العقاب هو إحدى الوسائل الإصلاحية في التربية فكل طفل بحاجة إلى الانضباط كي يتحلى بالسلوك القويم ويتعلم معنى حدود حريته. ولكن كيف يكون العقاب صحيحاً معتدلاً لا إفراط فيه ويؤدي الهدف التربوي المنشود؟ يجيبنا عن هذا السؤال مختصون في مرحلة الطفولة والمراهقة من خلال السطور التالية.
أيها الآباء اطمئنوا ولا تشعروا بالذنب عند حرمان طفلكم الذي يسيء التصرف من مشاهدة التلفاز أو مصادرة هاتف ابنكم المراهق الذي يستهلك يومه في تصفح وسائل التواصل الاجتماعي. وإذا كان يصعب عليكم تطبيق هذه العقوبات فتذكروا أنها جزء من تربية الطفل وتعليمه الانضباط وتعريفه بالحدود التي يجب أن يلتزم بها، وهي مهمة جداً لبناء شخصيته بطريقة سليمة كما تؤكد مختصة التحليل النفسي كلود هالموس (Claude Halmos) قائلةً: "إن العنف الحقيقي تجاه الطفل أو المراهق هو عدم عقابه عندما يتجاوز حدوده أو يسيء التصرف".
في كتابه "العنف بين الأطفال الصغار" (La Violence chez les tout-petits)، يوضح مختص طب نفس الأطفال دانيال مارسيلي (Daniel Marcelli) ضرورة البدء بتعليم الطفل حدوده في سن مبكرة جداً بين 10-12 شهراً وهي السن التي يبدأ فيها باكتساب الاستقلالية الحركية. أولاً لسلامته؛ كمنعه من محاولة نزول الدرج لوحده عندما لا تسمح له مقدراته الحركية بذلك بعد، والسبب الآخر هو تعزيز الإشباع النفسي لديه، فمنع الطفل من سلوك ما لا يكون بهدف الحفاظ على سلامته فقط بل لخلق حالة من الإحباط والشعور بالنقص بسبب عدم إكمال الفعل ما يولد لديه رغبة في معاودة المحاولة إلى حين إتمامه بطريقة سليمة آخذاً بالاعتبار ردود فعل الآخرين من حوله. وتوضح المختصة إنه بخلاف ذلك سيظن الطفل أن بناء كيانه يعني تأكيد ذاته من خلال معارضة الآخرين بدلاً من التصرف ضمن حدوده وبطريقة سليمة، وفيما يلي يطلعنا 8 مختصين على وجهات نظرهم حول ما يعد عقاباً تربوياً سليماً.
كلود هالموس (Claude Halmos):
"العقاب الصحيح هو ذلك الذي يراه الوالدان منصفاً"
"يخاف الوالدان من أن يكون رفض مطالب الطفل نوعاً من ممارسة العنف تجاهه لكن تجب معرفة أن العقاب ليس عنفاً بل هو فعل يؤكد للطفل أهمية المنع الذي فُرض عليه ويوضح له أسباب ضرورة احترامه، فيفهم الخطأ من الصواب ويتمكن من خلق تناغم بين قواعد الأسرة وقواعد المجتمع التي يجب أن يتعلمها ما يشعره براحة نفسية، لأن عدم وجود حدود واضحة لسلوكياته سيجعله في حالة دائمة من القلق والخوف من دوافعه ومن الآخرين. العقاب الصحيح هو ذلك الذي يشعر الوالدان أن بوسعهما المضي في تطبيقه لأنه عقاب عادل يتناسب مع سن الطفل والخطأ الذي ارتكبه، وفي هذه الحالة فإنه سيشعر بأن العقاب مستحَقّ حتى لو أبدى اعتراضه عليه. أخيرا؛ً في معظم الأحيان يشعر الوالدان بالذنب عندما يتصرفان بعصبية زائدة ولكن الأمر ليس بهذا السوء الذي يتخيلانه بل على العكس فردُّ فعلهما يوضح للطفل خطورة الخطأ الذي ارتكبه".
كلود هالموس (Claude Halmos): مختصة في التحليل النفسي ومؤلفة كتاب "شرح مفهوم السلطة للوالدين" (L’Autorité expliquée aux parents).
آلان براكونير (Alain Braconnier):
"العقاب التربوي يتطلب من الآباء صدقاً مع النفس"
"على الآباء أن يثقوا بأن العقاب جزء لا يتجزأ من التربية، ويدركوا أن ليس المهم حب أطفالهم لهم بل حبهم لأطفالهم وحرصهم على مصلحتهم. قد تخاف كأب أو تخافين كأم من أن العقاب قد يكون تصرفاً قاسياً في حق طفلك لكن الأمر عكس ذلك تماماً فالتعامل مع الطفل بصرامة ووضع الحدود له وتعليمه ما يجوز وما لا يجوز، كلها تصرفات تصب في مصلحته. تتطلب العقوبة العادلة أن يكون الوالدان صادقَين مع نفسَيهما ومدركَين للغاية منها فلا يحاولان تبرير تصرفاتهما مع الطفل أو التراجع عن العقوبة اللازمة للخطأ المرتكب".
ألان براكونير (Alain Braconnier): مختص في الطب والتحليل النفسي ومؤلف كتاب "الأم والابن والبنات والآباء" (Mère et Fils et des Filles et les Pères).
إيزابيل فيليوزات (Isabelle Filliozat):
"دعونا نستبدل العقوبة بالتوجيه"
"أرى ضرورة التخلي عن فكرة العقاب، فهو ليس سبيلاً تربوياً سليماً وكل ما في الأمر أنه مريح للوالدين. لذا أقترح استبدال العقاب بتعليم الابن إصلاح الخطأ الذي ارتكبه كأن يحاول إصلاح الغرض الذي كسره مثلاً، أما بالنسبة إلى المشكلات الأكبر كتغيب المراهق المتكرر عن المدرسة فمن الأفضل اللجوء إلى الحوار، لأن سلوكه هذا يخفي مشكلةً تؤرقه ويجب على الأبوين معرفتها".
إيزابيل فيليوزات (Isabelle Filliozat): مختصة في علم النفس والعلاج النفسي ومؤلفة كتاب "لا يوجد والد مثالي" (d’Il n’y a pas de parent parfait).
كزافييه بوميرو (Xavier Pommereau):
"يجب أن تهدف العقوبة إلى علاج الخلل"
"من الجيد استخدام فكرة العقاب لتعليم الطفل حدوده شريطة ألا تكون العقوبة هي الغاية بل الوسيلة لعلاج السلوك الخاطئ لدى الطفل أو المراهق. مثلاً سمحت لابنك المراهق بأن يتأخر خارج المنزل حتى العاشرة مساءً ولم يعد حتى منتصف الليل، فتبدأ هنا بأن تناقش معه الأسباب المحتملة لتصرفه هذا وعواقبه، ثم تفرض عليه عقوبةً مناسبةً وهي مثلاً أن تكون مدة خروجه في المرات القادمة مقيدةً أكثر؛ كأن تشترط عليه العودة في التاسعة مساءً وليس منعه من الخروج لمدة شهر. من ناحية أخرى إذا كانت المسألة أعقد من ذلك؛ كأن يعود ابنك إلى المنزل فجراً مثلاً فإن العقوبة لن تحل المشكلة لأننا هنا أمام خلل في السلطة الأبوية، وقد يكون من المفيد الاستعانة بطرف ثالث فالسلوكيات الخاطئة البسيطة يمكن التعامل معها بالنقاش، خلاف ذلك فإن اللجوء إلى المختصين النفسيين قد يساعد على اكتشاف الأسباب العميقة للمشكلات الأكثر تعقيداً".
كزافييه بوميرو (Xavier Pommereau): مختص في طب نفس الأطفال ورئيس مركز آكيتاين للمراهقين (Aquitaine Center for adolescents) في مستشفى جامعة بوردو.
جيزيل جورج (Gisele George):
"لا تعاقب طفلك على درجاته الدراسية السيئة"
"إن عقاب الطفل الذي يواجه صعوبات مدرسية (الحصول على درجات سيئة أو فوات الدروس) لن يؤدي إلى أي تحسن. هل ستعاقب طفلك الذي يقع في أثناء تعلم ركوب الدراجة؟ حسناً، الأمر ذاته ينطبق على الدراسة فتحفيزه وتشجيعه يعززان الدافع العاطفي للتعلم لديه ولا يمنع ذلك انتقاده عندما يخطئ، فالموازنة بين التشجيع والانتقاد تساعد الطفل على بناء شخصية واثقة لا تخاف الاعتراف بأخطائها في سن الرشد".
جيزيل جورج (Gisèle George): مختصة في طب نفس الأطفال ومؤلفة كتاب "كيف تتعاملين مع طفلك المتمرد؟" (Mon enfant s’oppose. Que dire? Que faire?).
ستيفان كليرجيت (Stephane Clerget):
"بعض أنواع العقاب قد يكون مؤذياً"
لا مانع من معاقبة الطفل عندما يستوجب الأمر شريطة احترام سلامته فبعض العقوبات مؤذٍ وعلى الآباء تجنبه؛ مثل:
- حرمان الطفل من نشاط ضروري لنموه؛ رياضي أو ثقافي مثلاً.
- إهانة الطفل أي الاستهزاء به أو بما يفعله وهذا لا يمنع انتقاد سلوكياته.
- إنزال عقوبات جماعية فهي تثير الخصومات.
- العقوبات الانتقامية التي ترتكز إلى مبدأ المعاملة بالمثل، فهذه العقوبات تؤدي إلى تعزيز سلوكيات الطفل الخاطئة.
- تهديد الطفل بحرمانه من الحب.
ستيفان كليرجت (Stéphane Clerget): مختصة في الطب والتحليل النفسي للأطفال ومؤلفة كتاب "هكذا تجعل طفلك يطيعك" (Parents, osez vous faire obéir).
بياتريس كوبر روير (Beatrice Copper Royer):
"تجب مراعاة التوقيت المناسب للعقوبة"
"يجب أن تترافق العقوبة مع انتهاك قاعدة واضحة؛ مثلاً: "لا تخرج إلى الشرفة" فعندما يتجاوز الطفل هذه القاعدة (أي يخرج إلى الشرفة رغم التحذير) يجب أن تكون العقوبة فورية وحازمة. وكلما كان الطفل أصغر سناً وجب أن تكون المدة الفاصلة بين تصرفه والعقوبة أقصر، فتجب معاقبة الطفل البالغ من العمر 5-6 سنوات الذي يشغّل التلفاز خارج أوقات السماح بذلك على الفور؛ مثلاً بحرمانه من مشاهدته لباقي اليوم إذ إن عدم فرض العقوبة في وقتها المناسب سيؤدي إلى ضعف فعاليتها. أخيراً فإن فرض عقوبات كهذه على الأطفال لن يؤذيهم، حتى أنني سمعت أطفالاً يقولون: نحن لا نُعاقب بما فيه الكفاية!".
بياتريس كوبر روير (Béatrice Copper-Royer): مختصة علم النفس الإكلينيكي ومؤلفة كتاب "أطفالك ليسوا بالغين" (Vos enfants ne sont pas de grandes personnes).
سيرج تيسيرون (Serge Tisseron):
"احذروا الحرمان من ألعاب الفيديو!"
"يعتقد الآباء غالباً أن ألعاب الفيديو نشاط لا طائل من ورائه. في الواقع تسهم هذه الهواية في بناء الكثير من جوانب شخصية الطفل أو المراهق ولا سيما من ناحية التنشئة الاجتماعية من خلال مشاركة الآخرين اللعب عبر الشبكة. لذلك قبل حرمان المراهق من ألعاب الفيديو من الأفضل معرفة إذا كان عضواً في مجموعة على الشبكة لأن حرمانه من اللعب يعني غيابه عن المجموعة ومن ثم استبعاده منها. كما يمكن للأبوين التعرف إلى اللعبة التي يمارسها قبل اتخاذ أي خطوة فذلك سيشكل فرصةً لخلق حوار معه، لذا أعطِ ابنك وقتاً مثلاً ليحذر اللاعبين الآخرين بأنه سيغيب عن اللعبة أو عاقبه بحرمانه من لعب الألعاب الفردية، فهذه طرق سليمة لعقابه بذكاء".
سيرج تيسيرون (Serge Tisseron): مختص في الطب والتحليل النفسي ومؤلف كتاب "من يخاف من ألعاب الفيديو؟" (Qui a peur des jeux vidéo?).