لطالما ارتبطت القهوة ببداية اليوم، فكانت المفتاح لانطلاقة نشطة. رائحتها وحدها كفيلة بإيقاظ الحواس ودفعك نحو العمل بطاقة سريعة ومباشرة. ومع تنامي الوعي بنمط الحياة الصحي، بدأ مشروب آخر يزاحمها على الصدارة، هو الماتشا. بمظهره الهادئ ولونه الأخضر الزاهي، ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بنصائح المؤثرين والخبراء حول فوائده وخصائصه المهدئة.
لكن بين دفعة اليقظة التي تمنحك إياها القهوة، وتركيبة الصفاء التي تشتهر بها الماتشا، يظهر سؤال مهم: كيف ينعكس اختيارك لمشروبك الصباحي على صحتك النفسية؟ لنعرف معاً في هذا المقال.
محتويات المقال
القهوة: محفز ذهني سريع بتأثيرات مزدوجة
القهوة هي أكثر المشروبات المنبهة شيوعاً حول العالم، والفضل في ذلك لمحتواها العالي من منشط الجهاز العصبي، الكافيين. ويكمن تأثيره الأساسي في دوره "مناهضاً لمستقبلات الأدينوزين".
الأدينوزين ناقل عصبي يتزايد تدريجياً في الدماغ مع طول ساعات اليقظة، فيولد إحساساً متصاعداً بالنعاس والإرهاق. ويمكن النظر إليه باعتباره مؤشراً للتعب ينبه الدماغ إلى أن وقت الراحة قد اقترب. ولأن تركيبته الجزيئية تتشابه مع الكافيين، يستطيع الأخير الارتباط بمستقبلات الأدينوزين وبالتالي حجب رسائله، ما يؤخر شعورك بالتعب مؤقتاً.
كما يقلل تناول القهوة نشاط شبكة الوضع الافتراضي في الدماغ، وهي شبكة عصبية مرتبطة بالشرود والتفكير الداخلي، في الوقت نفسه الذي يرفع فيه من الترابط بين الشبكات المسؤولة عن التحكم التنفيذي ومعالجة المعلومات البصرية.
بعبارات أخرى، يمكن القول إن القهوة تعيد توجيه موارد الدماغ من حالات التفكير الداخلي والشرود إلى التركيز والانتباه. هذا التحول العصبي يفسر سبب شعور الكثيرين بزيادة الإنتاجية واليقظة بعد تناول فنجان القهوة، خاصة في المهام التي تتطلب سرعة استجابة أو تركيزاً ذهنياً عالياً.
علاوة على ذلك، أشارت مراجعة حديثة أجراها باحثون في جامعة أنقرة ميديبول إلى وجود ارتباط بين تناول الكافيين بجرعات معتدلة وانخفاض أعراض الاكتئاب، لأنه يعزز نشاط الدوبامين والسيروتونين، وهي هرمونات مرتبطة بالمزاج، ويحسن وظائف الدماغ. لكن العلاقة بينهما هي علاقة ارتباط وليست علاقة سببية، أي إن الكافيين لا يعالج الاكتئاب لكنه قد يرتبط بمزاج أفضل لدى البعض.
ومع ذلك، فإن القهوة تعتبر سلاحاً ذا حدين، إذ يؤدي الإفراط في تناولها إلى آثار جانبية نفسية مزعجة، مثل القلق والتوتر والأرق والارتعاش وارتفاع ضغط الدم. وفي هذا السياق، أشارت دراسة حديثة أجراها باحثون من جامعة بكين للعلوم العصبية إلى أن الإفراط في تناول القهوة قد يعرقل علاج الاكتئاب، إذ وجد الباحثون أن العلاجات السريعة للاكتئاب، مثل دواء الكيتامين والعلاج الكهربائي، تعتمد اعتماداً أساسياً على ارتفاع مادة الأدينوزين في الدماغ، وتعمل هذه المادة باعتبارها منظماً يهدئ النشاط العصبي ويفتح الباب أمام تحسن المزاج سريعاً.
عموماً، حددت إدارة الغذاء والدواء الأميركية الحد الأعلى لاستهلاك الكافيين بـ 400 ميليغرام يومياً، أي ما يعادل 4-5 فناجين قهوة متوسطة الحجم. كما يوصي استشاري الصحة النفسية، حاتم آل زاحم، بتجنب الكافيين في الساعات المتأخرة، خصوصاً لمن يعاني الأرق أو النوم المتقطع، لأن الجسم يحتاج إلى نحو 5 ساعات ليخفض تركيز الكافيين في الدم إلى النصف.
على سبيل المثال، إذا تناولت كوب قهوتك عند الساعة 1 ظهراً، فبحلول 6 مساء يبقى نصف الكمية في بلازما الدم، وعند 11 مساء لا يزال ربع الكمية موجوداً في جهازك العصبي. قد يضعف هذا التراكم المتبقي من الكافيين في الدم جودة النوم، ويزيد فرصة الاستيقاظ المتكرر، ويؤخر الدخول في مرحلة النوم العميق.
اقرأ أيضاً: متى تحسن القهوة المزاج ومتى تجرك نحو الاكتئاب؟
الماتشا: توازن بين التركيز والهدوء لتعزيز الصحة النفسية
الآن، لننتقل إلى الماتشا، ذلك المسحوق الأخضر الياباني الذي تغزو فيديوهات وصفات تحضيره منصات التواصل الاجتماعي.
يحتوي الماتشا على الكافيين أيضاً لكن بكميات أقل من القهوة، بالإضافة إلى مركب إل-ثيانين، وهو حمض أميني يعزز الاسترخاء دون نعاس. يعمل هذا الثنائي معاً على خلق حالة من "اليقظة الهادئة"، من خلال:
- تعزيز "موجات ألفا" التي ترتبط بحالة صفاء ذهني واسترخاء يقظ.
- زيادة نشاط "حمض غاما أمينوبيوتيريك"، الذي يساعد على خلق توازن بين الإثارة والهدوء، ما يخفض القلق دون إحداث النعاس.
- يقلل الثيانين آثار الكافيين السلبية (الارتعاش والقلق وارتفاع ضغط الدم) ويبطئ امتصاصه، ما يمنح طاقة أكثر ثباتاً وعدم تقلب مفاجئ في الأداء الذهني.
- تعزيز الحالة المزاجية، من خلال تحفيز إنتاج الدوبامين والسيروتونين بصورة طبيعية، وهي ناقلات عصبية مرتبطة بالشعور بالراحة والاسترخاء.
- تقليل الإجهاد التأكسدي والالتهابات، وهما عاملان يسهمان في القلق، من خلال مضاد أكسدة.
إذاً، يمكن اعتبار الماتشا خياراً داعماً للتركيز الذهني دون التسبب في التوتر أو اضطرابات النوم، وهي آثار جانبية شائعة ترافق الإفراط في تناول القهوة. ومع ذلك، فإن الإفراط في استهلاك الماتشا قد يؤدي إلى آثار سلبية مشابهة، مثل ارتفاع ضغط الدم أو القلق، خاصة عند تجاوز الجرعات الموصى بها.
اقرأ أيضاً: مشروب ياباني يساعدك على مقاومة أعراض القلق والاكتئاب
تعرف إلى مشروبات أخرى تدعم توازنك النفسي
بالإضافة إلى القهوة والماتشا، يمكن لبعض المشروبات أن تدعم صحتك النفسية إذا استخدمت بوعي، مثل:
مشروبات البروبيوتيك
مشروبات البروبيوتيك هي مشروبات تحتوي على كائنات دقيقة حية (بكتيريا نافعة) تسهم في تحسين الهضم وامتصاص المغذيات وتقوية المناعة، وتعزيز توازن البكتيريا في الأمعاء (الميكروبيوم). من الأمثلة عنها، الكمبوتشا والكفير والزبادي ومشروبات الصويا المخمرة.
قد تسهم هذه المشروبات في تحسين الصحة النفسية من خلال دعم توازن بكتيريا الأمعاء، إذ يؤثر الميكروبيوم فيما يعرف بمحور (الأمعاء–الدماغ)، وهو مسار اتصال مباشر ثنائي الاتجاه، يتواصل من خلاله الدماغ مع الجهاز الهضمي عبر العصب المبهم.
في الحقيقة، تنتج الأمعاء نحو 95% من السيروتونين، الذي يطلق عليه غالباً "هرمون السعادة"، وهو ناقل عصبي ينظم المزاج والنوم وحتى الوظائف الإدراكية كالتعلم والذاكرة. كما تنتج ميكروبات الأمعاء نواقل عصبية أخرى مثل حمض غاما أمينوبوتيريك، الذي يساعد على التحكم في مشاعر الخوف والقلق. في حال اختلال توازن الميكروبيوم، يمكن أن يحفز الميكروبيوم غير الصحي إنتاج هرمون التوتر (الكورتيزول)، ما يؤدي إلى اضطراب النوم والقلق وصعوبة التركيز.
وقد أفادت دراسة حديثة أجراها باحثون من جامعة لايدن الهولندية، وشملت 88 شاباً وشابة أصحاء، بأن تناول البروبيوتيك يومياً يمكن أن يخفض حدة المزاج السلبي، ويقلل مشاعر القلق والتوتر والإرهاق، لدى البالغين الأصحاء بعد الأسبوع الثاني.
العصائر الطبيعية الغنية بمضادات الأكسدة
بعض العصائر الطبيعية، الملونة على وجه التحديد مثل التوت والرمان، غنية بمركبات تعرف بمضادات الأكسدة، التي تحمي خلايا الجسم، بما فيها الخلايا العصبية، مما يعرف بـ "الإجهاد التاكسدي".
يحدث الإجهاد التأكسدي عندما تهاجم الخلايا جزيئات صغيرة غير مستقرة، تنتج عن التدخين أو التعرض لمواد ضارة أو نمط الحياة غير الصحي. فإذا أصاب خلايا الدماغ، تسبب الإجهاد التأكسدي باضطرابات مثل الاكتئاب والقلق والتدهور المعرفي. لكن مضادات الأكسدة، مثل فيتامين سي والبوليفينولات والكاروتينات، تعمل مثل "الحراس" التي تحمي الخلايا من هجوم الجزيئات غير المستقرة.
اقرأ أيضاً: ما الأطعمة التي تحارب الخوف والقلق؟