وصمة المرض النفسي في السعودية: هل يمحوها التغيير؟

6 دقائق
المرض النفسي
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)

ملخص: يعاني الكثير من المرضى النفسيين في السعودية من وصمة مجتمعية ينتج عنها أحياناً تجنب التعامل معهم أو إتخاذ مواقف سلبية تجاههم، ورسخت تلك الوصمة أفكاراً خاطئة مثل اعتبار المريض النفسي مصدر خطر أو عدم الاعتراف بأهليته، إلى جانب فصل المستشفيات النفسية عن غيرها ويتعقد الأمر مع ربط المرض النفسي بقلة الإيمان، وجميعها عوامل جعلت 83% من المشخصين باضطرابات نفسية حادة لا يتلقون العلاج، لكن رغم ما سبق فهناك شعاع أمل يتمثل في ازدياد نسبة الوعي بالصحة النفسية نتيجة جهود الجهات الحكومية والخاصة لرفع الوصمة.
"أنا ما أستحي من شيء ربي اختاره لي اللي يجي من الله حياه الله، بالعكس أنا فخور بنفس إني جالس أواجه".

بتلك العبارة أجاب المؤثر الاجتماعي السعودي الشهير بـ "عبودي باد" عن سؤال أحد المتابعين الذي وجهه إليه قائلاً: "ما تستحي لما تقول أنك مريض نفسي؟"، وذلك بعدما خرج عبودي في عدة مقاطع على حسابه في سناب شات معلناً عن تشخيصه باضطراب ثنائي القطب من الدرجة الثالثة.

وقد سلط نقاش المؤثر السعودي على حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي الضوء على مدى شيوع الوصمة المرتبطة بالمرض النفسي في السعودية، فبحسب عبودي يعاني الكثير من المرضى لكن في صمت وهذا ما دفعه إلى الإعلان عن اضطرابه النفسي بشجاعة أشاد بها متابعوه.

كيف وصم المريض النفسي؟

بدايةً تؤكد المختصة النفسية السعودية نوال الجاسر أن المرض النفسي في حد ذاته لا يعد وصمة؛ فهو مثل سائر الأمراض الجسدية له أسبابه وأعراضه وتشخيصه وكذلك علاجه، لكن برأي الجاسر يسهم إهمال المرض النفسي والخوف من التصريح به والبحث عن حل له في زيادة المعاناة وتحوله إلى مرض مزمن.

وتتعدد أشكال وصم المريض النفسي وفقاً للطبيبة النفسية سناء درادكه وأولها نظرة المجتمع له بما يشملها من تمييز أو ميل إلى تجنب التعامل معه ورفض صداقته أو اتخاذ أي موقف سلبي تجاهه، وأحياناً تمتد الوصمة إلى عائلة المريض النفسي بأكملها، إلى جانب نظرة المريض إلى نفسه فأحياناً تكون تلك النظرة دونيه تجعله يفقد ثقته بنفسه بالأخص عند مرضى الاكتئاب، وأخيراً النظرة المؤسسية التي تشمل السياسات الحكومية والخاصة الموضوعة وتتضمن رفض توظيف الأشخاص الذين يعانون من مشكلات نفسية، أو من ناحية أخرى نقص تمويل خدمات الصحة النفسية بالمقارنة مع الخدمات الصحية الأخرى.

وفي ظل انتشار تلك الوصمة للمرض النفسي تشيع الأفكار الخاطئة المتعلقة بالمريض النفسي وأهمها بحسب الطبيب النفسي سامي سعد اعتبار المريض النفسي مصدر خطر لا يمكن التنبؤ بأفعاله إلى درجة تتنافى مع الواقع، وكذلك فكرة عدم الكفاءة فيتعامل معه أنه لا يمتلك الوعي الكافي ليكون حريصاً على مصلحته الشخصية أو مصلحة من حوله، كما يعتقد الكثيرون أن المرض النفسي سيستمر بنفس حدته طوال حياة المريض ولا يمكن التعافي منه.

كما يتحمل القطاع الطبي جزء من هذه الوصمة من وجهة نظر الطبيب النفسي ياسر الدباغ قائد الاستراتيجية الوطنية السعودية للصحة النفسية، ويرجع ذلك إلى فصل مستشفيات الصحة النفسية عن سائر المستشفيات ما يرسخ الأفكار المتعلقة بوصم المريض النفسي، والحل وفقاً للدباغ يتمثل في دمج عنابر العلاج النفسي في المستشفيات وعدم عزلها.

اللافت للانتباه كذلك لجوء بعض الأطباء النفسيين السعوديين إلى إطلاق تسمية "عميل" على مراجع العيادات النفسية، وذلك وفقاً للطبيب النفسي محمد الغامدي قد يكون مقبولاً إذا كان في نطاق الاستشارات النفسية، لكن عندما يستخدم مع المرضى فهو يعزز وصمة المرض النفسي فلفظ "عميل" لا يُطلق على مريض السكري مثلاً.

الأسطورة الشائعة، المريض النفسي مجنون!

"ما تستحي على وجهك أنا مجنون لأراجع طبيباً نفسياً".

رد صديق الكاتب السعودي سطام الثقيل عليه بهذه الكلمات عندما نصحه بالذهاب إلى الطبيب النفسي بعدما شكى له من بعض الضغوط النفسية التي يعاني منها، وتلك النظرة إلى الطبيب النفسي ليست فردية فهي شائعة وتتسبب في تهرب الكثير من المرضى من علاج اضطراباتهم النفسية.

وأحياناً وفقاً لاستشاري الطب النفسي عبد السلام الشمراني تفضل الأسرة تبرير مرض أحد أفرادها نفسياً بأنه مصاب بالسحر أو بالمس أو بالعين لتتجنب التصريح بأنه مصاب باضطراب نفسي، ما يؤدي إلى تدهور حال المريض حتى عندما يتم اللجوء إلى العلاج النفسي لاحقاً تكون حالته أصعب مقارنة بما كان سيحدث عند التدخل المبكر.

وبحسب الشمراني السبب في شيوع وصم المريض النفسي بالجنون هو الخلط بين الاضطرابات الذهانية التي تمثل النسبة الأقل بين الاضطرابات النفسية في السعودية، والاضطرابات النفسية الأخرى التي تُعالج باللجوء إلى العلاج السلوكي أو الدوائي.

قلة الإيمان والصحة النفسية، محاولة للفهم

تعد هذه الجزئية شائكة وحساسة ومعقدة أيضاً في فهمها ولذلك يساعدنا استشاري الطب النفسي عبد الله السبيعي على فهمها وينطلق من وضع نقطة بداية واضحة هي أن المرض النفسي مثله مثل سائر الأمراض العضوية، فالنفس تمرض مثلما يمرض الجسد، وهنا ينتقل إلى جزئية تالية هي أن اعتبار المرض النفسي نقص في التدين فكرة مغلوطة مشيراً إلى أن ما يفيد من الدين للصحة النفسية هو الإيمان، ففي حال كان المريض مؤمناً سيكون أكثر قدرة على قبول الأحداث السلبية التي يتعرض لها ويربط السبيعي بين هذا البعد الديني وبين نهج العلاج النفسي القائم على القبول والالتزام (Acceptance and Commitment Therapy).

قد يتبادر إلى أذهاننا في الجزئية السابقة تساؤل منطقي: ما العلاقة بين اضطراب كيمياء الدماغ والدين؟ وهو ما يجيب عنه الاستشاري النفسي السعودي بتأكيده على أن التفكير السلبي الذي يستنزف النواقل العصبية في الدماغ يمكن مواجهته بالاطمئنان النابع عن الإيمان.

ويذهب السبيعي عموماً إلى أن الدين هو المسؤول عن تكوين الأفكار والسلوكيات ورؤية الشخص لحياته، مضيفاً إلى وجود فرق بين المرض العضوي والمرض النفسي يتمثل في أن الدماغ وهو العضو المسؤول عن المرض النفسي يعد مسؤولاً كذلك عن الإيمان وما يترتب عليه من أفكار ومعتقدات.

نتيجة الوصم، كثير من المرضى يتهربون من العلاج

"%83 من السعوديين المُشخصين باضطرابات نفسية حادة لا يسعون لتلقي أي نوع من العلاج".

نتيجة صادمة توصل إليها المسح الوطني السعودي للصحة النفسية الصادر عام 2019 عن مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة، حيث تجنب زيارة العيادة النفسية وفقاً للمختص النفسي أسامة الجامع يجعل المريض يدفع ثمناً أكبر من الثمن الذي يدفعه لتجنب الوصمة، فمن وجهة نظر الجامع لم تعد زيارة المعالج النفسي اليوم ترفاً أو عيباً بل هي وسيلة لإنقاذ حياة أفراد وأسر.

والأمثلة على تجنب تلقي العلاج النفسي كثيرة يذكر منها استشاري الطب النفسي سعيد عبد الوهاب عسيري مثالاً لطفل في العاشرة من عمره ظهرت عليه أعراض الوسواس القهري وكان رد فعل الأب أنه رفض الذهاب به إلى الطبيب النفسي، وهو تصرف بحسب عسيري سيجعل الابن ربما يعاني مدى حياته لأنه كلما كان التدخل العلاجي أبكر كانت النتائج أفضل.

كما يشير استشاري الطب النفسي محمد اليوسف إلى ظاهرة بارزة وهي لجوء بعض المرضى النفسيين إلى تعاطي المخدرات لعلاج الرهاب الاجتماعي والاكتئاب بدلاً من الاتجاه للعيادة النفسية، وذلك خوفاً من وصمة المرض النفسي، وعندما تتدهور حالتهم يضطرون للجوء إلى تلقي العلاج النفسي، وفي مفارقة عجيبة يكون ردهم عن سؤال الطبيب حول سبب تأخرهم في بدء العلاج أنهم سمعوا بأن الأدوية النفسية تسبب الإدمان!

هل تغيرت صورة المريض النفسي اليوم؟

يرى استشاري الطب النفسي عبد الله السبيعي أن الأمراض النفسية لم تنمُ بقدر زيادة الوعي بها في المجتمع السعودي، ففي السابق كان يطلق عليها تسميات أخرى مثل الإصابة بالحسد أو السحر، لكن أصبح هناك اتجاه اليوم نحو تشخيصها بشكل صحيح، ويضيف السبيعي أن ذلك ترافق مع قراءة الكثير من المرضى أكثر لمعرفة تفاصيل الأمراض النفسية ما يجعل بعضهم يأتي إلى العيادة قائلاً أنه يعاني من الاكتئاب، وعندما يطلب منه سرد أعراضه والابتعاد عن التشخيص الذاتي يكتشف أن تشخيص المريض كان صحيحاً.

تشير كذلك المختصة النفسية منى بخيت إلى أن الوعي المجتمعي السعودي بالمرض النفسي في ازدياد ملحوظ، ويظهر ذلك في المراجعين للعيادات النفسية الذين يستخدمون أسماءهم الحقيقية عند فتح الملف الطبي وعدم ترددهم في استخدام التقارير الطبية النفسية كمستند رسمي يقدمونه إلى الجهات الحكومية، وهو ما يعني أن الوعي وصل إلى مرحلة الخروج من مساحة الإنكار إلى تقبل المشكلة والبحث عن علاجها، لكن رغم ذلك برأيها لم يصل المجتمع بعد إلى الوعي التام المطلوب فما زالت هناك نسبة لوصم المرض النفسي.

يشاركها الرأي المعالج النفسي ريان الجهني الذي يشعر بالتفاؤل تجاه مستقبل الصحة النفسية في السعودية، وذلك نتيجة استشعاره أن الوعي بالمرض النفسي بدأ ينتشر في المجتمع السعودي ما يؤكد أن الآتي سيكون أفضل.

كيف تواجه وصمة العار للمرض النفسي؟

يرى أستاذ علم النفس المرضي بجامعة الملك سعود أحمد بن كساب بن سالم الشايع أنه لمواجهة وصمة المرض النفسي ينبغي النظر إلى الأشخاص المصابين به على أنهم شخصيات متفردة مستقلة وليسوا هم الأمراض النفسية التي أصيبوا بها، وهذا ما يوصلنا إلى التفرقة عند التعامل مع المريض النفسي بينه وبين مرضه، إلى جانب فهم ما يمر به من خبرات ناتجة عن مرضه لاستيعاب تصرفاته التي ربما تكون غامضة بالنسبة إلينا، فمثلاً فهم خبرة اضطراب الاكتئاب تجعلنا نتفهم ميل المصاب به للانعزال عن الآخرين.

كما يلفت المركز الوطني السعودي لتعزيز الصحة النفسية الانتباه إلى وجود خرافات منتشرة حول العلاج النفسي لا بد من تصحيحها، مثل القول بأنه للحالات الصعبة فقط أو أن أنواعه متشابهة، وكذلك اعتباره جلسة تنفيس بمقابل مادي مبالغ فيه، وجميعها مفاهيم خاطئة علمياً فالعلاج النفسي يساعد الأشخاص بمختلف احتياجاتهم والبعض منهم قد يحتاج فقط إلى تخفيف توتره أو مساعدته على إدراك ذاته، كما أن أنواعه تختلف باختلاف ذلك الاحتياج ومدى تطور المشكلة النفسية التي يعاني منها الشخص، ويتضمن دور المعالج النفسي الاستماع لحديث المريض حتى يتعرف إلى مشكلته ومن ثم يساعده على حلها.

أما فيما يتعلق بدور الحكومة والمؤسسات لمواجهة الوصمة قد أجرت جامعة الملك سعود دراسة علمية عن القبول الاجتماعي للمريض النفسي في المجتمع السعودي جاء فيها عدة توصيات لمواجهة وصمة المرض النفسي في السعودية، أهمها العمل على إعداد برامج تثقيفية تصحح وجهة النظر المجتمعية تجاه المرض النفسي، إلى جانب ضبط ما يطرح في وسائل الإعلام من أعمال تناقش الأمراض النفسية حتى لا تسيء للمريض.

المحتوى محمي