ما هي البرونويا؟ وما هو الفرق بينها وبين البارانويا؟

6 دقيقة
البرونويا
shutterstock.com/Roman Samborskyi

ثمة أشخاص يعتبرون العالَم مكان مليء بالخير، ويرون أن ظروف الحياة ستتضافر لتحقيق أحلامهم ومصالحهم، وأن الناس على اختلافهم يكنّون لهم النوايا الحسنة، وتراهم غالباً ما يعدّون التحديات المفاجئة إشارة بأن القادم أفضل بكثير لا محالة؛ بل قد يشعرون أيضاً بارتباط عميق بالكون، وكأن الحياة نفسها تنظِّم الأحداث لخدمتهم. هذه الحالة هي البرونويا (Pronoia)، فهل هي اضطراب نفسي؟ وهل يمكن أن يكون لهذه الإيجابية أضرار على الصحة النفسية؟ ماذا عن تخيُّل الأهداف والتفكير فيها إيجابياً، هل يزيد ذلك احتمالية حدوثها؟ إليك التفاصيل.

اقرأ أيضاً: هذه السلوكيات الإيجابية ليست سوى أقنعة يختفي القلق وراءها

البرونويا: عندما يعتقد الشخص أن الكون بأسره حليفه

وفقاً لدراسة منشورة في مجلة جمعية الأطباء النفسيين الأوروبيين (The Journal of the Association of European Psychiatrists) عام 2021، فإن البرونويا مفهوم نفسي جديد نسبي، صاغه عالم الاجتماع فريد غولدنر (Frid Goldner) عام 1982 لأول مرة، ويعني الاعتقاد أو الشعور أن الكون بأكمله داعم للشخص ومتوافق مع مصالحه.

ووفقاً لما شرحه غولدنر، فإن البرونويا، وقد تُسمى أيضاً "جنون الارتياب العكسي" (Reverse paranoid)، هي النقيض الإيجابي لجنون الارتياب أو البارانويا (Paranoid)، فبينما يتضمن جنون الارتياب اعتقاداً بأن الآخرين يضمرون نوايا سيئة أو يتآمرون ضد الفرد دون وجود سبب كاف للشك، فإن البرونويا تتضمن وهماً، أو اعتقاداً لا أساس له أو مبالغاً فيه، بأن الآخرين ينظرون إليه نظرة إيجابية، وأن جهوده تحظى بموافقة الآخرين وإعجابهم دون وجود دليل كافٍ.إضافة إلى الاعتقاد أن المعارف هم أصدقاء مقربون، وتفسير المجاملات أو التفاعلات العرضية على أنها روابط عميقة، وتوقُّع الدعم الثابت من الآخرين بناءً على مجاملات سطحية.

وقد ذكر الباحثون في دراسة جمعية الأطباء النفسيين الأوروبيين أن الأبحاث المتاحة عن هذه الظاهرة نادرة جداً، ولابد من إجراء المزيد من الدراسات حولها لزيادة التعريف بها، إذ غالباً ما يتم تجاهل تشخيصها بسبب عدم الاهتمام الكافي بوجودها.

جدير بالذكر أن الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5) لم يصنِّف البرونويا اضطراباً نفسياً؛ إذ تُعد عموماً ظاهرة نفسية أو حالة ذهنية تنطوي على تفاؤل مفرط.

اقرأ أيضاً: الإيجابية السامة: لا بأس إن لم يكن ثمة نور في نهاية النفق!

الإيجابية المفرطة والسلبية الشديدة: وجهان لعملة واحدة

قد تتساءل الآن ما الضرر في أن يكون الشخص ذا تفكير برونوي؟ فإن كانت السلبية المفرطة أو التشاؤمية خطراً على الصحة النفسية، فأين المشكلة في التفاؤل والإيجابية؟ في الواقع، ووفقاً للمعالج النفسي ليون سيلتزر (Leon Seltzer)، يمكن للبرونويا المعتدلة أن تعزز التفاؤل والثقة والمرونة، فهي عقلية من شأنها أن تمكِّن الأفراد من اعتبار التحديات فرصاً وتزيد ثقتهم في تحقيق أهدافهم.

ومع ذلك، فإن هذه الإيجابية المتطرفة قد تقترب أحياناً من الوهم؛ إذ تنطوي على تفاؤل مفرط وربما غير واقعي بأن الكون مسخَّر لصالح الشخص، ما قد يدفعه إلى تفسير المواقف بصورة خاطئة، أو تجاهل المخاطر المحتملة، أو توقع نتائج لا تستند إلى الواقع.

على سبيل المثال، إن الاعتقاد بأن كل شخص تقابله في حياتك يهتم بمصلحتك أو أن الكون سيعمل بطريقة أو أخرى على ضمان نجاحك وتحقيق أحلامك قد يعوقك من إدراك التحديات الحقيقية أو النكسات أو حتى النوايا السلبية من الآخرين، ما قد يؤدي إلى الإصابة بخيبة الأمل أو الإحباط عندما لا يتوافق الواقع مع مثل هذه التوقعات المثالية، أو التعرض للاستغلال والأذى بوساطة الآخرين.

وتوضِّح الاستشارية النفسية كوثر الياقوت، أن الإيجابية المفرطة سامةٌ؛ لأنها قد تضر الاشخاص الذين يمرون بأوقات عصيبة، فبدلاً من مشاركة المشاعر الإنسانية الحقيقية والحصول على الدعم غير المشروط، يعتبر الأشخاص الذين يتبنون الإيجابية السامة مشاعرهم مرفوضة أو غير صالحة تماماً.

ويجدر هنا التفريق بين البرونويا والتفاؤل، فالبرونويا هي الاعتقاد أن القدر سيصفّ إلى جانبك دائماً، ما يعزز الشعور بالدعم الخارجي والفرص المخفيّة في أحداث الحياة، في حين أن التفاؤل هو الميل نحو توقُّع حصول الأحداث والنتائج الإيجابية، وذلك بناء على القدرة الشخصية والمرونة.

اقرأ أيضاً: كيف تتجنب الإيجابية السامة وتحافظ على تفاؤل صحي؟

من أين تنبع هذه التفاؤلية المفرطة وهل لها علاج؟

يرى سيلتزر من وجهة نظره الشخصية أن البرونويا تنطوي على انعدام عميق للثقة في الذات وليس في الآخرين، فقد يعاني بعض الأشخاص الشك الذاتي الشديد ونظرة سلبية للذات، التي غالباً ما تنشأ في مرحلة الطفولة، على نحو يصيبهم بالتردد أو الشلل في اتخاذ القرارات أو الإجراءات التي قد تحسِّن حيواتهم، كما تصعِّب معالجة تحديات الحياة بفعالية، ما يمنعهم من تكريس أنفسهم لتحقيق أهداف وأنشطة مُرضية محتملة.

لذا، ولمواجهة هذا الشك بالنفس والأحكام الذاتية، قد يلجأ بعض الأفراد إلى تبني عقلية البرونويا آلية للتكيف، أي يعتقدون أن الكون والآخرين مسخرون لتحقيق أهدافهم ومصالحهم، وذلك وسيلة لإعادة بناء احترام الذات واستعادة السيطرة على تصورات الذات السلبية.

في حين يرى غولدنر أن البرونويا قد تتطور نتيجةَ التعقيد المتزايد للتفاعلات الاجتماعية وعدم اليقين المحيط بكيفية نظر الآخرين إلى بعضهم، فعندما لا يحصل الأشخاص على ردود فعل واضحة ومتسقة من الآخرين أو يشعرون بعدم الأمان، فقد يخلقون تصوّراً مثالياً لكيفية نظر الآخرين إليهم.

عموماً، قد تشوِّه هذه الافتراضات الراسخة الواقع، فتبسِّطه أو تغيّر حقيقته على نحو يسبب ضرراً محتملاً، لذا ينصح سيلتزر بإعادة تقييم كبرى للافتراضات ووجهات النظر الراسخة، أو طلب التوجيه من متخصص أو معالج نفسي قادر على تزويد الشخص بتقييم موضوعي ودقيق للموقف، ما يوفر منظوراً أكثر توازناً وأدوات للنمو الشخصي.

اقرأ أيضاً: ما هي عقلية التفكير الإيجابي؟ وكيف ترسخها في حياتك اليومية؟ 

هل من الممكن حقّاً أن يتحقق أمر ما بمجرد التفكير فيه بإيجابية؟

عندما نتحدث عن البرونويا والتفاؤل وتخيُّل أن الأهداف سوف تتحقق لمجرد التفكير فيها، فلا بُد من التساؤل: هل يمكن أن تتحقق غاية ما لمجرد أننا نتخيلها؟ أو لمجرد أننا نفكر فيها بإيجابية؟ الإجابة هي نعم إلى حد ما، وهذا ما يشار إليه عادة بالتبصُّر (Visualization)، لكنه لا يضمن أن النتيجة المرجوة سوف تتحقق بالتأكيد.

عموماً، هذا المفهوم متجذر في علمي النفس والأعصاب، وخاصة فيما يتعلق بكيفية تأثير الأفكار في السلوك والدوافع. فعندما تتخيل بوضوح واقعاً مرغوباً، فإن الدماغ قد يفسره على نحو مشابه لما يفسره عند عيش التجربة فعلياً، ما قد يؤدي إلى تنشيط المسارات العصبية المرتبطة بالعمل والتعلم اللاواعي، الأمر الذي يسهّل في المحصلة مواءمة السلوكيات مع الأهداف.

وربما سمعت عبارة "توقَّع ما تتمنى، فكلُّ متوقع آتٍ"! في الحقيقة، عندما لا تتوقع الكثير من الحياة، فمن المرجح ألا تحقق الكثير. لماذا؟ لأن ذهنك غالباً ما يكون مستسلماً، وسوف تفتقر الحافز للسعي وراء ما تريده، أما عندما تقضي وقتاً في تصوّر ما تريده لنفسك، فأنت تخلق الدافع للسعي من أجل تحقيقه، وكلما تخيلته أكثر، تمكنت من إبصاره والإيمان بإمكانية حدوثه والبحث عن الفرص المتاحة لتحقيقه.

ولكن، تخيُّل الواقع ليس سحراً، بل لا بُد من أن يقترن بالجهد والتخطيط والقدرة على التكيف. على سبيل المثال، يستخدم الرياضيون تقنيات التبصّر لتحسين الأداء من خلال ممارسة الحركات ذهنياً، جنباً إلى جنب مع التدريب البدني، وهو ما يعزز التركيز والمهارة الحركية والتحمُّل. وعلى نحو مماثل، فإن تخيل النجاح في المساعي الشخصية أو المهنية يمكن أن يزيد الدافعية، ويقلل الخوف من الفشل، ويحسن التركيز.

اقرأ أيضاً: ما هو تمرين التوقع الإيجابي؟ وكيف تطبقه لترتاح نفسياً؟

5 نصائح تساعدك على تحقيق الأهداف من خلال التخيُّل الإيجابي

من المهم أن نتذكر أن التفاؤل باعتدال قد يحفِّز على العمل بجدية أكبر لتحقيق الأهداف ويسهم في تحسين الصحة والرفاهية، في حين قد تؤدي مستويات التفاؤل الشديد إلى التهوّر أو إهمال المخاطر الناجمة عن العقبات المستقبلية.

كما ومن ناحية أخرى، قد يؤدي الإفراط في الاعتماد على تخيّل النتائج الإيجابية دون اتخاذ إجراء ملموس إلى شعور زائف بالإنجاز، ما يقلل الدافع إلى العمل، أو الإصابة بخيبة الأمل عندما لا يحدث ما هو متوقع. لذا لا بُد من المواءمة بين التصّور والخطوات العملية، مثل تحديد أهداف ذكية قابلة للتحقيق والحفاظ على المرونة عند مواجهة العقبات. وإليك بعض النصائح لتساعدك على ممارسة التبصّر:

  1. اجلس في مكان هادئ: ابدأ باختيار بيئة هادئة وخالية من المشتتات، واجلس بوضع مريح وأغلق عينيك للتخلص من المحفزات الخارجية.
  2. استرخِ ذهنياً وجسدياً: خذ أنفاساً عميقة، واسمح لنفسك بالشعور بالهدوء والتركيز. هذه الخطوة ضرورية لتحضير دماغك للتركيز بعمق.
  3. ركِّز على هدفك: تصوّر النتيجة التي ترغب فيها بوضوح قدر الإمكان، حدِّد أين أنت وماذا تفعل وكيف تسعر، وحاوِل أن تتخيل التفاصيل الحسية، ما تراه وتسمعه وتشعر به في تلك اللحظة. على سبيل المثال، إذا كنت تريد التفوق في عرض تقديمي، فتخيل الغرفة وصوتك الواثق وردود أفعال الجمهور الإيجابية.
  4. انغمس في العواطف المرتبطة بتحقيق هدفك: سواء الفرح أو الفخر أو الرضا، إذ يساعد الارتباط العاطفي على تعزيز دوافعك وإيمانك بإمكانية تحقيق ذلك. أما إذا ظهرت الشكوك أو المواقف، فاعترف بها دون إصدار أحكام واتركها تتلاشى.
  5. كرِّر ذلك بانتظام: تدرَّب على التصور يومياً لمدة تتراوح من 5 إلى 10 دقائق. بمرور الوقت، سيعمل هذا الاتساق على تدريب ذهنك على مواءمة أفعالك مع أهدافك.

بعد الانتهاء، من المفيد أن تتأمل في الأفكار التي اكتسبتها خلال جلسة التأمل، وأن تتخذ إجراءات صغيرة ومتسقة يومياً للتحرك نحو هدفك، وأن تكون واقعياً في تحديد أهداف قابلة للتحقيق للحفاظ على دافعك، وأن تتحلى بالصبر لأن التركيز بعمق على التخيل قد يستغرق بعض  الوقت؛ لكن المثابرة سوف تصقل قدرتك.

المحتوى محمي