختلف من شخص إلى آخر ومن مناسبة إلى أخرى.
في المقابل، يقول أستاذ علم النفس في جامعة نيفادا، راسل هيرلبورت (Russell Hurlburt)، إن المونولوغ الداخلي يحدث عند 30-50% من الناس؛ لكنه قد لا يحدث في معظم الأوقات، وقد يختبره بعض الأشخاص أكثر من غيرهم؛ إذ ثمة اختلافات فردية كبيرة جداً بين الناس فيما يتعلق بهذا الموضوع.
اقرأ أيضاً: 6 عبارات يقولها الأشخاص الذين يستصغرون أنفسهم، فما أسباب هذا الشعور؟
كيف يفكر الأشخاص الذين لا ينخرطون في المونولوغ الداخلي؟
عدم امتلاك مونولوغ داخلي لا يعني عدم القدرة على توليد الأفكار؛ وإنما يعني أن الشخص يفكر بطرائق مختلفة؛ أي أن الإشارات العصبية في الدماغ تساعد على تمييز التجربة الحسية دون ترجمتها لغوياً. في الواقع، حدد الباحثون 5 طرائق للتفكير على الرغم من أن بعض الناس تختبر مزيجاً منها أو جميعها؛ وهي:
- الكلام الداخلي: مثلما شُرح آنفاً؛ يحدث التفكير فيه باستخدام الكلمات أو الجمل دون التحدث بصوت عالٍ.
- الرؤية الداخلية أو الصور المرئية: التفكير باستخدام رموز بصرية. على سبيل المثال؛ أن ترى قوائم المهام في رأسك دون سماع أفكارك، أو أن تتخيل مكان الإجازة في أثناء وجودك في العمل. يمكن القول إنه مثل امتلاك شاشة داخل ذهنك.
- التفكير غير الرمزي: لا توجد هنا صورة أو كلمة مرتبطة بالفكرة؛ إذ يبدو الأمر كما لو كنت تفعل شيئاً مألوفاً؛ مثل تنظيف أسنانك دون الحاجة إلى التفكير في كل خطوة أو قول ذلك في رأسك، فعقلك يعرف ما يجب فعله.
- المشاعر: وجود تجربة واعية للعملية العاطفية؛ أي يتعلق الأمر بالتعرف إلى مشاعرك وفهمها. على سبيل المثال؛ إذا كنت تشعر بالسعادة حقاً بسبب حدوث شيء عظيم، فهذا يعني أن عقلك يعترف بمشاعرك المبهجة.
- الوعي الحسي: الاهتمام بالجانب الحسي من البيئة لسبب غير مهم؛ أي أن تركز على إحدى حواسك مثل اللمس أو الشم أو التذوق أو البصر أو السمع. على سبيل المثال؛ إذا كان الجو عاصفاً في الخارج، فبدلاً من ملاحظة كل شيء من حولك، قد تفكر فقط في شعور الريح على بشرتك، أو عند سماع شخص يتحدث، فقد تركِّز مثلاً على الضوء الذي ينعكس عن نظارته.
تُظهر هذه العمليات الذهنية كيف تعمل عقولنا بطرائق مختلفة، بدءاً من التفكير بالكلمات أو الصور وحتى الشعور بالعواطف والانتباه إلى ما يحدث حولنا.
اقرأ أيضاً: 5 نصائح عملية تساعدك في رحلتك للتعرف إلى أشخاص جدد
ما فائدة المونولوغ الداخلي؟ ومتى تحتاج إلى طلب المساعدة المتخصصة؟
يرتبط الحوار الداخلي بجوانب إيجابية؛ مثل ضبط النفس والتنظيم العاطفي؛ أي قد يسمح للأفراد بالتعبير عن أفكارهم وتنظيم مشاعرهم والمشاركة في التحليل النقدي للمواقف، علاوة على أنه يعد أداة للتخطيط وتحديد الأهداف وحل المشكلات على نحو أكثر فعالية.
علاوة على ذلك، يقول الاستشاري النفسي، أحمد هارون، إن فهم الحوار الداخلي أمر ضروري في علم النفس السريري والعلاج النفسي، وخصوصاً في مجال العلاج المعرفي، فهو يوفِّر نظرة ثاقبة إلى عمليات تفكير الأفراد؛ ما يسمح للمعالجين بتحديد التشوهات المعرفية، وأنماط التفكير المختلة، ومجالات التدخل اللازمة لتعديل الحوار الذاتي.
أي أنه وعلى الرغم من فوائده، فقد يكون لهذا الصوت الداخلي تأثير سلبي في بعض الأحيان، وذلك في حال كان قاسياً ومنتقداً باستمرار. بكلمات أخرى: إن لاحظت أنك تنتقد الطريقة التي تعمل بها أو تتواصل بها أو ترى نفسك بها، فمن المهم أن تراجع الكيفية التي تتحدث بها إلى نفسك وأن تعدلها.
اقرأ أيضاً: لا تقس سعادتك على معايير تقارير السعادة العالمية!
لكنّ إيقاف الحديث السلبي مع الذات ليس أمراً بسيطاً مثلما يوضح هارون، ومع ذلك، قد يساعد الانخراط في حديث داخلي أكثر إيجابية وموضوعية على تجاوز الأفكار الانتقادية، بالإضافة إلى أن التأمل وتدوين المذكرات قد يساعدانك على التخلص من الأفكار السلبية وخلق المزيد من التوازن في طريقة تفكيرك.
ختاماً، يمكن القول إن المونولوغ الداخلي عملية طبيعية ولا تشكل مصدر قلق، سواء في حال وجودها أو غيابها؛ لكن من الضروري طلب مساعدة مختص في الصحة النفسية في حال كنت تواجه صوتاً ذاتياً منتقداً باستمرار، أو تواجه أفكاراً داخلية تتعلق بإيذاء نفسك، أو تظن أنك تعاني هلوسة سمعية؛ وهي أن تسمع أصواتاً ليست موجودة بالفعل، فالهلوسة السمعية ترتبط ببعض حالات الصحة النفسية؛ مثل الفصام أو بعض الحالات العصبية مثل داء باركنسون.